إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له ومن يضلِلْ فلا هادي له، وأشْهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

أَمَّا بَعْد:

فَإنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْر الهديِ هديُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالة.

عن أبي هريرة عن رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: ((إنَّ الله يبعثُ لِهذه الأمة على رأس كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يجدِّد لها دينَها))؛ رواه أبو داود (4291) بإسناد حسن.

ففي نهاية كلِّ مائة سنة يبعثُ الله لِهذه الأمَّة من يُجدِّد لها دينَها، فقبْل رسالة محمَّد يبعَثُ الله أنبياءَ؛ ليُحْيوا ما اندرس من رسالة مَن سبقهم من الرُّسل، أمَّا بعد بعثتِه، فلا نبيَّ بعدَه، فيقوم العالِم المجدِّد مقام النبي بإحْياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنَّة، وإماتة ما ظهر من البِدَع.

فالمجدِّد لا بدَّ أن يكون عالمًا بعلوم الشَّريعة؛ إذ كيف يجدد الدين مَن لم يكن عالمًا بالشَّريعة، همُّه العِلْم الشَّرعي، متصدِّيًا له تعلُّمًا وتعليمًا، ودعوةً باللِّسان والقلم، عاملاً بما يعلم؟!

ولا يلزم أن يكون على رأْس كلِّ مائة سنةٍ مجدِّد واحد فقط؛ بل يمكن أن يكون التَّجديد يحصل من أكثر من واحد؛ قال الحافظ ابن حجر “فتح الباري” (13/ 295): “لا يلزم أن يكون في رأْس كلِّ مائةِ سنةٍ واحدٌ فقط، فإنَّ اجتماع الصِّفات المحتاج إلى تَجْديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أنَّ جَميع خصال الخير كلّها في شخص واحد، إلاَّ أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبدالعزيز؛ فإنَّه كان القائم بالأمْر على رأْس المائة الأولى، باتِّصافه بِجميع صفات الخير وتقدُّمه فيها، ومن ثَمَّ أطلقَ أحمدُ أنَّهم كانوا يَحملون الحديثَ عليْه، وأمَّا مَن جاء بعدَه، فالشَّافعي، وإن كان متَّصفًا بالصِّفات الجميلة إلا أنه لم يأمُرْ بالجِهاد والحكم بالعدْل، فعلى هذا كلُّ من كان متَّصفًا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدَّد أم لا”. اهـ.

وليس في السنَّة صفات محدَّدة بِحيث تطبَّق على شخْصٍ بِعيْنِه، فتحديد المجدِّد من الأمور الاجتهاديَّة، فلا يُعْلَم ذلك المجددُ إلا بغلبة الظَّنِّ ممَّن عاصره من العُلماء، بقرائن أحواله والانتِفاع بعلمه؛ إذِ المجدِّد للدِّين لا بدَّ أن يكون عالمًا ناصرًا للسنَّة قامعًا للبدْعة، وأن يعمَّ علمُه أهلَ زمانه.

إخْوتي:

أجْمع العُقلاء من المسلمين وغيرهم، على الرُّجوع في كلِّ بابٍ إلى أهل الاختِصاص فيه، فكذلك ما يتعلَّق بالشَّرع وأحكامِه، فالرُّجوع لأهْل العلم العاملين بالكِتاب والسنَّة، فإنَّ الله بِهم يقيم دينَه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].

فهم المرجِع في هذا الباب ولهم الفصْل فيه، ولستُ أعني أنَّ هناك طائفةً خاصَّة هي المخوَّلةُ في تفسير نصوص الوحيَين واستِنْباط الأحكام الشرعيَّة منهما؛ فليس في الإسلام ذلك، لكن ليْستِ النصوص الشرعيَّة والأحكام الفقهيَّة كلأً مباحًا، كلٌّ يرْعى فيه ويتسوَّر مِحرابه، العامَّة والخاصَّة، التقي والفاجر، فمَن ملك آلةَ النَّظر في النُّصوص من المتخصِّصين – سواءٌ ممَّن تَخرَّجوا في الكلِّيَّات الشرعيَّة أو تتلْمذوا على أهل العلم في المساجد – فلهُم النَّظر في النُّصوص الشرعيَّة واستنباط الأحكام منها.

