نظام الحسبة في الإسلام

الحسبة من الوظائف التي يتَّصِل عملها بعملِ القضاء والشرطة، لكنها مستقلة عنهما، ويقال لصاحبها: (المحتسب)، و(صاحب الحسبة)، و(متولي الحسبة)، و(ناظر الحسبة)، و(والي الحسبة).

والحسبة في الشريعة الإسلامية: إزالةُ المنكر إذا ظهر فعله، والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ويمثل نظام الحسبة بذلك نظامًا رقابيًّا يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسلامي.

والمعروف ما أمر الشارعُ بعمِلِه، والمنكَر ما نهى الشارع عن فعله، لكن – مع التطور الحضاري – قد تظهر بعض السلوكيات والعادات والأمور العُرْفية، فتخضع لتحسين الشرع وتقبيحه، ولا يخضع الشرع لها[1].

والحق أن الشريعة الإسلامية لم تكتفِ ببيان المعروف وتَعداد أنوعه، ولكنها ترسم للإنسانية منهاج الحياة المتكامل على وجهٍ ينمي فيها المكارم والفضائل، ويبعث فيها روح الخير، ويساعدها على النماء والرقي، ويُحبِّب إليها فعل المعروف بكافة صوره، كما لا تكتفي بالنهي عن المنكر وبيان الرذائل، وإنما توضح مضارَّها وتحذر من اقترافها حتى يصير المجتمع المسلم مجتمعًا فاضلًا نظيفًا.

وللحسبة الرقابية العامة والوظيفية في هذا المجال الفضل الأول، وأوَّلُ مَن احتسب هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يمرُّ على الأسواق ويقول للناس: ((مَن غشَّنا فليس منَّا)).

ويعد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أوَّل مَن وضع نظام الحسبة، وكان يستخدم الدرَّة أو السوط في معاقبة المخالفين.

وقد استمرَّت الحسبة في العصر الأموي، ونقلها الأمويون إلى الأندلس، وكانت من أهم الوظائف الشرعية عندهم.

لكن المصطلح لم تتحدَّد معالِمُه، ولم يُصبِح عَلمًا على مؤسسة كالقضاء والشرطة إلا نتيجة لاهتمامِ العباسيين خلال العصر العباسي الأوَّل بجعل الشريعة الإسلامية أساسًا لحكمهم، ولمقاومة حركات الزندقة والمتأثِّرين بها، والناشرين للإلحاد والفساد.

وقد صارَتْ وظيفة المحتَسِب في القرن الرابع الهجري من الوظائف الثابتة الوطيدة الأركان في جميع الدولِ الإسلامية[2].

وكان المحتسِب يُختار مِن بين علماء الدين والقلم، الملمِّين بأحكام الشريعة، والأشدَّاء في الحق، وذوي الثقة والأمانة، وربما كان من القضاة أو أعيان المعدَّلين، وربما أضيفت أعمال الحسبة إلى القاضي، أو إلى الوالي، أو صاحب الشرطة، وقد يجمع المحتسب بين نظر الحسبة ونظر الوقف، وكان المحتسب يولي عنه نوابًا في سائر المدن والأقاليم التابعة له، وكانت اختصاصاتُ المحتسب تُوجِب مراقبة ما يتعلق بتأدية العبادات؛ بتأدية صلاة الجمعة، والمحافظة على الصلاة جماعةً، وأداء الزكاة، ورَدْع أهل البدع، ومراقبة الأسواق، ومعاملة التجَّار للناس، ومراقبة النقابات والحِرْفِيين[3].

وهي أوجب في الفرضية العينية على الحاكم المسلم الذي هو المسؤول الأول عن حراسة دين الله تعالى، وإصلاح شؤون الأمة في دينها ودنياها؛ ولهذا فهو ينشئ – ضمن أنواع الولايات – (ولاية الحسبة) للقيام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أداءً لبعض الواجب على الحاكم ومساعدة له.

ومن مؤهلات المحتسب التي هي شروط القيام بالحسبة:

1- أن يكون المحتسب مسلمًا؛ لأن الحسبة تهدفُ إلى إصلاح الناس وحماية الدين.

2- أن يكون المحتسبُ عاقلًا يُميِّز بين الخير والشر، والحلال والحرام.

3- العدالة بأن يعمل قدرَ استطاعته بما يأمر الناس به ويدعوهم إليه.

وهكذا لم تتبلور وظيفة الحسبة إلا بعد انتهاءِ دولة بني أميَّة؛ فقد قام القضاة بأعمالٍ هي مِن صميم الحسبة، فقد عُهِد إلى القضاة بمراقبة الأسواق ورعاية التجمعات، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ومن ذلك قاضي المدينة محمد بن عمران الذي أدَّب أحدَ الرعية لَمَّا رآه يشتم الناس[4].

4- وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارفًا عالِمًا بالمعروف الذي يدعو إليه، والمنكر الذي ينهى عنه.

5- أن يكون بصيرًا بالأمور وعواقبها، فيعرف ما يترتَّب على أمره ونهيه، وهل يؤدي أمره ونهيه إلى منكر أكبر فيحجم؟ فيدرأ السيئة الكبرى بالسكوت عن الصغرى.

6- أن يكون على علمٍ بحال المدعوِّين وأعرافهم وعاداتهم ونفسياتهم؛ بحيث يأتيهم من المدخل الذي يسهل انصياعهم له وعدم نفرتهم منه.

7- أن يكون واسعَ الصدر لا يتسرَّع بالإجابة، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنة، ليِّن الجانب، رفيقًا، متدرجًا، سهل التعامل، كريم الكلام، بعيدًا عن الإيذاء والانتقام ممن أساؤوا إليه، صابرًا ضابطًا لنفسه، متحكمًا في مشاعره.

8- أن يتدرَّج في أمره ونهيه بحسب حال مَن يدعوهم، وكأنه الطبيب مع المريض، مقدرًا أحوالهم النفسية.

9- أن يبدأ بالأهم قبل المهم، ويأمر بالأركان قبل الواجبات، وبالواجبات قبل المندوبات، وينهَى عن الكبائر قبل المحرَّمات الأخرى.

10- أن يكون الإخلاص والغَيرة على الإسلام والمسلمين دافعَه إلى الاحتساب؛ ولهذا يجب أن يكون متواضعًا منكرًا لذاته، بعيدًا عن الأهداف الدنيوية، التي يجب ألا تكون الهدف؛ بل وسيلة تابعة.

11- أن يأخذ بمبدأ القدوة الحسنة؛ فهي التي تؤثر في النفس ما لا تؤثره الكلمة؛ ولذا فلا بد من أن يكون ملتزمًا في نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن شعيبٍ: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].

——————————————————————————–

[1] محمد ضيف الله بطاينة: في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ص (93) (بتصرف).

[2] المرجع السابق، ص (94).

[3] حسن الباشا: دراسات في الحضارة الإسلامية، ص (75).

[4] موسوعة الإدارة العربية الإسلامية (1/ 322).