لماذا يجب أن نكتب في الإلحاد؟

الإلحاد ليس حالةً طارئةً في العصر الحديث، بل هو حالةٌ صاحبَت الإنسانَ منذ القِدَم، لكن بعد ثورة وسائل الاتصال بمختلف أشكالها، وفي إطار أجندات مختلفة، وبسبب عواملَ متشابكة، انفجرت موجةُ الإلحاد في الشرق والغرب، ولم يكن العالم الإسلاميُّ بمنأى عن هذا الانفجار!

لقد كتب كثيرون من خلفياتٍ دينيَّة ومعرفيَّة متعددة، حول الإلحاد بأساليبَ شتَّى، ومن زوايا مختلفة، ما بين مُسهب ومختصر، ومُكثر ومُقلٍّ، غير أن المتابع يُدرك أن هناك حاجةً مهمةً لتقديم مزيدٍ من البحوث والتحليلات لمنظومة الإلحاد بشتَّى جوانبها ولوازمها، ولمختلف آثارها المعرفية والنفسية والسلوكية.

ونحن إذ نؤكِّد هذه الدعوة لكشف الإلحاد؛ فلأننا نعتمد على أربعة مبررات نراها كافيةً للنهوض بهذه المهمة بشكل متواصل واجتهاد دائم، وهي مبررات بدونها ما كان يمكن أن يكون لهذا العملِ أدنى قيمة موضوعيَّة من أي جهة نظرنا إليه!

هذه المبررات يمكن تلخيصها في التَّالي:

أولًا: تبليغ الرسالة:

المسلم إنسان رسالي؛ بمعنى أنَّه بمقتضى عهد الإيمان يجد نفسَه مدفوعًا للقيام بمهمة التبليغ والبيان للرسالة الخالدة التي يتضمنها الوحيُ الربانيُّ، ولا شك أنَّه حين ينصرف عن هذه المهمة المقدَّسة لأي مبرر يمكن أن يُقدِّمه، فإنَّه يكون مقصِّرًا تقصيرًا بالغًا في التزام متطلَّبات الإيمان!

ينبثق حسُّ المسلم بضرورة تبليغ الرسالة من اعتقاده أنَّ الله سبحانه لم يخلُقِ الإنسان عبثًا، ولم يترُكْه سدًى، بل خلقه لغاية مقدسة: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛ أي: ليلتزموا منظومة الوحي في نشاطاتهم المختلفة؛ ولهذا فالمسلم يعتقد أن الإنسان يستحقُّ أن يعرف الحقيقة: حقيقة الخالق، والإنسان، والحياة، والمصير بعد الموت.

كما أنَّ المسلم يعتقد – انطلاقًا من مرجعيَّته الإسلاميَّة – أن العقل يتضمن منظومةَ قواعدَ دلاليةٍ، تُساعده على الاهتداء إلى الحق واستيعابه بشكل مُجمل: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [الأعراف: 172]، ومن رحمة الله تعالى أن هذه المنظومة الفطرية لا يمكن لأي إنسان الانسلاخُ منها وتجاوزها؛ وذلك لكي تقام عليه الحجة يوم القيامة فلا يجد عذرًا للكفر والإلحاد!

لكن، بالرغم من أنَّ جوهر الفطرة هو محبة الحق والانجذاب إليه، فإنَّ الإنسان لديه قابليَّة موازية تتمثَّل في إمكانية السقوط في مستنقع الانحراف والضلال والغفلة والنسيان بفعل عواملَ مختلفة، كما جاء في الحديث القدسي: ((إني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالَتْهم عن دينهم))؛ (صحيح مسلم)؛ أي: أتتهم الشياطين فصرَفَتْهم عن فطرتهم، وأغرقتهم في الأباطيل.

