النبوة والعقل!

د. هيثم طلعت

النبوة هي وسيلة المعرفة الصحيحة بالله ومعرفة مراده من خلقه، ولولا النبوة لما حصلت الهداية ولا حصلت معرفة غاية الوجود ولا المصائر بعد الموت ولا معنى الدنيا ككل!

لكن بعض الملحدة يزعمون أن العقل قد يُعوَّل عليه في الوصول إلى بعض المعاني الكلية للوجود.

وهذا خللٌ ظاهر فالعقل لا يستقل بالوصول إلى الهداية، وإلا ما اختلف المُعوِّلون على العقل وحده فهم مختلفون فيما بينهم أشد اختلاف.

فعندما تُرك الناس للعقل آمنوا بالله وآمنوا بالأصنام والأوثان وعبدوا الملوك وألحدوا وصاروا لاأدرية في آنٍ واحد!

فمعطيات العقل متفاوتة للغاية وتخريجاته مزعجة ومُربكة لأبعد ما نتصور!

فالعقل البشري لا يملك أي عتادٍ حقيقي يمنعه من التورط في صناعة الخرافة والأسطورة والوهم والهلاوس وقبول كل ذلك واعتباره حقائق!

يقول د. ثامر غشيّان: “بدون العودة بالعقل إلى وظيفته الأصلية ضمن أُطر ومسلَّمات يُؤمِّنها الوحي ويُحدد أبعادها الكتاب، بدون هذه العودة فإننا نظلم العقل وندخله ميادين ليست ميادينه وحروبًا ليست حروبه ثم بعد ذلك نلومه ونغضب عليه إذا عاد خائبًا منكسرًا حزينًا “. -1-
ثم تبّصر تاريخ الأمم وفلسفاتهم وثقافات المتقدمين والمتأخرين، وانظر هل وصلوا بالعقل وحده إلى نتائج مُرضية في مسألةٍ واحدة من المسائل الوجودية الكبرى –المسائل الوجودية الكبرى مثل: لماذا نحن هنا، وأين نحن إذا متنا، وماذا بعد الموت؟- أم عاد الجميع حائرين تائهين يترّصدون بابًا آخر يلِجوا منه لبحث الأجوبة؟

ألم يعترف ستيفن هاوكنج Stephen Hawking الفيزيائي الأشهر وفي أول صفحة من كتابه الأخير “التصميم العظيم the Grand Design” أن الفلسفة قد ماتت؟

لكن صراحةً الذي مات لم تكن الفلسفة، وإنما الاعتماد على العقل وحده في المسائل الوجودية الكبرى!

فالعقل بدون النبوات، كالعين بدون آلية الإبصار، وكالأذن بدون آلية السمع. {لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} ﴿١٧٩﴾ سورة الأعراف.

وقد حاول ديكارت Descartes (1637) أن يصل بالعقل وحده إلى مفردات معاني الوجود فاستخدم وسيلة الشك المنهجي الجذري، واستطاع بهذه الوسيلة أن يهدم معتقداته في كل شيء حتى الأفكار المُجردة، ثم بعدها أسس لفلسفة الكوجيتو cogito-أنا أُفكر إذن أنا موجود – أيضًا باستخدام العقل.

ثم بعدها انهار هذا الكوجيتو على يد ديفيد هيوم David Hume أيضًا باستخدام العقل.

وظهرت فيما بعد الحداثة التي أسّس لها كانط Immanuel Kant والتي بدورها ذابت على أعتاب ما بعد الحداثة post-modernism.

فالعقل يبني ويهدم .. يرفع ويخفض .. يُؤله ويُوثن .

ولم يعد ثمة إمكان لتأسيس الوعي والقيمة والمعنى للوجود باستخدام العقل المفرد.

ولذا يقول الدكتور عبد الحليم محمود -رحمه الله- شيخ الازهر السابق: “فالدين سفينة والعقل لوح خشب وقلّ من نجا بلوح خشب “.-2-

وقد كان أندريه جيدAndré Gide  المفكر الفرنسي الشهير ذكيًا، فعندما طلب منه طه حسين يومًا أن يسمح له بترجمة أعماله إلى العربية؛ رد عليه أندريه جيد مندهشـًا وقال: “يدهشني اقتراحك .. الإنسان المسلم يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة .” -3-

فالعقل الذي يعرف صفات الإله ويعرف الرسالة الإلهية يجد الأجوبة عن الأسئلة الكلية.  بينما الذي ينكر النبوات يطرح نسخًا لا نهائية للتصورات الوجودية -أي يستحيل أن ينجو ضمنيًا-.

ومن أجل ذلك يعترف الرازي في آخر مصنفاته بعد أن خاض في علوم الأوائل حتى الحلقوم، وتشّرب من الفلسفات حتى تضّلع ثم قال في النهاية: “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ومِن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. فنهاية إقدام العقول عقال.” -4-

نعم نهاية إقدام العقول بلا بصيرةٍ من وحيٍ عقال!

