جهاد الطلب

 يقول الملحد: هل يوجد في الإسلام جهاد طلب؟
الرد:
في البداية؛ جهاد الطلب هذا فهم وليس نص، فلم ترد آية واحدة فيها لفظة “جهاد الطلب”، ولم ترد هذه اللفظة هكذا في أي حديثٍ صحيحٍ أو ضعيف أو حتى موضوع.

 

وبالتالي فمصطلح “جهاد الطلب” مبني على فهم وليس مبنيًا على نص وما بُني على فهم ينضبط بالفهم!
أُكرر: ما بُني على فهم ينضبط بالفهم.

وقد فهِم العلماء جهاد الطلب من سيرة الصحابة -رضوان الله عليهم-، وبما بشّر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من فتوحات البلدان وانتشار الإسلام في أصقاع الأرض.

والآن لنا وقفاتٍ هامة:
أولاً: هل كل ما في جهاد الطلب يُنسب للإسلام؟
هذا خطأ بداهةً! فكل تطبيق يُخالف النظرية لا يُمكنك أن تنسبه للنظرية.

وإلا فلم تكن إبادة مئات الآلاف من المسلمين العُزل في أفغانستان والعراق-التطبيق- إلا انطلاقًا من نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان-النظرية-.
ولم يتم تفريغ قارات بأكملها من البشر كالأمريكتين-التطبيق- إلا انطلاقًا من عبء الرجل الأبيض في نشر الوعي-النظرية-!
فمخالفة التطبيق للنظرية أمر وارد، والإفراط في فهم النظرية أو التفريط في فهمها كلها أمور متوقعة، فنحن بشر ولسنا بمعصومين وحين يتم التطبيق قد يظهر ما يخالف النظرية.

 

وقد خالف التطبيق النظرية منذ عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

وأقرب مثال على ذلك ما قام به خالد بن الوليد –رضي الله عنه- حين قتل ناسًا من بني جذيمة لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولوا صبأنا صبأنا، وأمر جنوده أن يقتلوا أسراهم فرفض ابن عمر-رضي الله عنه- وقال: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجلٌ من أصحابي أسيره، حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الأمر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين.
والحديث في صحيح البخاري.

فهنا خالد بن الوليد –رضي الله عنه- خالف النظرية –مجتهدًا- لكن لا يُنسب اجتهاده للنظرية.

مثال آخر على التطبيق المخالف للنظرية: حين قتل أسامة بن زيد-رضي الله عنه- رجلاً قال: لا إله إلا الله في معركة، فلما بلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال لأسامة بن زيد: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذاً. قال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله. قال فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
والحديث في البخاري أيضًا.

مثال ثالث: المرأة التي وُجدت مقتولةً في معركة، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- ما كانت هذه لتقاتل.
والحديث رواه الجماعة إلا النسائي.
فهذه كلها تطبيقات تخالف النظرية ولا تُنسب إلى النظرية.

بالمناسبة: نحن نقول لفظة”نظرية” تقريبًا للمثال وتيسيرًا للفهم. وإلا فالنص الديني قطعي الثبوت لا يحتمل ما تعنيه لفظة “نظرية” في اصطلاح المتأخرين فوجب التنويه.

ثانيًا: هل الإسلام دين مسالم؟
يقول المفكر الإسلامي طارق رمضان في مناظرته مع الملحد هتشنز: ” -الإسلام دين مسالم- هذه لفظة خادعة، فأي دين يتعامل مع بشر. وحين تتعامل مع البشر فأنت تتعامل مع العنف ومع السلام ومع أصنافٍ متفاوتة بشدة من البشر، فبطبيعة الحال سيتعامل الدين مع العنف وسيتعامل مع السلوك العدواني، فأن تتوقع من الدين ألا يتعامل مع هذه المسألة فأنت لا تعرف البشر -هذا حلم لا يمكن أن يحدث-، ولا توجد ديانة ولا فكرة ولا فلسفة ولا مذهب يتسم بشمولية المعالجة لقضايا الإنسان لا يتعامل مع العنف؛ وإلا فهو مذهب غير متكامل.
الإسلام يساعدنا للتوجه نحو السلام.
هذه هي العبارة الصحيحة، وهذه هي العبارة التي نوافق عليها!”

وقد عاش الجنس البشري في حاضرة الإسلام قرابة ألف عام، وقد أمدّ الإسلام المدن بالنور والعلم والخير والجمال، ونهضوا بعبء الحضارة فكان الناس يدخلون في الدين باضطرادٍ ثابت لما رأوا من عدل الإسلام وعظمته وكماله.

