مفهوم الوسطية 

الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم

 

في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية ‏
‏ دراسة في المفهوم والدلالات
مفهوم الوسطية
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

‏‏‎﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ ‏الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾‎ [الفاتحة: 1-7].

حمدًا لمن بجزيل الفضل صيَّرنا
من فِرقةٍ وسط في الأمة الوَسَطِ
‏جماعةِ الحق لا تنفك سائرةً
على الصراطِ بلا زيغٍ ولا شَطَطِ‏
‏ نقفو سبيلَ النبي المصطفى وكذا
أصحابه خِيرة الأسلاف و الفرط‏
‏والتابعين بإحسان ومن مَسَكوا
في ذا السبيل بحبل، غير منفَرِط‏


اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك ‏على محمد وعلى آل محمد،كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:‏
‏فإن دراسة موضوع الوسطية من حيث هي تعتبر مهمة، والحاجة إلى البحث فيها وتحقيقها ماسة نظرًا ‏للإقبال الشديد على هذا الباب من العلم، وكثرة المتناولين له بمشارب مختلفة، ووجهات نظر متباينة؛ فكانت ‏الحاجة لدراسته من وجهة النظر السنية السلفية الواقفة عند ضوابط العلم وحدوده الأصيلة في غاية الأهمية، ‏وإذا كان هذا قدر موضوع الوسطية بصوره عامة، فإن دراسته في الجزء المتعلق بهذا البحث “في ضوء ‏القواعد الكلية والمقاصد الشرعية” مهمة بشكل أكبر؛ لأن المعركة هنا أشد احتداماً؛ ولأنه يترتب على هذا ‏النوع من الأبحاث فروع كثيرة وجوانب مهمة في النواحي النظرية والتطبيقية، وهذا ما يبرز لنا الأهمية الكبيرة ‏لهذا البحث، والموضوع الذي يتناوله:‏

وقد دفع إلى اختيار هذا البحث عدة أسباب:‏
‏1- منها الأهمية الكبيرة التي يحتلها.‏

‏2- ومنها قلة الأبحاث المتداولة في هذا الموضوع وخصوصاً ما يتعلق بالمنهج السلفي.‏

‏3- ومنها أن من تناول هذا الموضوع ربما كان تناوله له من وجهة نظر تختلف عن الوجهة التي ينطلق منها ‏الإخوة المشاركون في هذا المؤتمر.‏

‏4- حاجة الخطاب الإسلامي إلى معرفة مفاصل الوسطية وأركانها؛ بغية تنزيلها في الواقع الإسلامي ذي ‏المشارب المختلفة. إلى غير ذلك من الأسباب.‏

‏ وعنوان هذه الورقة “الوسطية في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية” تحتوي على:‏
تمهيد، وثلاثة مباحث تحت كل مبحث عدد من المطالب، تشمل تحديد المفاهيم، والوسطية بين دلالات ‏النصوص وأقوال العلماء، والوسطية كليات وقواعد، ومعوقات وموانع الوسطية.‏

أسأل الله تعالى أن ينفع بها، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسئول.‏

تمهيد في المفاهيم
‏تعتبر دراسة المفاهيم مفتاحاً لفهم ما يحيط بالعلم من إشكاليات معرفية وموضوعية، وترجع أهميتها ليس ‏لكونها جانباً من جوانب الوقوف على التراكمات المعرفية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى فهم الظواهر ‏وتفسيرها بغية الوقوف على حقائقها بما يساعد على وضع منهجية معرفية قد تعتبر بعد ثبوت صوابها قانوناً ‏وقاعدة ومرجعاً للمتخصصين، ومفهوم الوسطية من المفاهيم التي كانت مسرحاً لتغاير الرؤى والأفكار فلم ‏يسلم من توظيفٍ في دائرة الاستظهار عند بعض من استغله لتحقيق مآربه ومقاصده، لذلك ونحن في سياق ‏التأصيل لهذا المفهوم بحاجة إلى الوقوف على دلالات النصوص الشرعية المتعلقة بهذا المفهوم آخذين بنظر ‏الاعتبار سياقها النصي والموضوعي والتنزيلي، وهذا بلا شك يقتضي النظر في دلالات النصوص الكلية وما ‏تتعلق بها من مقاصد رعاها الشارع وأخذها بالاعتبار في تشريعه.‏

