دروس مستفادة من سورة البينة……الدكتور / أسامة صابر 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

وبعد فإن القرآن الكريم منبع النور والهداية والفرقان والحكم الفصل الذى (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )، فمع سورة عظيمة من سوره هى سورة البينة نقف على بعض الفوائد والدروس المستنبطة منها

 القرآن يؤخذ بالتلقى: فقد تلقى أبى بن كعب رضى الله عنه هذه السورة من فى النبى صلى الله عليه وسلم

فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب: (إن الله أمرنى أن أقرأ عليك : (لم يكن الذين كفروا)، قال: وسمانى لك ؟ قال: (نعم) فبكى. (1)

وقد قرأها عليه النبى صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار وزيادة فى إيمانه وليعلم أن عرض القرآن سنة (2)

 

 ضلال أهل الأرض قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم: فأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى دعوا للرحمن ولدا وبدلوا دين موسى وعيسى واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، والمشركون وهم عباد الأوثان والأصنام والنيران كانوا فى ضلالهم وكفرهم

فى حديث حمار بن عياض المجاشعى يقول النبى صلى الله عليه وسلم: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) (3)

ولم يكن هؤلاء منفكين أى (منتهين) عما هم فيه من غى وكفر حتى تأتيهم البينة

 

 ما هى البينة؟ فسرها الله عز وجل بقوله (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة) فالبينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلوه من كلام الله لأنه كان يتلوا القرآن عن ظهر قلب لا عن كتاب (4) ، بعثه الله هداية للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه

 

 القرآن قيم لا عوج فيه: (فيها كتب قيمة) كقوله تعالى: (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما)، قال ابن جرير : (أى فى الصحف المطهرة كتب من الله قيمة، عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عز وجل) (5)

 

 التحذير من التفرق والاختلاف والضلال بعد العلم: أخبر الله عز وجل عن تفرق أهل الكتاب فى دينهم مذاهب وأهواء شتى  وعن تفرقهم بعد بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فمنهم من آمن به ومنهم من كفر قال تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) (سورة البينة:4)، وقد حذرنا الله من هذا الاختلاف والتفرق، (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)(آل عمران:105) وحذرنا النبى صلى الله عليه وسلم من هذا التفرق فى الدين وأرشدنا إلى طريق النجاة  فعن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال:( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان فى النار ، وواحدة فى الجنة وهى الجماعة) (6)

وورد بلفظ (…وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين ملة كلهم فى النار إلا ملة واحدة، ومن هى يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابى) (7)

 

 أصل الشرائع توحيد الله عز وجل: قال تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) (البينة: 5) قال الشوكانى رحمه الله: ( والحال أنهم ما أمروا فى كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه حال كونهم (مخلصين له الدين) أى جاعلين دينهم خالصا له سبحانه، أو جاعلين أنفسهم خالصة له فى الدين) (8)

وهذا كقوله تعالى: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء:25)، وكقوله تعالى: (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (سورة النحل:36)

 

 من هم شر الخلق؟ بينت السورة ذلك وأوضحت مصيرهم فى قوله تعالى:( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) وقال تعالى (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) (الأنفال:55) فالكفار وإن تقدموا فى مظاهر الحياة المادية فهم شر البريئة، (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)(الروم:7)

 

من هم خير الخلق؟ قال تعالى:(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) فكل من آمن بقلبه وعمل الصالحات بجوارحه فهو من الأبرار الذين هم خير البرية وهم طبقات أربع بينها الله تعالى فى قوله: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (النساء69)

تحذير من حديث مكذوب وضعته الشيعة من حديث جابر قال: (كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل على فقال النبى صلى الله عليه وسلم: والذى نفسى بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) (9)

 

 رضا الله عز وجل أعظم الجزاء: بين الله عز وجل جزاء البرار فقال: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها النهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم) (البينة:8) فكان رضاه عنهم أعظم من الجنة

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا).(10)

وقال تعالى :(ورضوان من الله أكبر) (التوبة:72)

 

الرضا بالله والرضا عن الله: الرضا بالله ربا فيطمئن القلب لذلك ويسلم وكان من السنة أن نقول بعد كل أذان (رضيت بالله ربا ) وبهذا يكون ممن ذاق طعم الإيمان

وأما الرضا عن الله فمن جانبين:

الرضا عن أقداره : قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِي فله الرِّضا، ومن سخطَ فله السُّخْطُ) (11)

والرضا عن شرعه وحكمه فيذعن له وينقاد ، قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65)

 

خشية الله عز وجل أصل كل خير وفلاح: فهى الرادعة عن الذنوب والمعاصى والباعثة للأعمال الصالحة، والخشية هى خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم (12)، ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله، كما قال تعالى:

(فاطر: 28 إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بالقرآن الكريم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

 

 

1 صحيح البخارى، مناقب الأنصار، باب مناقب أبى بن كعب رضى الله عنه (ح 3809)، وصحيح مسلم، صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل (ح 799).

2 تفسير ابن كثير ط دار ابن الجوزى 7/ 622.

3 صحيح مسلم 7386

4 تفسير البغوى (معالم التنزيل) ط دار ابن حزم 1425

5 تفسير الطبرى (جامع البيان عن تأويل آل القرآن) ط دار إحياء التراث العربى 30/318

6 رواه أحمد فى المسند 4/102 ،و أبو داود (4597)، والحاكم (443) وصححه، وحسنه ابن حجر وصححه ابن تيمية والشاطبى والعراقى

7 رواه الترمذى (2641) وصححه الألبانى

8 فتح القدير للشوكانى ط الرسالة العالمية 2081

9 السلسلة الضعيفة للاألبانى (4925)

10 البخاري (6549) ، ومسلم (2829

11 التِّرْمِذِيُّ (2396 ) وحسنه الألبانى

12 التفسير الثمين للعلامة العثيمين ط  مجمع البحرين ومكتبة الطبرى 6/600