في هذا الإطار، نفهم أنَّ مهمة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم القائمين بالتبليغ لرسالتهم هي استنقاذ الإنسان من أوحال الغفلة والنسيان، وتحريره من قيود الضلال والانحراف، ومساعدته على العودة إلى أصول فطرته الربانيَّة: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21]، ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [العنكبوت: 18]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].

إن المسلم يعتقد – وَفقًا لمعطيات القرآن، وواقع النفس البشريَّة – أن الإنسان مهما بلغ في الانحراف والضلال، ومهما انغمس في الغفلة والنسيان، فإن شعلة الفطرة في سويداء عقله تظلُّ متوهِّجةً، تنتظر فقط – إذا تحرَّر من العصبية العمياء، والعناد الأحمق – مَنْ يكشف عنها تلك الحُجُبَ التي تحول بينها وبين جوهرها وأصالتها.

إذًا، فإن القيام بالمساهمة في كشف الإلحاد، وبيان أباطيل الملحدين – ينبع من عقيدة المسلم، التي توجب عليه بيانَ الحق ليعرفه الناس، وكشفَ الباطل ليجتنبوه، وإلا فإن التزامَ الصمتِ هو في الواقع مساهمةٌ للترويج للإلحاد، وإشاعةٌ للمنكر، ومحاصرةٌ للحق، وتغطيةٌ لبراهين التوحيد وحقائق الإيمان!

۞۞۞۞۞۞

ثانيًا: معركة الأفكار:

المعركة بين الحق الذي يمثل التوحيد والإيمان والإسلام، وبين الباطل الذي يمثل الشرك والكفر والجاهلية – قديمةٌ جدًّا، ترجع إلى لحظة إعلان الله سبحانه خلْقَه لآدم عليه السلام، وأمره تعالى للجميع بالسجود له تشريفًا وتكريمًا، فأطاعت الملائكةُ عليهم السلام أمرَ ربِّهم، وعصى إبليس؛ حسدًا من عند نفسه واستكبارًا: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

ورغم التاريخ الطويل للبشرية والموغل في القدم، ورغم ما شهده من أحداث، فلم يكن يعكس في الواقع سوى أبعاد تلك المعركة الكبرى، ولم يكن سوى مسرح لمختلف مظاهرها وتجلِّياتها! إذ ما كان لإبليس اللعين – وقد عرَف مآل استكباره وطغيانه وإعجابه بعقله – أن يستسلم ويترك الساحة خاليةً لهذا المخلوق البشريِّ الذي تسبَّب له في اللعنة الأبدية ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40].

ولقد خاض الأنبياء عليهم السلام هذه المعركةَ بكل قوة وحزم، ورسموا لأتباعهم ضد أتباع الباطل والشر والاستكبار إطارَ المعركة وأساليبَها، وبراهينَها وحدودَها وغاياتها، ولقد بذل هؤلاء العظماءُ العرق والدم، كما ضحَّوا بالراحة والمتعة، نعم، وصبروا على المشاقِّ والضغوط، كلُّ ذلك في سبيل الانتصار للحق الأزليِّ؛ للتوحيد والإيمان، للخير والصلاح والجمال، رغم الجهود الهائلة التي بذلها أتباعُ إبليس المفسدون في الأرض لصدِّ الناس عن معرفة الحقيقة!

واليوم، ها نحن أولاء نشهد فصولًا جديدةً من هذه المعركة الخالدة؛ معركة الإيمان والإلحاد! وهي جديدة، لا لأن المضامين تغيَّرت، ولا لأن الغايات تبدَّلت عما كان عليه الحال خلال التاريخ الطويل؛ بل لأن حجم الكيد والمكر وعنف الشدة والضغط الذي يمارسه أتباعُ الباطل بسبب الإمكانيات الهائلة التي يتمتعون بها – ليس له مثيل من قبل، خاصةً القدرة الكبيرة على نشر المعلومة المزيَّفة عبر وسائلَ مختلفة: الجرائد والمجلات، والبرامج والأفلام، والمواقع والمدونات، والفيديوهات!