أولاً: مفهوم الوسطية: ‏
الوسطية ترجع في أصل وضعها اللغوي إلى مادة وسط، وهي دالة على جملة من المعاني تتقارب من حيث ‏دلالتها، ومنها: العدل، والخيار، والتوسط بين الجيد والردئ، وبين القادمة والآخرة، والإصبع الوسطى، ‏والصلاة الوسطى، والوساطة، والإكرام، وواسط وهو لفظ يطلق على مواضع متفرقة من البلاد الإسلامية ‏أشهرها واسط وهي مدينة بالعراق بين البصرة والكوفة[1]. ‏

وأما في الاصطلاح الشرعي فإن الوسط لا يخرج عن مقتضى اللغة، وقد استخدم القرآن لفظ الوسط معبراً ‏فيه عن إحدى خصائص هذه الأمة، وإحدى قواعد منهجيتها، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، ويمكن القول إن الوسطية اصطلاحاً: “سلوك محمود – مادي أو معنوي – يعصم صاحبه من الانزلاق إلى ‏طرفين مُتقابلين – غالبًا – أو مُتفاوتين، تتجاذبهما رذيلتا الإفراط والتفريط، سواء في ميدان ديني أم ‏دنيوي”[2]‏.‏

ثانياً: مفهوم المقاصد:‏
المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل (ق ص د) ومواقعها في كلام ‏العرب متعددة الأغراض وكثيرة المعاني، منها: استقامة الطريق، والسهل، والاعتماد،والأَم، وإتيان الشيء، ‏والتوسط بين الإسراف والتقتير، والاستقامة، والاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض نحو الشيء، ومواصلة ‏الشِعر، ومتوسط الهيئة، والكسر، والعدل، والقسر والقهر، والجوع، والعوسج، والقطعة مما يكسر، والبعير ‏السمين، وتشطير الشِعر، والتهذيب والتنقيح، والعصا، والإصابة، والقرب[3]. ‏

وأما في الاصطلاح فإن هناك إجماعاً عند من كتب في المقاصد على عدم وجود تعريف محدد في كتابات ‏المتقدمين، على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها، وأتوا ‏بعبارات أو مصطلحات تظهر الاهتمام بهذا العلم، ومنها: (المصلحة، والحكمة، والعلة، والمنفعة، والمفسدة، ‏والغايات، والمرامي، والأسرار، والمعاني، والمراد، والضرر، والأذى ..)‏[4]، وسبب هذا الإعراض عن وضع ‏تعريف محدد للمقاصد من قبل العلماء المتقدمين أن صدر هذه الأمة لم يكونوا يتكلفون ذكر الحدود ولا ‏الإطالة فيها؛ لأن المعاني كانت عندهم واضحة ومتمثلة في أذهانهم وتسيل على ألسنتهم وأقلامهم دون ‏مشقة[5]، وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى القصد اصطلاحاً هو العلامة ‏محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)[6]‏، حيث رسمها بقوله: “مقاصد التشريع ‏العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها ‏بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو ‏التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ‏ملحوظة في أنواع كثيرة منها”‏، وكشأن من خاصيته السبق في الأمور فإن تعريف ابن عاشور لم يخل من ‏قصور من جهة افتقاده خاصية التعريف المتمثلة في كونه جامعاً للمعرف مانعاً من دخول غيره فيه، حيث ‏أدخل في المقاصد الخصائص العامة للتشريع، كما أن هذا التعريف اقتصر على المقاصد العامة للشريعة وأغفل ‏المقاصد الخاصة، وهو ما استدركه ابن عاشور نفسه حيث ساق لها تعريفاً في كتابه[7]، ولقد توالت بعده جهود ‏الباحثين في وضع تعريف للمقاصد، وهي تمثل دليلاً على مدى الاهتمام بهذا العلم ومحاولة ضبطه بقواعده ‏تسهيلاً له وإعانة لأهل العلم في تيسير مسالك الاستنباط من خلال ربطها بهذا العلم، ويظهر من خلال ‏استقراء هذه المحاولات أن هناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم ‏التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه للشريعة، وحسبنا في هذا المقام أن نسوق تعريف الدكتور نور الدين ‏الخادمي؛ لأنه نص في تعريفه على تقرير عبودية الله تعالى – وهي المقصد الأعظم من الخلق – مع اعتبار ‏مصالح الخلق في الدارين، فيقول – معرفاً للمقاصد -: ” المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، ‏والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن ‏هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين”[8]‏. ‏

