1/مساوئ النظرة القاصرة للأمور والمواقف

2/مفاسد الأحكام غير المنضبطة على الأشياء

3/ضحايا النظرة العوراء القاصرة

4/وجوب النظرة الشرعية الشاملة للأمور

5/نصيحة ووصية قبل اتخاذ القرار.

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا خير أمة أخرجت للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبيّ الهدى ورسول السلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليمًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، فمن اتقاه وقاه وكفاه ورزقه من حيث لا يحتسب.

 

ما أجمل النظر بكلتا العينين، فبها تجمل النظرة، وتتضح الصورة، وأما النظر بعين واحدة فيُورِث غبشاً في الرؤية وخللاً في الصورة وظلمًا للحقيقة.

 

إن أسوأ ما يقترفه الإنسان في تحديد مواقفه هو النظر بمنظار واحد، والميل إلى جانب واحد، وإصدار الحكم، وتحديد الموقف بناء على هذه النظرة العوراء، والتي أورثت غلوًّا أو جفاءً وتفريطًا أو إفراطًا وثمرتها ظلم النفس والناس والمجتمع.

 

النظرة العوراء زلَّ بها قومٌ في علاقتهم مع الله فتعلقوا بالرجاء وحده فوقعوا في الأمن من مكر الله، وتساهلوا في محارم الله، وآخرون تعلقوا بالخوف وحده فأيسوا من رحمة الله وذبلت هِمَمهم عن المنافسة في طاعة الله. والحق والعدل هو النظرة الشاملة التي تجعل الخوف سوطًا يقود النفس لطاعة الله، ويزجرها عن معاصي الله، ويأخذ من الرجاء ما يدفعه للمنافسة في الخيرات ويُرَغِّبه في الجنات؛ قال علي -رضي الله عنه-: “ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟؛ مَن لم يُؤيس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكره“.

 

النظرة القاصرة العمياء زلَّ بها أزواج في علاقتهم مع زوجاتهم وزوجات في علاقتهن مع أزواجهن حينما ينظر طرفٌ إلى أخطاء الطرف الآخر وزلاته، ويضعها في منظار الهوى ويتعامى عن زاوية المزايا والفضائل والإيجابيات، ويحكم عليه من خلال هذه النظرة الظالمة، والمنهج الشرعي “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها خُلقًا آخر“.

 

هذه النظرة القاصرة أوقعت أقوامًا في سراديب اليأس والقنوط حينما ينظرون إلى مجتمعهم من زاويته السلبية، وما فيها من صور مؤسفة للمنكرات والأخطاء، وما تحويه من تبرّج وتمرّد بعض النساء، وما يراه من جهود أعداء الدين في محاربته والنَّيْل من دعاته.

 

وإن أخطر ما يواجهه المجتمع هو وجود فئة من الأخيار تنظر إلى المجتمع من هذه الزاوية وتركز النظر على جوانب الخلل والتقصير وتتغاضى وتتعامى عما في المجتمع من خير كثير.

 

وليس أضرّ على المجتمعات من أن يتسرب اليأس إلى أفرادها أو يصيبهم الوهن والضعف؛ بسبب محنة أو ابتلاء (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:139]، ليس شيء أضرّ على الناس من إغفال جوانب الخير فيهم، وبثّ اللغة التشاؤمية في صلاحهم والتركيز على ذِكْر معايبهم ومواطن التقصير عندهم.

 

إنه ولكي ندفع الناس إلى تصحيح الخطأ والاستمرار في الصواب فلا بد أن نكون مُبَشِّرين لا مُنفِّرين، ولا بد من التحلّي بالصفات التي تستدعي الاستئناس والارتياح والتحبُّب وبثّ الأمل في القلوب، والبعد عن أساليب التنفير ودواعي الانقباض، حتى في التخويف من الله والترهيب من النار، والإنسان في حالات القلق والاضطراب محتاج إلى ما يزيل عنه دواعي الاضطراب.

 

أفبعد هذا يقبل أحدنا لنفسه أن يكون مصدر شؤم ومنبع تخذيل أو إحباط أو تنفير أو قتل للقدرات؟ أم نُشيع البُشْرَى وننشر التفاؤل ونحيي النفوس ونحرّض على الخير ونُعِين على المعروف ونستنهض الهمم، ويكون كل منا مبشرًا لإخوانه يحيي فيهم الأمل ويدفعهم إلى مزيد من العمل.

