عناصر الخطبة

1/الحياة الدنيا لا تدوم على حال

2/الدنيا دار ممر لا دار مقر

3/الدنيا دار عمل شريف لا تنافس دنيء

4/وسطية الإسلام

5/نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ: فإن أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومَنْ شذَّ عنهم شذَّ في النار.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ المرءَ في حياته ومعاشه، يتقلَّب بين خيرٍ وشرٍّ، ورخاءٍ وشظَفٍ، وفَتْحٍ وإغلاقٍ، وعُسْرٍ ويُسْرٍ، ومدٍّ وجَزْرٍ، هكذا هي الحياة، أيامٌ دُوَلٌ، تتقلَّب فلا تدوم على حال، فإن مَنْ سرَّتْه حالٌ ساءته أحوالٌ، والنسيم لا يهب عليلًا على الدَّوام، ولو نظَر إلى أمسه فسيراه قد فات، فلا يستطيع ردَّه، ولا يشعر بلذَّتِه التي مضَتْ، وينسي ألمَ حزنه الذي انقضى، ولو نظَر إلى غده فسيراه مجهولًا، فهو ليس على ثقة منه؛ لأنه لا يدري ما الله قاضٍ له فيه، فلا يرى حينئذ بين يديه إلا يومَه الذي يتنفَّس فيه ويسمع ويُبصِر، فصارَت محصِّلتُه من ذلكم أنَّ أمسَه أَجَلٌ، ويومَه عملٌ، ومستقبلَه أملٌ، وهو في مثل هذه الحال أحوجُ ما يكون إلى أن يستحضِر في نفسه وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمرَ حينَ قال له: “كُنْ في الدنيا كأنَّكَ غريبٌ، أو عابرُ سبيلٍ”، ويستحضر في نفسه أيضا وصيةَ ابن عمر بعد تنفيذه وصيةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال قولة العارف المجرِّب: “إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حياتكَ لموتكَ“(رواهما البخاري).

 

إنها الدنيا -عبادَ اللهِ-، دارُ الممرِّ لا دار المقرِّ، والناسُ فيها صنفانِ: مَنْ باع نفسَه فأَوْبَقَها، ومَنِ ابتاعَ نفسَه فأعتَقَها، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الِانْشِقَاقِ: 6]، إنها لَدارٌ أولُها عناءٌ، وآخِرُها فناء، حلالُها حسابٌ، وحرامها عذاب، مَنِ استغنى فيها فُتِنَ ومَنِ افْتَقَرَ حَزِنَ، فإن ذوي الألباب إذا امتَحَنوا الدنيا تكشَّفت لهم حقيقتُها بعدَ إغراءٍ، وأن اللَّهثَ وراءها مغبتُه عناءٌ، وكم مِنْ مُغرَم بطِلَابِها زوَّرت له خصومًا في ثياب أصدقاء.

 

هذه هي حقيقة الحياة -عبادَ اللهِ-؛ تقلُّبٌ وغِيَرٌ ونوائبُ وزوالٌ، لا دوامَ فيها ولا بقاء، فما جعَل اللهُ الخُلْدَ فيها لبَشَر قطُّ، وإن دنيا هذه صفتُها ليست جديرةً بأن يشغل العبدُ نفسَه بها، عمَّا هي أدومُ منها وأبقى، ولا أن يُطلِق لعينيه العِنانَ، يمدُّهما إلى ما متَّع الله به أزواجًا منهم، زهرةَ الحياة الدنيا ليفتنهم فيه، ولا تستحقُّ أن يوالي عليها أو يعادِي، ولا أن يخاصِم ويناكِف، ولا أن يتحسَّر عليها حتى يكونَ حَرَضًا أو يكون مِنَ الهالِكينَ؛ فإنَّها -واللهِ وباللهِ وتاللهِ- ما كَمُلَتْ لأحدٍ إلا نَقَصَتْ، ولا اتسعت له إلا ضاقت، وما سرت أحدا إلا أحزنته، وما أضحكته إلا أبكته، وإنها مهما كبرت فهي صغيرةٌ، ومهما طالَت فهي قصيرةٌ، وما هي إلا كما قال اللهُ -جلَّ شأنُه-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الْحَدِيدِ: 20]، فما الظن -عبادَ اللهِ- بما نهايته اصفرارٌ وحطامٌ، مهما سبقهما من زينة وتفاخر وتكاثر، إنها كما قال عنها نبينا -صلى الله عليه وسلم-: “لو كانت الدنيا تَعدِل عندَ اللهِ جناحَ بعوضة ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ“(رواه الترمذي).

