علاقة عائشة بخديجة رضي الله عنهما

.الشيخ عادل يوسف العزازي
.الشيخ عادل يوسف العزازي

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنَت هالةُ بنت خويلد أختُ خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرَف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال:”((اللهم هالة))، قالت: فغِرتُ، فقلتُ: ما تَذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها؟!)[1]، وعند مسلم:”فارتاح” بدل “فارتاع”[2].

وفي رواية: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة،! وما رأيتُها،؛ ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرَها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثُها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأنَّه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة،! فيقول:”((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد”[3].

وعند مسلم:”((إني قد رُزقت حبها”،))، بدل:”((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد”[4].

قال النوويُّ رحمه الله:”فيه إشارةٌ إلى أن حبَّها فضيلة حصلَت”[5].

وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثَّناء، قالت: فغِرتُ يومًا، فقلت: ما أكثرَ ما تذكرها،! حمراء الشِّدق، قد أبدلك الله عز وجل بها خيرًا منها، قال:”((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها،؛ قد آمنَت بي إذ كفَر بي الناس، وصدَّقَتني إذ كذَّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرَمَني الناس، ورزَقني الله عز وجل ولدها إذ حرَمني أولاد النساء”[6].

وفي رواية عند الطبراني:”أثنى عليها، واستغفَر لها”[7].

ويلاحظ من خلال هذه النصوص ما يلي:

أولًا: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إنما ذكرَت هذه الأحاديث،َ في مَعرِض المدح والثناء على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.

وهذا ما قصدَته رضي الله عنها، من ذِكر استئذان هالة بنت خويلد أختِ خديجة رضي الله عنها، وتذكُّر النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة، وحنينه إليها.

يقول النووي رحمه الله في شرحه للحديث:(“فارتاح لذلك،؛ أي: هشَّ لمجيئها، وسُرَّ لتذكره بها خديجة وأيامها”)[8].

فهل رأيتم امرأة على وجه الأرض تذكر حنين زوجها لضرتها التي تزعمون أنها تكرهها؟! اللهم إلا أنها أرادت بذلك بيانَ فضل خديجة رضي الله عنها، والثناءَ عليها بمنزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم،؛ ولذلك نرى علماء الحديث يترجمون لهذه الأحاديث في فضائل خديجة رضي الله عنها.

ثانيًا: أن عائشة قد ذكرت تصريحًا لا تلميحًا سبب حنين النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بأنه “رُزق حبَّها،”؛ فعند مسلمٍ كما مرَّ معنا، عن عائشة رضي الله عنها قالت:( ما غرتُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها؛ قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول:((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة))! قالت: فأغضبتُه يومًا فقلت: خديجة! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:”((إني قد رُزقت حبها”)))[9].

سبحان الله،! هل سمعت يومًا بامرأة تصرِّح بحب زوجها لضرتها؟! والحقُّ يُقال: إنها لم تفعل ذلك إلا لحبِّها لخديجة رضي الله عنها،؛ إذ لو كانت تُبغِضها لم تَنشر فضائها ومنزلتها.

وفي رواية عند الطبراني:(“وكان إذا ذكَر خديجة لم يَسأم من ثناءٍ عليها، واستغفارٍ لها)”[10].

ثالثًا: اقرأ هذا الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (“لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت”)[11].

قال ابن حجر رحمه الله:(“وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليلٌ على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنَته عن غيرها، واختصت به بقدر ما اشترَك فيه غيرُها مرَّتين؛ لأنه عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عامًا، انفردَت خديجة منها بخمسةٍ وعشرين عامًا وهي نحوُ الثُّلثين من المجموع، ومع طول المدة فصَان قلبَها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها”)[12].

هكذا تذكر عائشة من فضل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما:

وترى أيضًا أن عائشة رضي الله عنها تَروي لنا حديثَ بدء الوحي، وقد ذكرَت لنا فيه موقفَ أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عندما دخلَ عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:”((زمِّلوني دثِّروني”))، فزمَّلوه، حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال:”((ما لي يا خديجة؟!))، وأخبرَها الخبر، وقال:”((لقد خشيتُ على نفسي”))، قالت له:”كلاَّ، أبشِر،؛ فوالله ما يخزيك الله أبدًا،؛ إنك لتَصِل الرحم، وتَصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق…” إلخ الحديث[13].

فهذا يدل على محبة أم المؤمنين عائشة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ لأنه كان يمكنها أن تَروي لنا القصة بدون ذِكر موقفها وكلامها الجميل الذي يدلُّ على رسوخها وإيمانها؛ لتربط به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتطمئنه وتبشِّره، أو كانت على الأقلِّ تُعرِّض بدون تصريح باسم خديجةَ رضي الله عنها.

فهل رأيت مديحًا وإطراء أعظم من هذا؟! لم تترك شيئًا من خيرَيِ الدنيا والآخرة إلا وذكرَتها به، وهي أهلٌ لذلك؛ رضي الله عنها وأرضاها.

فذكرَت من فضائلها من خلال هذه الأحاديث التي روَتها ما يلي:

(1) حنين النبي صلى الله عليه وسلم إليها.

(2) حبه صلى الله عليه وسلم لها.

(3) كثرة ذكره لها.

(4) ثناؤه عليها.

(5) استغفاره لها.

(6) إيمانها به إذ كفر به الناس.