ونحن في المرجعية الإسلامية لا تهولنا هذه المعركةُ رغم شراستها وضغطها وامتدادها، كما لا يهولنا حجم المكر الذي يمارسه المفسدون في الأرض؛ لمحاصرة الإيمان وإشاعة الإلحاد بشكل مباشر وغير مباشر، لا يهولنا كلُّ هذا؛ لأننا نعلم أنَّ هذه المعركة تتضمَّن الكثير جدًّا من أسرار الحكمة الإلهية في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة، ومن هنا، فهي سنة من السُّنن التي نحن مأمورون إسلاميًّا بأن نتعامل معها بأسلوب الإيمان؛ إذ كان ذلك جزءًا أصيلًا من عقيدتنا المقدَّسة.

كما أننا ندرك أنَّنا قد نضعف وقد نتعثَّر، ولكننا نؤمن إيمانًا جازمًا بأننا لن نخسر المعركة بشكل نهائي، بل إن النتيجة الفاصلة ستكون لصالحنا؛ لأننا ونحن نخوض هذه المعركةَ الخالدة؛ معركة الأفكار وتغيير القناعات التي تعكس معركة التوحيد والإلحاد – ندرك أننا نستند إلى الحق الأصيل في فطرة الإنسان وفي فطرة الحياة: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 9].

أما أتباع إبليس وجنود الباطل والإلحاد والفساد، فمهما امتلكوا من الإمكانيات الهائلة لتغيير القناعات وتزييف الأفكار وتزوير الحقائق، فإن كيدهم ضعيف متهافت: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]؛ ذلك لأن الباطل بمختلف تجلِّياته: الشرك، الكفر، الإلحاد … إلخ – ليست له جذورٌ أصيلةٌ في فطرة الإنسان، ولا في فطرة الحياة، بل لا يعدو أن يكون عَرَضًا طارئًا يمكن أن يُوقع الإنسان في حمأته حين يغفُل وينسى، وحين يلهث وراء الشهوات!

إن صناع القرار اليوم في الغرب والشرق لا يتردَّدون في التصريح المباشر بأنهم يخوضون معركةَ تغييرِ القناعات وصراع الأفكار، ويمارسون هذه المعركة بشكل عمليٍّ بمختلف الوسائل الممكنة لهم، ماديًّا ومعنويًّا، ومن هنا؛ لا جرمَ أنه يجب علينا – نحن حملةَ الرسالة المقدسة، وأتباعَ التوحيد والحق الأزليِّ – أن نقوم بدورنا في هذه المعركة بكل ما نستطيع، فهذا فرض الله سبحانه علينا: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]، وإلا فإنها خيانة للإسلام وخيانة للإنسان: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].

۞۞۞۞۞۞

ثالثًا: شيوع الظاهرة:

لا يمكننا إنكارُ حقيقة أن الإلحاد المعاصر لم يعد كما كان في الأزمنة الماضية، بل هناك اختلافاتٌ واضحةٌ بين الإلحاد القديم والإلحاد المعاصر، يمكن رصدُها في التالي:

أولًا: قديمًا كان الإلحاد مجرد حالات شاذة هنا وهناك بين مختلف الأمم والحضارات بنِسَبٍ متفاوتة، أما اليوم في عصرنا الحاضر، فهو أشبه بالظاهرة الاجتماعية والعالمية، ونقول بأن الإلحاد صار ظاهرةً باعتبار الماضي، وإلا فالإحصائيات – بل الواقع – يؤكِّد أن نسبة الملحدين ضئيلةٌ جدًّا مقارنةً بنسبة المؤمنين.