 

بل إنه حين فتح السلطان العثماني مراد الثاني مدينة سلانيك عام 1431 م جاءه وفد من مدينة (يانيا) التي كانت آنذاك تحت حكم إيطاليا، فقال رئيس الوفد للسلطان العثماني مراد الثاني: نحن أيها السلطان لسنا بمسلمين، بل نحن نصارى، ولكننا سمعنا كثيراً عن عدالة المسلمين، وأنهم لا يظلمون الرعية، ولا يُكرهون أحداً على اعتناق دينهم، وإنّ لكل ذي حقٍ حقه لديهم، لقد سمعنا هذا من السيّاح، ومن التجّار الذين زاروا مملكتكم، لذا فإننا نرجو أن تشملنا برعايتكم وبعطفكم، وأن تحكموا بلدنا لتخلصونا من حكامنا الظالمين. ثم قدّموا له مفتاح المدينة الذهبي. واستجاب السلطان لرجاء أهل مدينة (يانيا)، وأرسل أحد قواده على رأس جيشٍ إلى هذه المدينة، وتم فتحها فعلاً في السنة نفسها، أي في سنة 1431 م.

ومثال آخر أعجب من ذلك: حين فتح سعيد بن عثمان سمرقند صلحًا، فمات سعيد وتولى من بعده قتيبة بن مسلم ولاية خراسان ففتح سمرقند عنوةً دون أن يُخطرهم فقَبِل أهل سمرقند الأمر على مضض، حتى آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز سنة 99هـ وبلغهم عنه ما اشتهر به من العدل ونصرة الحق فأنابوا عنهم وفدًا يلقى الخليفة ويشكو له ما فعله بهم قتيبة، فاستقبل الخليفة الوفد واستمع إلى مظلمته ثم كتب إلى سليمان بن أبي السرح عامله على سمرقند كتابًا يدعوه إلى القضاء بالحق في تلك الظلامة، فأحال سُليمان القضية إلى جُميع بن حاضر قاضي سمرقند.

واستمع القاضي إلى شكاية أهل سمرقند وإلى شهادة الناس وجيش قتيبة. وعندما استبان القاضي الحقيقة أصدر حكمه المجلجل الذي قضى بإخراج الجيش المسلم من سمرقند، وكذلك إخراج المسلمين الذين دخلوها بعد الفتح، وهنا أخطر الوالي الخليفة بالقرار فجاء الرد بتنفيذ الحكم كاملاً، فأصدر قراره إلى الجيش بالرحيل وإلى المسلمين المدنيين بالمغادرة، وبينما المدينة في رجةٍ بسبب هذا العدل والإنصاف الذي لم يخطر على بال أهل سمرقند، وإزاء ذلك لم يسعهم إلا الإعلان عن تنازلهم عن شكواهم والمطالبة بإبقاء الحال على ما هو عليه.
وأسلم خلقٌ كثير من أهل سمرقند وأصبحت سمرقند حاضرة إسلامية كبرى.
لقد انتصر الحق والأخلاق على المكاسب المادية والأرض.

ثالثًا: لكن ألا يوجد مَن يشوه صورة النظرية؟
صحيح؛ وهذا أمر بديهي في حال البشر! لكن عندما يحدثك أحدهم عن جماعات تكفيرية، يمكنك أن تُحدثه بهدوء عن حضارة عظيمة كانت تحتوي تعددية وأثنيات لم يُرى لها مثيلاً -الحضارة العثمانية وهذا تطبيق أيضًا-، وكانت الأندلس قلعة في الثقافة والفكر وكانت العواصم الكبرى والمدن الإسلامية مثل بغداد والكوفة والبصرة ودمشق وقرطبة والقيروان والقاهرة مفتوحة لكل الأجناس والأديان، وكانت المناظرات تُعقد ليل نهار، وكانت الناس يأتون من الدنيا كلها يتلقون العلم، وكان العلم تجارةً رائجة -وهذه كلها تطبيقات-.
فالتاريخ مستودع ضخم يمكنك أن تُخرج منه ما تريد أن تُظهره، لكن في النهاية تبقى النظرية هي الفيصل، ويبقى أيضًا التاريخ الأغلب وليس الجزئيات التي يركز عليها من يُريد ان يُشوه الصورة بأكملها بهذه الجزئيات التي تُنسب إلى البشر هو الحَكم!

رابعًا: إذن دعنا نتحدث مباشرةً عن جهاد الطلب من خلال النص، لماذا يوجد جهاد الطلب؟

عليك أن تعي أن معركة الدين ليست مع أعراقٍ أو أجناس.
معركة الدين لا علاقة لها بإبادةٍ أو تطهيرٍ عِرقي.
معركة الدين لم تقم يوماً ما من أجل لون البشرة، أو بسبب جنسٍ مختار favoured race، ولا مقاس جمجمة محدد.

وهذا على العكس تمامًا من فلسفات إلحادية قامت على أكتافها الحروب العالمية والأيديولوجيات الإجرامية كالفاشية والنازية والستالينية.

 

فمعركة الدين الحقيقية مع الباطل، أينما وُجد، وفي أي مكانٍ قامت له دولة.
وهذا واجب الدين، بل لن يكون دين سماوي بدون مسئولية عُظمى كهذه تُلقى على عاتقه.
فالدين يقاتل الطواغيت التي تمنع نشر رسالته للشعوب، وبعد مقاتلتهم وبعد إيصال رسالته يترك لتلك الشعوب حريتها الكاملة في الانتقال إلى ذلك الدين أو بقائها على الكفر.

