إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه.

أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخير الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَر الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُل بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و(لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).

أيها المسلمون: هذا هو تعظيمُ السَّلَف الصالح لعشرِ ذي الحجَّة، فَمَا هو تَعْظِيمُنا لعشرِ ذي الحِجَّةِ؟ الكثيرُ لا يُحرِّكُ ساكناً، والأكثرُ لم يَقُم الأمرُ عندَهُ ولم يَقْعُد، مِن مظاهرِ ذلكَ مَثَلاً: هجرُ سُنَّةِ التكبيرِ المطلقِ، وهي من شَعَائرِ عشرِ ذي الحِجَّةِ، وعلى الرَّغم من أنَّ أيام عشر ذي الحِجَّةِ أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل، إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيءٌ مِمَّا يحصل في رمضان، من النشاط في عَمَلِ الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختُصَّ رمضان بما لم تُختص به العشر، ومن ذلك: وقوع فريضة الصوم فيه، وهي فريضة العام على كُلِّ مسلم، مع ما يكون فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلاف الحج فهو فريضة العمر، وأيضاً: ارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جَعَلَهُ شهر القرآن، وذلك له أثرٌ كبيرٌ في إقبالِ الناسِ فيه على كتاب الله الكريم، وأيضاً: الترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قيامه وإحياءِ العشر الأواخر، وتحرِّي ليلةِ القدرِ، وهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًّاً مُتمَيِّزاً تنقلبُ حياةُ الناسِ فيه، وتتغير أيًّاً كان نوع ذلك التغيُّر، وأيضاً: ما يَحصُلُ في رمضان من تصفيد الشياطين ومَرَدَةِ الْجنِّ، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النيران، مما يكون له أعظمُ الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها، فيكون ذلك حافزاً للعُلَماءِ والدُّعاةِ والأئمةِ والخطباءِ ليُخاطبوا قُلُوبَ الناس ما دامت مُقبلةً على الخير، كُلُّ ذلك وغيرُه يجعل عشر ذي الحِجَّةِ ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من المعونة على الخير كما يحصل في رمضان، والْمُوفَّق مَنْ وفَّقهُ الله، فشمَّرَ وجَدَّ واجتهد.

ولذلك فإنَّ من أعظمِ ما يُعينُكَ على التشميرِ والجدِّ في العمل الصالح في العشر: الإكثارُ من ذِكرِ اللهِ وتكبيرهِ، وقد أَمَرَ الله بهِ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، وقال: ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، وقال: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [المدثر: 3]، فذكْرُ اللهِ هو الْحِصْنُ الحصينُ الذي يَحْرِزُ الْمُسْلِمُ نفْسَهُ فيهِ مِنْ شرِّ نفسهِ وشرِّ شياطينِ الإنسِ والْجِنِّ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (وآمُرُكُمْ بذِكْرِ اللهِ كَثِيراً، ومَثَلُ ذِكْرِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعاً في أَثَرِهِ، حتَّى أَتَى حِصْناً حَصِيناً فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فيهِ، وكَذلكَ العَبْدُ لا يَنْجُو مِنَ الشَّيْطَانِ إلاَّ بذِكْرِ اللهِ) رواه ابنُ خزيمة وصحَّحهُ.

قال ابنُ القيِّم: (فلوْ لَمْ يكُنْ في الذِّكْرِ إلاَّ هذهِ الخصلةُ الواحدةُ لكانَ حقيقاً بالعبدِ أنْ لا يَفْتُرَ لسانهُ من ذكرِ اللهِ تعالى، وأن لا يزال لَهِجَاً بذكرِهِ، فإنه لا يُحْرِزُ نفْسَهُ مِنْ عَدُوِّهِ إلاَّ بالذكْرِ، ولا يَدْخُلُ عليه العدُوُّ إلاَّ من بابِ الغفلةِ، فهوَ يَرْصُدُهُ فإذا غَفَلَ وَثَبَ عليهِ وافترسَهُ، وإذا ذَكَرَ اللهَ تعالى انْخَنَسَ عدوُّ اللهِ تعالى وتصَاغَرَ وانقَمَعَ) انتهى.

وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: («ما عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عذابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ»، قالُوا: ولا الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قالَ: «ولا، إلاَّ أنْ تَضْرِبَ بسَيْفِكَ حتَّى يَنْقَطِعَ»، ثلاثَ مَرَّاتٍ) رواه الطبراني في الكبير، وحسَّنَ إسنادَهُ ابن حجر.

قال الصنعاني: (فذكْرُ اللهِ مِنْ أَعْظَمِ أسبابِ النَّجَاةِ مِنْ مَخَاوِفِ عَذابِ الآخِرَةِ، وهُوَ أيضاً مِنْ الْمُنْجِيَاتِ مِنْ عَذابِ الدُّنيا ومَخَاوِفِهَا، ولذا قَرَنَ اللهُ الأَمْرَ بالثَّباتِ لقِتَالِ أعدائِهِ وجِهَادِهِمْ بالأَمْرِ بذِكْرِهِ، كمَا قالَ:(إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وغَيْرُهَا مِنْ الآياتِ والأحادِيثِ الوارِدَةِ في مَوَاقِفِ الجِهَادِ) انتهى.

قال ابنُ عبد البرِّ: (وفَضَائِلُ الذِّكْرِ كثيرَةٌ جِدَّاً لا يُحِيطُ بهَا كتابٌ، وحَسْبُكَ أنهُ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلاةِ، قالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45]، (فحَسْبُكَ بما في الكِتَابِ والسُّنَّةِ مِنْ فَضْلِ الذِّكْرِ، وفَّقَنَا اللهُ وحَبَّبَ إلينا طاعَتَهُ، وأَعَانَنا عليها بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، آمِينَ) انتهى.