ثانيًا: قديمًا لم يكن للإلحاد الكثير من الآليات التي تساعده على الانتشار والذيوع، أما في عصرنا الحاضر، فالإلحاد يعيش فترته الذهبية بفعل الإمكانيات المادية الهائلة، والوسائل المتعددة؛ كالإنترنت والمجلات والكتب، التي أتاحت له الانتشار والشيوع؛ ولهذا لم يعد الوصولُ إلى الجمهور بمختلف شرائحه مشكلةً بالنسبة للإلحاد.

ثالثًا: قديمًا كان الإلحاد أقربَ إلى قناعة شخصية يعيشها صاحبُها، ولا يعنيه كثيرًا مشاركةُ الآخرين له فيها، أما في عصرنا الحاضر، فالإلحاد صار يُقدَّم عبر خطط وآليات مدروسة على أنَّه البديل الأفضل عقليًّا وأخلاقيًّا للأديان؛ أي: إنَّ الإلحاد اليوم يتبنَّى فكرةَ الصدام المباشر والمتعمَّد مع الإيمان لتحقيق أهداف معيَّنة!

رابعًا: قديمًا كان الإلحاد في لحظة الدفاع والتبرير يعتمد على الجدل العقليِّ الفلسفي، وعلى البُعد النفسيِّ الأخلاقي، أمَّا في عصرنا، فالإلحاد لا يعتمد على هذين بقدر ما يستغلُّ الهوسَ بالعلم الطبيعي لدى جمهور الناس؛ لينال طابع المصادقة على صحَّته، خاصةً أنه يُغطِّي قناعاته الإلحادية بالعلم على أساس أنها حقائق علميَّة!

خامسًا: قديمًا كان الإلحاد محصورًا بنسبة أكبر في دائرة ضيِّقة جدًّا، هي دائرة المتعاطين للجدل والفلسفة، أما في عصرنا الحاضر – بفعل عواملَ متعددة؛ كالحداثة والرأسمالية، وتسطيح العقول، وتنميط الرؤى، والتخلف الماديِّ الناتج من طغيان الغرب على البلدان المتخلِّفة – فقد اتسعت الدائرة لتشمل المراهقين والأميِّين وأشباههم!

سادسًا: قديمًا كان الإلحاد ينطلق من دوافعَ شخصية منفصلًا عن أي سياقات اجتماعية وحضارية، أما في عصرنا الحاضر، فلا يمكننا فصلُ الإلحاد في الفضاء العربيِّ والإسلامي عن سياق معركة الأفكار، وحرب تغيير القناعات، التي يمارسها الغرب كجزء من إستراتيجية الهيمنة ومحاصرة الإسلام، وهذا باعتراف صنَّاع القرار الغربيِّ ومراكز البحوث!

كانت تلك أهمَّ معالم الاختلافات الجوهريَّة بين الإلحاد القديم والمعاصر، وهي مبرراتٌ كافيةٌ لتقديم مزيدٍ من البحوث حول الإلحاد، وتجديد أساليب العرض والبيان؛ لتكون محيطةً بأوسع جوانب الظاهرة.

۞۞۞۞۞۞

رابعًا: تفشي الأميَّة الشرعيَّة:

من السمات الواضحة في شبابنا المعاصر: ما يمكننا تسميته بــــــ “الأمية الشرعية”!

والمقصود بهذا الوصف أن شريحةً كبيرةً من الشباب المسلم لا يعرفون من الإسلام سوى القشور، وإلا نُتفًا عابرةً تلقَّفوها من هنا وهناك؛ من المواقع والمنتديات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي!

ولقد أخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّه إذا اقتربت الساعة رُفع العِلمُ، ونزل الجهل، واتَّبع الناس أهواءهم؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة: أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل))، وليس المقصود بالعلم والجهل في هذا المقام هو الأميَّةَ بحيث لا يعرف الناس القراءة والكتابة، كما ليس المقصود به العلم الطبيعيَّ والدنيوي، بل المقصود به – والله أعلم – العلم بالله تعالى وشريعته، وحقيقة الدنيا والآخرة، وهذا ما نراه واضحًا في عصرنا الحاضر؛ ترى الواحد من أهل هذا الزمان خبيرًا بالتقنية، أو فرع من فروع العلم الطبيعي، أو مقالات مفكري الغرب والشرق، وفي المقابل تجده جهولًا بما يتعلَّق بالله ورسوله، وبراهين وجوده، وحقائق ديانته، ولا يعرف سوى اللهاث المسعور وراء الشهرة والغنى والشهوات!