وفي لحظة مقاتلة الطواغيت –جهاد الطلب- إذا جاء في جيش الطواغيت امرأة أو أجير أو أطفال أو كهنة فلا يجوز التعرض لهم.

فكما في الحديث الصحيح: ” لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأةً.”

وفي الحديث الآخر: ” لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ، ولا أصحاب الصوامع” والحديث أصله في البخاري واللفظ لأحمد.

خامسًا: قد يقول الملحد هذا كلامٌ جيد. لكن لجهاد الطلب مصلحة مادية –الغنيمة-؟
هذا خطأ تمامًا، بل العكس هو الصحيح، فالغنيمة في الإسلام عبء وهَم، وتقليل للأجر الأُخروي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من غازيةٍ تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثيّ أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.” صحيح مسلم 3528
إذن فالغنيمة في أصلها عبء لكنها بُلغة ليتقوى بها المسلمون في مقاتلتهم.

سادسًا: هنا اتضحت أفرع المسألة بفضل الله، لكن يبقى إشكال أخير وهو: هل يُقتل هؤلاء الطواغيت فقط لكفرهم؟
هذا خطأ شديد وعليك أن تعيد قراءة ما سبق، فالطواغيت لم يُقاتَلوا إلا لأنهم وقفوا في وجه رسالة الإسلام وحرمانهم لشعوبهم من وصولها إليهم.
والقتال في الإسلام إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر.
أُكرر مرةً أخرى: القتال في الإسلام إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر.
ولذلك لا يقاتَل النساء ولا الصبيان ولا الزمني ولا العميان ولا الرهبان مع أنهم كلهم كفار وفي جيش الطواغيت.
وهذه كانت سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أهل الارض ؛ وسيرة صحابته من بعده فكان صلى الله عليه وسلم يقاتل مَن حاربه، إلى أن يدخل في دينه، أو يهادنه، أو يدخل تحت قهره بالجزية –أي يتيح نشر رسالة الإسلام في بلده- وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم، فإذا ترك الكفار محاربة أهل الإسلام وسالموهم وتركوا رسالة الإسلام تظهر كان في ذلك مصلحة للشعوب رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه، أو بلغتهم أخباره ، فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم، وهذا خيرٌ من قتلهم.

وجهاد الطلب هو سنة الأنبياء من قبل، فقد جاهد موسى وجاهد يوشع بن نون وجاهد داوود وجاهد سليمان عليهم الصلاة والسلام، كلهم جاهدوا جهاد طلب، ولم يخرج يوشع بن نون من مصر إلا في سبيل جهاد الطلب، ولم يُؤمر موسى بمقاتلة طواغيت كنعان إلا في سبيل جهاد الطلب.

وقد جاهد النبيون والمرسلون وعانوا الأمرين مع الطواغيت والمتجبرين.
لكنها سنة الله الماضية يجريها في الأرض حيث دار الابتلاء والاختبار و تمحيص الناس وصَهْرهم في بوتقة الإيمان ليتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، فلا يبقى إلا صادق الإيمان قويُّ العقيدة.

سابعًا: هل يجوز للملحد أن ينتقد جهاد الطلب؟
قوام الإلحاد ككل على فلسفة الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح Survival for  the Fittest، والصدام المستمر الذي لا يتوقف perpetual conflict.
فالملحد الذي ينتقد الجهاد أو حتى الإبادة الشمولية هو يقر مسبقًا انهيار إلحاده وعدم صلاحيته وبؤس معطياته.
فطبقًا لإلحاده -لو كان يفهم معنى الإلحاد- تتحول جرائم الإبادة الشمولية والتطهير العرقي إلى فضائل عليا في سبيل البقاء للأصلح وتنقية الأعراق.
وفي سبيل الإلحاد قتل الملحد ستالين 800 ألف ملحد سوفيتي، فضلاً عن عشرات الملايين من المتدينين.
Seumas Milne: The battle for history. The Guardian. 12 September 2002.
وداخل منظومة الإلحاد تختفي القيمة والمعنى فيتساوى إحراق الأطفال بقنابل النابلم مع مضغ كيس شيبس، فمضغ كيس شيبس يتسبب في إبادة ملايين الباكتريا في فمك ولا يوجد إلحاديًا تفاضل بين الباكتريا والبشر.
يقول آرثر ألين ليف Arthur Allen Leff أستاذ القانون بجامعة يال بالولايات المتحدة الأمريكية: ” لا توجد طريقة لإثبات أن حرق الأطفال بقنابل النابالم هو شيء سيء.”
there is today no way of ‘proving’ that napalming babies is bad
Economic Analysis of Law: Some Realism about Nominalism (1974), p.454.
فالملحد الذي ينتقد الجهاد ليس بملحد بل هو عبء على الإلحاد والملحدين.