إخوتي:

في المسائِل الشرعيَّة – لاسيَّما المسائل الكبار التي يكثُر فيها النزاع – فالرُّجوع إلى مَن شابتْ شُعورهم في العلم، وأفنَوْا أعْمارَهم فيه تعلُّمًا وتعليمًا، وجرَّبتْهم الأمَّة، فعرفت صِدْقَهم وأمانتَهم، لاسيَّما مَن مات، فالحيُّ عرضةٌ للزلل والانحراف والتبديل، ولا يُرجع لغيرهم من غير المتخصِّصين، من إعلاميِّين ومحبِّين للخير ممَّن لم يضرِبْ في العلم بسهْم، فالعاطفة وحْدها لا تكفي، ورضِي الله عن ابنِ مسعود حينما قال: “كم من مُريدٍ لِلخيْر لَن يُصِيبَه!”، فلذا لا يَخلو إنتاج غير المتخصصين المحسوبين على أهل الخير – من الأموات ومن المعاصرين – لا يَخلو نتاجُهم المسموع والمقْروء من خلل وأخطاء جسام، وهذا أمرٌ طبعي، فمَن تكلَّم بِما لا يُحسن جاء بالأعاجيب، لكن يُلْتَمس لهم العُذْر ويُحسن بهم الظن بأنَّهم أرادوا الخيْر ولم يُصيبوه.

من المسائل التي تطرق أحيانًا مسألة تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزَّمان والأحْوال، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ عظيمة النَّفع يذكُرُها أهلُ العلم في كتُبِهم، لكن لا بد أن يُعْلم أن تغيُّر الفتوى ليس تبعًا للهوى ومُسايرة للواقع، بل هي كسائِر المسائل الشَّرعيَّة يُرجع فيها إلى الشَّرع، فلا بدَّ من دليلٍ يُستدل به على تغيُّرها، وأيضًا ليس كلُّ حكم شرْعي يَخضع لهذه القاعِدة، بل هذه القاعدة خاصَّة بالأمور الاجتهاديَّة المبنيَّة على النَّظر، وتَحقيق المصالح ودرْء المفاسد، فالأحكام الشرعيَّة نوعان:

نوع لا يتغيَّر، وهي الأشياء الثابتة بدلالةِ الكتاب أو السنَّة أو الإجماع؛ كالعقائد، والتَّكاليف الواجبة، وتَحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، والفضائل ومساوئ الأخلاق، ونحو ذلك، فهذه في الأصْل لا يتطرَّق إليْها تغْيير ولا اجتِهاد.

 

والنوع الثاني: ما يتغيَّر بِحسب اقتِضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالاً؛ كمقادير التَّعْزيرات وأجناسِها، والمحرَّمات الاجتهاديَّة لعلَّة، فتتغيَّر الفتوى في الأمور المبنيَّة على الاجتِهاد والنَّظر في الواقع، فتُعطى حكمًا مستنبطًا من النُّصوص الشرعيَّة، وإذا تغيَّرت الحال تغيَّرت الفتوى، فمثلاً حينما ظهر الرَّاديو، أفْتى أهلُ العِلْم من مشايِخنا بتحْريمه؛ لأنَّه في بدايتِه شرٌّ مَحض، أو شرُّه أكبرُ من نفعِه، لكن بعد ذلك اختَلَف الوضْع، ووُجِدَتْ إذاعات تبثُّ النَّافع المفيد، أو على الأقلِّ المباح، فتغيَّرت الفتوى بإباحة الرَّاديو، وبقي الحكم في الإذاعات التي تبثُّ المحرَّم، فبقي الحكم كما هو ولم تتغيَّر الفتوى، ومثل ذلك تغيُّر الفتوى في ما يتعلَّق بالقنوات الفضائيَّة لتغير الأحوال.

الخطبة الثانية

الحمد لله القائل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، والصَّلاة والسَّلام على مَن بلَّغ البلاغ المبين، وترَكَنا على محجَّة بيضاء، ليلُها كنهارِها لا يَزيغ عنْها إلا هالك.