هذه الجهالة المطبقة بحقائق الإسلام بين الشباب المسلم، هي في الواقع لم تنشأ من فراغ وبدون أسباب، بل إن لها عواملَ ساهمت في نشأتها وشيوعها ورسوخها، يمكننا تحديدُها في التالي:

• حالة التخلُّف التي مرَّ بها العالمُ الإسلاميُّ في القرون الأخيرة قبل السقوط؛ فقد انتشر الجهل، وعمَّ الانحراف، وشاعت البدع، وأطبق التخلف، وتمزَّقت عُرى العالم الإسلامي!

• الاحتلال الغربي لبلدان العالم الإسلامي، وحرصُه على فصل المسلم عن إسلامه، فقد عمل بكل جهد وحيلة على تدمير العالم الإسلامي إنسانًا وجغرافية، وكان أبرز معاوله هو تجهيلَ المسلمين!

• قيام العلمانيين بمتابعة تنفيذ خطة الاحتلال الغربي من خلال الإعلام والمقرر الدراسي، فقد حرَص الاحتلال الغربيُّ قبل خروجه على منح أزمَّة الأمور في المجتمعات المسلمة إلى أقزام صنعهم بيده؛ ليتابعوا تنفيذ المهمة!

• الانغماس في فضاءات الإنترنت واللهاث المحموم وراءها؛ فبسبب حالة الإحباط الشديد صار الشباب يرون السياحة في تلك العوالم الافتراضية أفضلَ حلٍّ لتفريغ تلك الشِّحنات السلبية، وهذا ما يستنفد أوقاتَهم!

كل هذه العوامل أنشأت في الشباب المسلم قابليةً كبيرةً للتأثُّر بالخطاب المنحرف، سواء تمثَّل في نسخته العلمانية أم في نسخته الإلحادية، فلا جرم أن يكون الواجب مضاعفًا على العلماء والدعاة والمفكرين تجاه هؤلاء الشباب، فهم مستقبل الإسلام، وإهمالُهم وتركهم فرائسَ سائغةً للخطاب الإلحادي وغيره، لا شك أن له أضرارًا جسيمةً ظاهرةً للعيان في مجتمعاتنا المعاصرة، هذا فضلًا عن الخطيئة الكبرى في ميزان الله سبحانه.

۞۞۞۞۞۞

خامسًا: هيمنة الرؤية المادية:

لم تعرف البشرية خلال تاريخها الطويل انفجارًا في الماديات والشهوات كما عرفته في العصر الحاضر!

إذا تجاوزنا البُعد النفسيَّ للانغماس في الماديات واللهاث وراء الشهوات؛ إذ كان كل ذلك محبوبًا للنفس ومرغوبًا لها، إذا تجاوزنا هذا المعنى، فإن البحث في جذور الحضارة المعاصرة يؤكِّد لنا بصورة يقينية كُمُونَ عواملَ مختلفةٍ وراء صبغتها المادية، ويمكننا تلخيصها بالقول:

إنَّ التجرِبة المريرة التي خاضها الإنسانُ الغربيُّ تجاه “الإله = الدين” – جعلته ينفر نفورًا شديدًا من كل ما يمكن أن يذكِّرَه بهما، ومن ثمَّ راح يلهث فزعًا وراء الماديات والشهوات؛ لينسى “الإله = الدين”، وليُثبت قدرته الكاملة على القيام وحده بعيدًا عن “الإله = الدين”، وليبرهن على قدرته الفائقة على صناعة “الإله = الدين” كما يريده هو فقط، حسب مزاجه الشخصي!