 

عبادَ اللهِ: الدنيا مسرحُ الحياة وعَرَصَاتُها، جعَلَها اللهُ ذلولًا للنَّاسِ ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه، ولا يُسرِفوا فيها، ولا يَجعلُوها أكبرَ هَمِّهم، ولا مبلغَ علمِهم بالتنافُس فيها، والاقتتالِ عليها، والتياثِهِم بما خَشِيَهُ عليهم نبيُّ الرحمة والهدى؛ فإنه لَمَّا قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ إلى المدينة بِمَالِ الجزيةِ سَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْهُ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ“(رواه البخاري ومسلم).

 

لقد قصَد -بأبي هو وأمي، صلوات الله وسلامه عليه-، التنافسَ الموغِل، الذي يُبعد ولا يُقرِّب، ويُلهِي ولا يُعِين، ويُقَسِّي ولا يُلَيِّن، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33]، لقد قالها مَنْ خَلَقَها، وهو أعلمُ بها منَّا، فإيَّاكم وما شغَل من الدنيا عبادَ اللهِ؛ فإنها كثيرةُ الأشغالِ، لا يَفتَح رجلٌ على نفسه بابَ شغل فيها إلا أوشَك ذلك البابُ أن يَفتح عليه عشرةَ أبوابٍ، حتى يخرج منها صِفْرَ اليدينِ، كمعيِّد القريتينِ.

 

إنه لَمَّا تأمَّلَ سلفُنا الصالحُ حقيقةَ الدنيا وجَدُوا أنها مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومشموم، فأشرفُ المطعوماتِ العسل، وهو مِجاجُ نحلةٍ صغيرةٍ، وأشرفُ المشروباتِ الماءُ، ويستوي فيه البَرُّ والفاجرُ، وأشرفُ الملبوساتِ الحريرُ، وهو نسجُ دودةٍ حقيرةٍ، وأشرفُ المركوباتِ الفَرَسُ، وعليه يُقتَل صناديدُ الرجالِ، وأشرفُ المشموماتِ الْمِسْكُ، وهو دمٌ في سر غزال، قال أبو الدرداء: “مِنْ هوانِ الدنيا على اللهِ أنها لا يُعصَى إلا فيها، ولا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلا بتركها“.

 

الدنيا والآخرة -عبادَ اللهِ- كالضرتين، فبِقَدْر ما تُرضي إحداهما تُسخِط الأخرى، ألا أنها لم تذكر أمام الآخرة إلا كانت مذمومة، ولا فضَّلها أحدٌ على الأخرى، إلا كانت عاقبته مشؤومةً، فمِنْ ذلك قول الله -جل وعلا-: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[الْأَنْفَالِ: 67]، وقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 32]، وقوله: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التَّوْبَةِ: 38]، وقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْقَصَصِ: 60].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمِنْ نفسي والشيطانِ، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمينَ والمسلماتِ، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلِّي وأسلِّم على خليله الداعي إلى رضوانه.