(7) تصديقها له إذ كذبه الناس.

(8) مواساتها له بمالها إذ حرمه الناس.

(9) رزق ولدها إذ حرم ولد غيرها.

(10) لم يتزوج عليها حتى ماتت.

(11) بشَّرها ببيت في الجنة.

(12) تعهده صلى الله عليه وسلم لصديقاتها إكرامًا لها.

(13) ذكر مواقفها معه عند بدء الوحي.

ثالثًا: فهذه الفضائل التي تَنشُرها عائشة رضي الله عنها لخديجةَ رضي الله عنها أكبرُ دليل على محبة عائشة لها، وأنه لا يوجد في قلبها أدنى ضغينة،؛ إذ كيف يُعقَل أنها تُبغضها، ثم تنشر لها كل هذه الفضائل التي لولا عائشةُ رضي الله عنها ما عرَفنا عن هذه الفضائل المذكورة شيئًا؟!

فهل علمتم مدى حبِّ عائشة لأم المؤمنين خديجة، واحترامها لها وذِكرها لها بكل خير؟!

أما الغيرة، فنعَم؛ لا أحد ينكر غيرتَها من خديجة رضي الله عنها، وقد صرَّحَت نفسُها بذلك رضي الله عنها، وهذا من تمام صدقها وأمانتها، فلا يكون ذلك نقيصةً، بل إنها تُمدح رضي الله عنها لأنها مع الغيرة الشديدة التي كانت تَغارها، لم يحملها ذلك على أن تتصرف تصرفًا يخالف الشرع، أو أن تمتنع عن نشر فضائل خديجة، بل إنَّ هذه الغيرة كانت هي السببَ أن تعرف مكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لَمَّا قالت له: قد أبدلَك الله خيرًا منها.، عارضَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:”((ما أبدلني الله خيرًا منها”))؛ ثم ذكَر ما ذكر من فضائلها.

رابعًا: قد يقول قائل،: إنها صرَّحَت بغيرتها من خديجة، وهذا يدل على كراهيتها لها، فأقول: لكن الملاحظ هو أن أم المؤمنين إنما ذكَرَت غيرتها من خديجة؛ لتُبرز لنا مكانة خديجة عند النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: ما وقع لعائشة من الغيرة؛ إنما وقع لها في صِغر سنها وبداية شبيبتها.

قال النووي رحمه الله:(“قال القاضي: وعندي أنَّ ذلك جرى من عائشة لصغر سنِّها وأولِ شبيبتها، ولعلها لم تكن بلغَت حينئذ”)[14].

والغيرة مُسامَح للنساء فيها، قال ابن حجر رحمه الله:(“قولها ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ثبوتُ الغيرة، وأنها غيرُ مستنكَر وقوعها من فاضلات النساء؛ فضلًا عمَّن دونهن)”[15].

وقال أيضًا:”قال عياض: قال الطبري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها، ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة؛ لما جُبِلن عليه منها؛ ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة عن ذلك”[16].

أما الحديث الوارد عنها بلفظ:”ما حسَدتُ أحدًا ما حسدتُ خديجة”[17]، فإن المقصود من الحسد هنا هو “الغِبطة”؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا حسد إلا في اثنتين…)الحديث؛ متفق عليه، وليس الحسدَ المذموم الذي هو بمعنى تمنِّي زوال النعمة، بل إنها رضي الله عنها ما ذكرَت هذا الحديث أيضًا إلا لتبيين فضيلة لخديجة رضي الله عنها؛ فإن لفظ الحديث بتمامه:”ما حسدتُ أحدًا ما حسدت خديجة، وما تزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما ماتت؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّرَها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب”[18]. ومعنى:”قصب”؛ أي: قصَب اللُّؤلؤ.

فانظر – رحمك الله – كيف توصَّلَت ببلاغة لفظها إلى بيان ما أعدَّ الله لخديجة رضي الله عنها في الجنة، لو كان ذلك من الحسد المذموم لما نقلَت فضائلها بين الأمة، تتناقلُها الأجيال جيلًا بعد جيل.

——————————————————————————–

[1] البخاري (3610)، ومعنى:”فعرف” أي: تذكر،”فارتاع لذلك”: تغير واهتز سرورًا بذلك، و”حمراء الشدقين”: الشدق جانب الفم، أي: سقطَت أسنانها فلم يبق فيها بياض الأسنان، ولم يبق إلا حمرة اللثة.

[2] مسلم (2437).

[3] البخاري (3607)، والترمذي (2017)(3875)، و”صدائق” جمع صديقة.

[4] مسلم (2435).

[5] شرح النووي لصحيح مسلم (15/206).

[6] رواه أحمد (1/117)(24908)، وقال الشيخ شعيب: حديث صحيح، وهذا سند حسن. وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد”(9/362): إسناده حسن.

[7] رواه الطبراني في الكبير (23/13).

[8] شرح النووي (203).

[9] مسلم (2437).

[10] الطبراني في “الكبير”(23/13).

[11] مسلم (2436)، والحاكم (3/305).

[12] فتح الباري (7/127).

[13] البخاري (2)(6581)، ومسلم (160).

[14] مسلم بشرح النووي 15/202.

[15] فتح الباري 7/136.

[16] الفتح 7/140-141.

[17] رواه الترمذي (3876)، وحسنه، والنسائي في الكبرى (8362)، والحاكم (4854)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3051).

[18] انظر التخريج السابق.