وبعد:

تَجديد الدين هو بالنسبة للأمَّة لا بالنسبة للدِّين الذي شرعه الله وأكمله، فإنَّ التغيُّر والانْحِراف إنَّما يطرأ على الأمَّة حينما تبْعد عن كتاب ربِّها وسنَّة نبيِّها، في عبادتِها واعتقادها وسلوكها ومعاملاتها، فيهيِّئُ الله لَها من يرُدُّها إلى مسارِها الصَّحيح، أمَّا الدِّين، فهو محفوظ بِحفْظ الله لكتابِه ولسنَّة رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم المبيِّنة له؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

إخوتي:

بين فيْنةٍ وأُخْرى نسمع دعواتٍ باسم تَجديد الدِّين، أو تَجديد الخطاب الديني، ونَحو ذلك من الشعارات، ترتفع الأصوات بِهذه الدعوات تارة وتخفُتُ تارة أخرى وَفْقَ الظروف، وربَّما صدرت هذه الدَّعوة من أشخاص يُحْسَبون على أهل الخير، فالدَّعوة لتجْديد الدين أو تَجديد الخطاب الديني تَحمل في طيَّاتها حقًّا وباطلاً، بِحسب نوايا المتكلم بها، فهي حقٌّ يُراد بها باطل أحيانًا.

فإن كان المقْصود بتجديد الخِطاب الديني تحديثَ وسيلةِ الخطاب، والاستفادةَ من وسائل الاتصال، ومخاطبةَ شرائِح المجتمع عبْر الوسائل المتنوِّعة، فهذا حسن إذا كانت الوسيلة مباحة.

وإن كان المقْصود بتجديد الخطاب الديني تنقية الخطاب الموجَّه للنَّاس من الأحاديث الضعيفة فضلاً عن الموضوعة، وتنقيةَ الدين من الخلْط بيْنه وبين العادات، وتربيةَ النَّاس على الاستِدْلال بالكِتاب والسنَّة، والوقوفَ عندهما، والبعدَ عن العواطف المحْضة – فحسن.

وإن كان يُراد بتجْديد الخطاب الديني عدمَ التطرُّق لأحْكام الجهاد والغزَوات والفتوحات الإسلاميَّة، وذكرِ الجنَّة والنَّار والقبر وما بعدَه – فليس هذا من التجديد في شيء، بل هو كتْم للعلم الشرعي، متوعَّد فاعلُه، وهو من سنَّة المغضوب عليهم والضَّالين؛ كما أخبرنا ربُّنا عنهم بقولِه تعالى: ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

إنْ كان المقْصود بتجْديد الخطاب الديني بِخصوص غير المسلمين وأهل البدع، ببيان أنَّ الكفَّار غير المحاربين كفَل الإسلام عصمةَ دمائهم وأموالِهم وأعراضِهم، وحرَّم الاعتِداء عليْهِم اعتِداءً حسيًّا ومعنويًّا، وكذلك التلطُّف في دعوة المبتدعة وتألُّفُهم؛ رجاءَ ترْكِهم لما هم عليهِ من باطل – فهذا تَجديد حسن.

ولا يَخلو الزَّمن ممَّن يقوم بذلك، أمَّا إن كان يُراد بتجْديد الخطاب الديني تعْطيل باب الولاء والبراء، وإذابة الفوارق بين المسلِم والكافر، بين السنِّي والبدعي بدعاوى باطلة – فهذا ليس تَجديدًا للدين بل تَمييع للدِّين.

إن كان المراد بتجْديد الفِقْه وأصولِه تنقِيَته من عِلْم أهل الكلام، وعرضه بأسلوبٍ يُناسب أهل العصر من غير المتخصِّصين والنَّاشئة، وضرب الأمثلة من الواقع المعاصر، وبحث النَّوازل التي ليس لها ذِكْر في كتب المتقدمين؛ كالمعاملات البنكيَّة، والاستِنْساخ، ونقْل الأعْضاء، وغير ذلك مما استجدَّ في الشؤون الاقتِصادية والاجتِماعيَّة، وسائر مناحي الحياة – فهذا تجديد حسن ومطلوب، وإن كان الفقهاء المعاصرون لم يُهْمِلوا هذا الجانب.

وإن كان المقصود بتجْديد الفِقْه إعادةَ النَّظر في الثوابت؛ كأحْكام الردَّة، والأحْكام الخاصَّة بالرَّجُل والمرأة والحجاب، وغير ذلك من القضايا التي تميِّز الشَّخصيَّة الإسلاميَّة، والاختيار من أقْوال الفُقهاء ما يتماشى مع شهوات بعْضِ النَّاس، وإن كان هذا القول المُختار غايةً في الشُّذوذ أو خارقًا للإجْماع – فهذا تغيير وليس بتجديد.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/5039/#ixzz6CYaPeHfx