 فللعقول أقيسة لا نهائية لكل مسألة، وضروب متباينة متفاوتة. فكيف ينجو بعقله من رأى نسبية طرحه؟

يقول ابن قتيبة رحمه الله: “وقد كان يجب مع ما يدّعونه – في تقديسهم للعقل-من معرفة القياس وإعداد آلات النظر أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسّاب والمُسّاح والمُهندسون، لأن آلاتهم لا تدل إلى على عددٍ واحد، وإلا على شكلٍ واحد، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا؟

لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمرٍ واحدٍ.” -5-

فما أشد تشرذم الذين اعتمدوا العقل وحده في النظر!

وقد قال فيهم الغزالي -رحمه الله-: “فإن خبطهم طويل، ونزاعهم كثير، وآراؤهم منتشرة، وطرقهم متباعدة متدابرة.” -6-

ويرى الغزالي رحمه الله أن ردود أرسطو على أفلاطون دليل أنهم يحكمون بظنٍ وتخمين، ولو كانت علومهم العقلية متقنة البراهين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا كما لم يختلفوا في علومهم الحسابية. -7-

 

فالعقول متفاوتة. ولا إجابة إلا ببعثة الرسل فهي التي تحسم الخلاف بين العقول.

قال الماوردي: “إن قضايا العقول قد تختلف فيما تتكافأ فيه أدلتها فانحسم ببعثة الرسل”. -8-

وتفاوت العقول ليس لتفاوت الأفهام فحسب، ولا لتفاوت القدرات والملكات فقط. بل إن العقل ذاته يتغير في كل لحظةٍ. فانظر إلى نفسك في يومك وأمسك وغدك. وانظر إلى ما كنت لا تعقله ثم عقلته ثم ربما غدًا لفظته أو عقِلت غيره. فهذا حالك وأنت بعقلك لا بعقل غيرك تتقلب!

ف: “رحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة، وكل ما فيها خيرٌ مما يجمعون بعقولهم المختالة.” -9-

فالمبالغة في تقدير العقل كذب. وحجْب العقل عن التفكير والنظر قد يؤدي إلى الكفر {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ﴿١٠﴾ سورة الملك.

فللعقل ميدانه؛ وآليات العقل لها مسالكها التي تجيدها، لكن هذه المسالك في بحرها هي لا في بحر غيرها. فإذا خرجت بها عن بحرها إلى بحر غيرها غرقت وأغرقت.

ومثال ذلك أن: العقل قد يدل على الامتنان والشكر للرزّاق الوهاب فهذه دلالة عقلية من النظر في الموجودات وتبّصر النعم التي لا تحصى، لكن العقل وحده لا يدل على كيفية شكر الخالق سبحانه، ولا طريقة ذلك، ولاشروط وأوقات العبودية الحقة!

فبالنص الشرعي وحده تقوم الحجة وتُعرف الطريقة ويرتقي العُبَّاد ويذل المتكبرون.

قال الشهرستاني -رحمه الله-: “المعارف قد تحصل بالعقل، ولكنها لا تجب إلا بالسمع –الأدلة الدينية-.” -10-

فأنت لا تفهم ما يلزمك بعقلك. لكنك في الوقت ذاته تشعر بحاجتك إلى باريك وخالقك.

فهنا يكون العقل سابق والوحي سائق!

أضِف إلى ما سبق أن: العقل لا يدل على شيءٍ من الغيب ولا يعرف تفصيل الماوراء وجزئياته فضلاً عن مجمله فضلاً عن ثبوته أو نفيه!

قال ابن خلدون -رحمه الله- في مقدمته: “العقل … لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمعٌ في محال، ومثال ذلك مثال رجلٍ رأى الميزان الذي يُوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يُدرك.” -11-

فالعقل لا يرصد إلا في نطاق آليات محيطه؛ ولا يُرتجى منه غير ذلك!

لكن دعونا نتسائل: ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزءٍ معينٍ من العلوم في نطاق محيطك وأنت جاهلٌ بأعظم مطلوبٍ؟

ما فائدة أن تعرف شعورك بالامتنان لرازقك ولا تقوم بواجبك؟

ما فائدة أن تشهد آيات الخلق وشواهد الحق وحِكَم النِعم بعقلك، ثم لا تعرف ردة فعلك الأصلح تجاه ذلك وغاية وجودك؟

فأي تخلفٍ وانحطاطٍ معرفيٍ يريد أن يعيشه هؤلاء منكرو الرسالات؟

——————–

1- الفقرة من وحي كتاب”رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، د. ثامر بن ناصر، مكتبة الرشد”.

2- أنظر: “يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية”.

3- المراسلات مع أندريه جيد. رسالة من أندريه جيد إلى مترجم كتابه “الباب الضيق”، باريس في 5 يوليو 1945.

4- ثبوت النبوات ص318.

5- تأويل مختلف الحديث ص14.

6- تهافت الفلاسفة 76.

7- المصدر السابق ص76.

8- أعلام النبوة للماوردي 2-68.

9- الملل والنحل 2-252.

10- نهاية الإقدام للشهرستاني ص371.

11- المقدمة ص459.

ملحوظة: بعض الاقتباسات الورادة في هوامش هذا المقال من كتاب “”رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، د. ثامر بن ناصر، مكتبة الرشد”.