ثالثاً: مفهوم القواعد:‏
القواعد لغة جمع قاعدة، وترجع إلى أصل (قعد) من القعود وهو الجلوس، قال الزبيدي: “والقاعدة أصل ‏الأس، والقواعد الأساس، وقواعد البيت أساسه، وقال الزجاج: القواعد أساس البناء التي تعمده، وقولهم: بنى ‏أمره على قاعدة، وقواعد، وقاعدة أمرك واهية، وتركوا مقاعدهم: مراكزهم، وقواعد السحاب: أصولها ‏المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء …”[9]‏. ‏

وأما القاعدة في الاصطلاح فقد تعددت عبارات العلماء في تعريفها، فعرَّفها الجرجاني بأنها: “قضية كلية ‏منطبقة على جميع جزئياتها”[10]‏، وعرَّفها الكفوي بأنها: “قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام ‏جزئيات موضوعها، واستخراجها تفريعاً”‏[11]، وذكر التهانوي بأن القاعدة تطلق على معان ترادف الأصل، ‏والقانون، والمسألة، والضابط، والمقصد[12]. وهي عبارات تنطلق على القاعدة الفقهية والأصولية، أما القاعدة ‏المقاصدية التي نحن بصدد بحثها فقد عرَّفها بعض الباحثين استنطاقاً من كلام الشاطبي في موافقاته بقوله: “ما ‏يعبر به عن معنى عام، مستفاد من أدلة الشريعة المختلفة، اتجهت إرادة الشارع إلى إقامته من خلال ما بني عليه ‏من أحكام”‏[13]، وظاهر أن تعريفه هذا قصد به كليات المقاصد وتفريعاته بدليل أنه مثَّل على القاعدة ‏المقاصدية ببعض القواعد الدالة على مراعاته هذه الكليات، ومنها[14]‏: القواعد المتعلقة برفع الحرج في ‏الشريعة كقاعدة: (الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه)، وقاعدة: (قصد الشارع التكليف لا ‏لذاته وإنما لما يترتب عليه من مصالح تعود على المكلف)، وقاعدة: (المشقة غير المحتملة تفضي إلى رفع ‏التكليف على الجملة)، والقواعد المتعلقة بالمصالح والمفاسد كقاعدة: (وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في ‏العاجل والآجل معاً)، وقاعدة: (المصالح والمفاسد راجعة إلى خطاب الشارع)، ومن المعلوم أن اليسر ورفع ‏الحرج ومراعاة المصالح وجلبها ودرء المفاسد ودفعها من أعظم مقاصد الشريعة، والقراءة المتأنية تظهر لنا أن ‏هذه القواعد تدور في إطار الكليات المقاصدية، الأمر الذي ندرك معه احتضان المقاصد لها، وبهذا يمكن معرفة ‏العلاقة التداخلية بين المفهومين (الكليات والمقاصد).

[1] تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الحسيني الزبيدي، الكويت، وزارة الإرشاد والأنباء، 1385 هـ/1965م، ج20، ص167-182.
[2] الوسطية مفهومًا ودلالة، د. محمد ويلالي، بحث منشور على موقع الألوكة.
[3] تاج العروس من جواهر القاموس، مرجع سابق، ج9، ص35-43.
[4] علم المقاصد الشرعية، د. نورالدين بن مختار الخادمي، الرياض، مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ/2001م، ص15.
[5] مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، د. يوسف أحمد محمد البدوي، الأردن، دار النفائس، ط1، 2000م، ص45.
[6] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، محمد الحبيب ابن الخوجة، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425هـ/2004م، ص165.
[7] ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأثرها الفقهي، عبدالقادر بن حرز الله، الرياض، مكتبة الرشد، ط1، 1428هـ/2007م، ص29.
[8] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، د. نورالدين بن مختار الخادمي، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1419هـ/1998، ج1، ص52.
[9] تاج العروس من جواهر القاموس، مرجع سابق، ج9، ص60.
[10] القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها، د. إسماعيل بن حسن بن علوان، الرياض، دار ابن الجوزي، 1420هـ/2000م، ص19 نقلًا عن التعريفات للجرجاني، ص171.
[11] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبدالرحمن إبراهيم الكيلاني، دمشق، دار الفكر، ط2، 1426هـ/2005م، ص26، نقلًا عن الكليات للكفوي، ص728.
[12] كشاف اصطلاح الفنون، محمد علي التهانوي، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1996م، ج2، ص1295.
[13] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص55.
[14] المرجع السابق، ص55-56.