 

إن النقد العلمي الموضوعي المعتدل لواقع المجتمع مطلب لا بد منه، لكن الإفراط في استخدام هذا الأسلوب ينطوي على محاذير؛ منها: نسيان محاسن الناس وإيجابياتهم، فهم وإن قصروا في أمور فقد أحسنوا في أمور أخرى.

 

كما أن هذا الأسلوب يُخْرِج جيلاً فاقدًا للثقة في نفسه محطّم الآمال يشعر أنه مجموعة من متراكمة من الأخطاء، بل إنه ربما يُشكِّك في صدق انتمائه وصلاحه؛ إذ هو لا يسمع إلا النقد والتقريع، وجيل يعيش هذه النفسية سيكون بعيدًا عن المزاحمة في ميادين العمل والبذل والعطاء.

 

أيها المسلمون: وهذه النظرة القاصرة العوراء أوقعت فئة من الناس بالظلم في أحكامهم على غيرهم؛ رأينا صورًا من تتبُّع العثرات وعدم الموازنة بين الهفوات والفضائل الكثيرة، بل وغمر تلك الفضائل العظيمة من أجل زلة وقع بها، ورأينا الطعن في النيات والمقاصد، والمنصفون فقط هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر، ولا يبخسونه حقه ولو كان الموصوف مخالفًا لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء؛ فكيف إذا كان من إخواننا وعلمائنا ودعاتنا ممن لا نتهمهم في عقيدتهم أو سلوكهم.

 

فما أجمل العدل والإنصاف!، وما أعظم أن تبني أحكامك ومواقفك على نظرة شاملة لا قاصرة!، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

ثمة فئة أخرى هي ضحية للنظرة العوراء القاصرة والتي تبصر جانبًا وتترك جوانب.. أولئك هم الغافلون عن نِعَم الله المزدرون لآلاء الله والذين يفكرون في المفقود ولا يتبصرون في الموجود. يتطلعون إلى ما عند أهل الدثور والقصور، ويغفلون أن لهم عينين ولسانًا وشفتين ويَدَيْن ورِجْلَيْن وكليتين ورئتين.. لا يفكرون فيما تنطوي عليه بعض هذه القصور من هموم وغموم وابتلاءات هم قد سلموا منها.

 

كل تفكير أحدهم: يا ليت لنا مثل ما أوتي فلان إنه لذو حظ عظيم، وتناسوا أن “من بات آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها“، والنظرة الشرعية الشاملة لنِعَم الله تتمثَّل في قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: “لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم”، قال السعدي: “فمتى استدام العبد هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خلقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيرٌ منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق وخَلْق وخُلُق؛ فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمد لله الذي أنعم عليَّ وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.

 

ينظر إلى خلق كثير ممن سُلبوا عقولهم فيحمد ربه على كمال العقل. ويشاهد عالمًا كثيرًا ليس لهم قُوت مدَّخَر ولا مساكن يأوون إليها وهو مطمئن في سكنه موسَّع عليه في رزقه.. ويرى خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا بأنواع الأمراض وأصناف الأسقام وهو معافًى من ذلك مسربل بالعافية.

 

ويشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا ببلاء أفظع من ذلك بانحراف الدين والوقوع في قاذورات المعاصي، والله قد حفظه منها أو من كثير منها.. ويتأمل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمّ وملَكَهم الحزن والوساوس وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء ومنَّة الله عليه براحة القلب حتى ربما كان فقيرًا يفوق بنعمة القناعة وراحة القلب.

 

كثير من الأغنياء، ثم مَن ابتُلِيَ بشيء من هذه الأمور يجد عالمًا كثيرًا أعظم منه وأشد مصيبة؛ فيحمد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويُوجَد مكروه أعظم منه، فمن وُفِّق للاهتداء بهذا الهدي النبوي لم يزل شكره في قوة ونموّ، ولم تزل نِعَم الله عليه تَتْرَى وتتوالى”.

 

وبعد يا عبد الله: قبل أن تقرِّر وتحكم وتُحدِّد موقفك؛ فَكِّر ثُم قَدِّر، ثُم فَكِّر، ثم قدر، وانظر بجميع بصائرك وأبصارك ولا تنظر بعين الهوى والعاطفة، واحكم على الأشياء والأشخاص وعلى تصرُّفاتهم بالنظر إليها من جميع الزوايا؛ فبذلك تسلم وتغنم ويسلم لك دينك ويرتاح قلبك، وتحفظ أسرتك، وتعيش في أمل وانشراح وسعادة وارتياح، وبذلك تسلم من عثرات الحياة وتبعات ما بعد الممات.

 

اللهم صلِّ وسلِّمْ..