ثم بفعل عوامل متشابكة، استطاع الغرب الهيمنةَ على العالم برؤيته وأنماط حياته، فلم يعد يوجد شبر في العالم اليوم إلا وتجده مطبوعًا بالطابع الغربي، قليلًا أو كثيرًا، والمسلم المعاصر ليس بعيدًا عن الهيمنة المتغوِّلة، فهو جزء من العالم، خاصةً أنَّه في مركز التخطيط الغربي لتنفيذ وتمديد هذه الهيمنة لتحقيق أجندات مختلفة!

في هذا الإطار أشير إلى أنَّ الانغماس في الماديات والشهوات، ولو على مستوى الرؤية والشعور؛ أي: مع العجز عن التحقيق الفعليِّ لها – يُوقع الإنسان في “الغفلة”؛ لأن الماديات والشهوات قد ملكت عليه وعيَه وإحساسه، كما أنها أطَّرت تفكيره وأحلامه وواقعه!

هذه الغفلة تُولِّد في نفسية الغافل حالة “الإعراض” عن الحق، ومن ثم تتشكَّل لديه قابليةٌ لتقبُّل وتصديق مختلف الأفكار المنحرفة، حتى وإن كانت مغرقةً في اللامعقول؛ كما قال الحقُّ تبارك وتعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1].

الذي يتابع الواقع المعاصر عن كثب، ويخالط الشباب – يُدرك جيِّدًا مدى الغفلة التي هم منغمسون فيها، وبالتالي مدى الإعراض عن الحق ونفورهم منه، فبعد ثورة الإنترنت ووسائل التواصل العالمية المختلفة، صار الشباب اليوم مرتبطين بهذه الفضاءات للشعور بأنهم كائنٌ فاعلٌ ولو في العوالم الافتراضية!

بهذا لم يعد الشباب اليومَ يهتمون بالعلوم الشرعية والمعارف المؤصلة، بل يؤْثرون القراءات السطحية التي لا تتطلب جهدًا عقليًّا وزمانيًّا للفهم والاستيعاب؛ لأن سحرَ الماديات، وغَوايةَ عوالم التواصل المختلفة – لا تسمح لهم بوقت وجهد كبير لإنفاقه في القراءات الجادة، وبكل هذا صاروا فرائسَ سهلةً للأفكار المنحرفة!

وما من شك في أنَّ مهمة أهل العلم والمفكرين تبدو صعبةً وعسيرةً لتحرير الشباب من هذه الأوهام التي أنشأت فيهم غفلةً كبيرةً، وإعراضًا عظيمًا!

۞۞۞۞۞۞

وفي ختام هذا الفصل أقول:

لقد كان علماؤنا الأولون وسلفنا الصالح يقولون: ” أميتوا البدع بعدم نشرها “، وهي دعوة حقٍّ باعتبار سياقهم الاجتماعيِّ وظروفهم وطبيعة عصرهم، أما في عصرنا الحاضر؛ عصر وسائل الاتصال والتواصل، وهي التي تُشكِّل عقول الناشئة، وتصبغ نفوسهم بما يريد المفسدون في الأرض، في هذا العصر قد يجوز لنا أن نقول: “أميتوا البدع والشبهات بذكرها، ونشر الردود عليها، وبيان تهافتها”؛ ذلك لأنَّ الإحجام عن هذا الفعل لن يؤثِّر إيجابًا، بل سلبًا؛ إذ هناك مَنْ ليس له عملٌ سوى نشر البدع والشبهات وتضخيمها؛ حتى تصل إلى أكبر شريحة ممكنة، ولا شك أنَّ هناك كثيرين لديهم استعداد قويٌّ لتشرُّب تلك الشبهات، والانخداع بتلك التلبيسات!


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/121549/#ixzz61CGCLt29