 

وبعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أن الإسلام دين الوسط، بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، وأن نظرة الإسلام إلى الدنيا كذلكم، فإنه لم يَذُمَّها، ولم يَدْعُ إلى هجرانها إلا إذا كانت فيما يُبعِدُ عن اللهِ والدارِ الآخرةِ، فإن ذلك خروج من دائرة الوسط، فإهمالُها مطلقًا ضِيقُ عَطَنٍ في النظرة إليها، والانغماسُ فيا مطلقًا اغترارٌ بها عن مغبَّتِها، والتنافُسُ فيها محفوفٌ بمخاطِرَ لا يتفطَّن لها كثيرٌ من المتنافِسينَ فيها، وإنما ذمَّ التنافسَ فيها؛ لأنه يُورِث الأَشَرَ، وبَطَرَ الحقِّ وغَمْطَ الناسِ، إنه التنافُسُ الملهي لا المعين، المنسِي لا المذكِّر، المؤخِّر لا المقدِّم، فكم شغَل التنافسُ عن واجباتٍ، وأَلْهَى عن مساعي الآخرةِ الباقياتِ، وكم فرَّق من مجتَمِع، وأنشأ مِنْ خُصُومات، وكم طمَس معاييرَ الإيثارِ والتآلُفِ، وكم قضى على صحة وشرَف وعَدْل وعاطفة، غيرَ أن المؤمنَ القويَّ فيها خيرٌ مِنَ المؤمنِ الضعيفِ، ومَنِ استعمَلَها فيما يُرضِي خالقَه جمَع بين خيرينِ، ثم إن ذمَّ التنافُسِ فيها لا يَعنِي حرمانَ المرء نفسَه ممَّا أفاءَ اللهُ عليه مِنْ نَعِيمِها؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال لعمر بن العاص: “إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً مِنَ الْمَالِ صَالِحَةً “. قَالَ عَمْرٌو: إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رغبةً فِي الْمَالِ، إنَّما أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، فَأَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: “يَا عَمْرُو، نَعِمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ“(رواه أحمد).

 

وكم -يا رعاكم الله- كان في الصحابة من الأغنياء الأثرياء، بل إن الثراء والغنى المستعملين في طاعة الله، لم يمنعا بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن يكونوا من العشرة المبشرين بالجنة؛ فإن أبا بكر -رضي الله عنه- منهم، وهو غني، وهو الذي قال عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: “مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ“(رواه أحمد)، ثم إن عثمان بن عفان من العشرة المبشَّرين بالجنة، وهو غني، وسعد بن أبي وقاص منهم وهو غني، والزبير بن العوام منهم وهو غني، وعبد الرحمن بن عوف منهم وهو غني، وطلحة بن عبيد الله منهم وهو غني، بل إن ثروته قد بلَغَت آنذاك ثلاثمائة مليون درهم، لكن أولئك أجمعينَ قد اتخذوا دنياهم في أيديهم، واتخذوا آخرتَهم في قلوبهم، ابتَغَوْا فيما آتاهم اللهُ الدارَ الآخرةَ، ولم ينسَوْا نصيبَهم من الدنيا، وأحسَنُوا كما أحسَن اللهُ إليهم.

 

ألا إنما الدنيا دارُ صدقٍ لِمَنْ صدَقَها، ودارُ نجاةٍ لِمَنْ فَهِمَ عنها، ودار غِنًى لمن تزوَّد منها، مهبط وحي الله، ومصلَّى ملائكته، ومساجدُ أنبيائه، ومتاجِرُ أوليائه، رَبِحُوا فيها الرحمةَ، واكتسَبوا فيها الجنَّةَ، قال لقمان لابنه: “يا بني، بع دنياك بآخرتك، تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعا“، وقال حذيفة بن اليمان: “ليس خياركم الذين تركوا الدنيا للآخرة، ولا الذين تركوا الآخرة للدنيا، ولكن خياركم الذين أخذوا من هذه وهذه“.

 

فهنيئًا -يا عباد الله-، لمن عرَف اللهَ فأطاعه، وعرَف الشيطانَ فعصاه، وعرَف الحقَّ فاتبعه، وعرَف الباطلَ فاتَّقاه، وعرَف الدنيا فلم تُلهِه، وعرَف الآخرةَ فلم تَفُتْهُ، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الْقَصَصِ: 83].

 

هذا وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية؛ محمد بن عبد الله، فقد أمرَكم اللهُ بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكتِه المسبِّحة بقُدْسِه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلَّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنورِ، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمَن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم ارفع وادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، يا ذا الجلال والإكرام.

 

عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.