عبر أربعة عشر إصحاحًا من سفر التكوين (37 -50) عرضت التوراة لقصة يوسف منذ البداية، وحتى النهاية. ونحن نجد الروح التي كتبت بها القصة في التوراة مختلفة بصورة كبيرة عن الروح التي وردت بها في القرآن، فضلًا عن الاختلاف في الحقائق والمعلومات، مع أن القرآن يلتقي مع التوراة في هذه القصة ـ بخاصة ـ على نحو كبير، وذلك على العكس من كثير من قصص الأنبياء السابقين. فمن أخبر محمدًا عليه السلام النبيّ الأمي بتلك التفصيلات الدقيقة عن يوسف وآله؟ومن علَّمه هذه الإضافات التي جعلت القرآن {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] في الوقت نفسه؟ ومن أخذ بيد هذا النبيّ الأمي إلى هذه الآفاق التاريخية، والأدبية، والتربوية، والدينية العلمية؛ التي تحفل بها السورة؟ ومع ما ذكرناه من وجود قدر كبير من الالتقاء بين التوراة والقرآن في سورة يوسف إلا أن هناك فروقًا كثيرة بينهما… بين البناء التوراتي للقصة، والبناء القرآني لها… فكيف بالفروق بين ما ورد في التوراة والقرآن في القصص النبوي كله؟ أليس هذا في حدِّ ذاته إعجازًا يستحق الوقوف عنده؟… ويوسف هي نموذجه الأكبر؟!! إن الروح الإيمانية، والتربوية، والأخلاقية تتجلى في السرد القرآني، بينما تتجلى الروح التاريخية في السرد التوراتي، وقد اختلط السرد التوراتي بكثير من الخيال، وتأثر في الوقت نفسه بما كان من واقع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. تذكر التوراة في (الإصحاح السابع والثلاثين) أن يوسف أتى بنميمة اخوته الرديئة إلى أبيهم، وكان هذا سببًا من أسباب حقدهم عليه، ولكنّ الإصحاح لم يذكر لنا هذه الريبة، أو النميمة، وهل هي خطيئة يجب ذكرها أم أنها خطأ عارض.. ولم يرد في القرآن شيء من ذلك. ويذكر (الإصحاح نفسه) أن يوسف حلم حلمين، بينما يذكر القرآن أن يوسف رأى رؤيا واحدة. ويذكر (الإصحاح نفسه) أن يعقوب هو الذي حرّض يوسف بأنْ يذهب إلى إخوته؛ لينظر في سلامتهم، وسلامة الغنم، ويردَّ لأبيه خبرًا، وهو أمر غير مقبول عقليًّا، فذهاب غلام وحده في أعماق الصحراء للبحث عن اخوته الكبار لا يستقيم عقلًا، بينما يذكر القرآن أن الإخوة هم الذين طلبوا من أبيهم أن يذهب يوسف معهم، مدبِّرين أمر قتله. كما أننا نستبعد منطقيًّا أن يقوى يعقوب ـ نفسيًّا ـ على إرسال الغلام الأثير لديه وهو يوسف (الذي قيل أن الذئب أكله)؛ ليطمئن على سلامة إخوته الكبار والغنم، ثم يردّ الخبر لأبيه، مع أنه كان يتردد في إرساله في صحبة إخوته… إنه تناقض (توراتي) واضح من كل الوجوه!! وتتحدث التوراة عن سرعة تصديق يعقوب لأولاده، بينما يظهر القرآن ارتياب يعقوب في أولاده؛ بل واتهامه الصريح لهم قائلًا: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18]؛ وهذا هو السلوك الطبيعي!! ويأتي القرآن بموقف الصراع الدرامي بين يوسف وامرأة العزيز: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ…} [يوسف: 24]، دلالة على عظمة يوسف الإنسان الوفي؛ في الانتصار على الشيطان، والنزعات الإنسانية، ثم يورد القرآن الأسباب التي أوردها يوسف تبريرًا لموقفه العظيم، وهي عون الله له؛ المتمثل في برهان ربه، وصرف السوء عنه، واصطفائه، والوفاء لسيده (زوجها)، وخشيته لله. بينما لا تورد التوراة ذكرًا لهذا الموقف الدرامي بكل جوانبه الإيمانية؛ التي تحسب ليوسف الإنسان، الشاب المؤمن، سليل الأنبياء… وهو الموقف الذي يعلمنا الكثير من القيم التربوية. وقد ذهبت التوراة إلى أن المرأة أخذت قميص يوسف، بينما يشير القرآن إلى أن المرأة لم تتمكن إلا من شق القميص من الخلف وهي تلاحقه. ♦ وبينما يتحدث القرآن عن إدانة العزيز لموقف امرأته، تتحدث التوراة عن إدانة العزيز ليوسف نفسه، وهو أمر غريب بالنسبة لشهادة الشاهد؛ الذي ورد الحديث عنه في القرآن. ♦ وفي السجن يعمل يوسف واعظًا لأصحابه، ويعلمهم التوحيد، بينما لا تورد التوراة شيئًا من ذلك. ♦ وفي القرآن ما يفيد أن تعبير الرؤيا للمسجونين، وللملك بعد ذلك كان بطلب من الآخرين ليوسف {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]، أما في التوراة فإن يوسف هو الذي يرشح نفسه لتعبير الرؤيا. ♦ وفي القرآن إشارة إلى عام النجاة والرخاء (بعد مرور الأربعة عشر عامًا)، بينما لم ترد في التوراة إشارة إلى ذلك. ♦ وفي القرآن يرفض يوسف الخروج من السجن إلا بعد ردّ اعتباره {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]. بينما تذكر التوراة أن هذا الأمر ترك ليوسف نفسه بعد خروجه من السجن. ♦ ونحن نجد أن شخصية النبي المتألقة، وظهور الروح، والاهتمام بالآخرة، وحمد الله، والثناء عليه؛ معالم تتكرر عبر القصة في القرآن، لكن في التوراة لا نكاد نجد شيئًا من ذلك؛ بل تسيطر الروح القائمة على السرد الجاف للوقائع، وكأن التوراة ليست كتاب وحي، وهداية، وتربية. ♦ وقد ذكرنا أن يوسف لم يتحرج من طلب مسئولية الإشراف على خزائن مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55]. ولكن التوراة تذكر أنه لم يطلبها، وأنها عرضت عليه ابتداءً من الملك. ♦ ولم يرد في التوراة تشاور الإخوة بعد بقاء أخيهم بنيامين عند يوسف، كما لم ترد عودة الأبناء إلى يعقوب، بعد أن فقدوا أخاهم، ولم ترد أيضًا عودتهم إلى مصر لدى يوسف؛ فكأنَّ الرحلة التي قاموا بها إلى مصر رحلة واحدة، وهي في القرآن رحلتان، والثالثة – مع أبيهم يعقوب – هي الأخيرة. ولم يرد في التوراة إرسال قميص يوسف إلى أبيه، كما لم ترد فيها الإشارة التي تصور تفاؤل أبيهم يعقوب: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94]. ولم يرد في التوراة شفاء يعقوب من العمى بعد أن احتضن قميص يوسف وفيه عرقه الزكيّ [1]، بينما يفصل القرآن هذا الأمر تفصيلًا رائعًا ومعجزًا: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]. وأخيرًا لم يرد ختام ديني للقصة، يتجلى فيه حمد الله، والثناء عليه، وعفو يوسف عن اخوته، وتقريره أن الله هو صاحب الفضل في رفعته، وأن الذي يتقي ويصبر؛ فإن الله لا يضيع أجره لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ♦ أما القرآن فقد عالج كل ذلك بأسلوب يقود إلى الاعتبار، وفقه السنن الكونية، والاجتماعية، مع بيان أن هذا القرآن يخلو من كل صور الافتراء، وأنه تصديق للحق الذي جاء في الكتب السابقة، وتفنيد للباطل الذي ألحقه أصحاب الأهواء بها، وتفصيل لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين. ومع ذلك فإن قصة يوسف – بوحدتها الموضوعية في القرآن – تعد أقرب القصص القرآني إلى ما ورد في التوراة، وحسبنا أن الوقائع الأساسية للتاريخ واحدة في كلتا الروايتين، إلا أن رواية القرآن ـ كما أشرنا بإيجاز ـ تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وفي كلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني، فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب، ومشاعره في القرآن، فهو نبي أكثر منه أبًا، وتبرز هذه الصفة خصوصًا في طريقته في التعبير عن عدم يأسه عندما علم باختفاء يوسف، كما تتجلى في طريقته في التشبث بالأمل حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه. وعلى النقيض من ذلك تذكر التوراة أنه شقَّ ملابسه نصفين، وأخذ ينوح بصوت عالٍ عندما أخبروه بأكل الذئب ليوسف، وهو سلوك لا يليق بنبيّ من أنبياء الله. بل إن يعقوب كما يليق به كنبي أخذ القميص، ولمَّا لم يجد به تمزيقًا، ولا قطعًا قال لهم متهكمًا: ما أحلم هذا الذئب الذي افترس ولدي، ولم يخرق عليه قميصه، ولم يُعمل في قميصه نابًا، ولا ظفرًا، ثم قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، فكأنه قاض حكيم ومحقق ماهر! وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء مع صاحبيه، أم مع السجان نفسه، فهو يتحدث بوصفه نبيًّا يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو خلاصها… والرواية التوراتية لا تخلو من أخطاء تاريخية تثبت صفة (الوضع التاريخي)، فمثلًا فقرة: “لأن المصريين لا يجوز لهم أن يأكلوا مع العبرانيين؛ لأنه رجس عند المصريين” يمكننا التأكد من أنها من وضع النساخ الميالين إلى أن يبالغوا في ذكر المحن التي أصابت بني إسرائيل في مصر. فهذا الأمر إنما حدث بعد زمن يوسف وبعد تنامي ثروات بني إسرائيل، وبعد ذهاب دولة الهكسوس؛ التي كانت عونًا للساميين!!. ♦ وفي رواية التوراة استخدام إخوة يوسف في سفرهم “حميرًا” بدلًا من “العير” في رواية القرآن، على حين أن استخدام الحمير لا يمكن أن يتسنى للعبرانيين إلا بعد استقرارهم في وادي النيل، بعدما صاروا حضريين، إذ الحمار حيوان حضري، عاجز في كل حالة عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة؛ لكي يجيء من فلسطين، وفضلًا عن ذلك فإن ذرية إبراهيم، ويوسف كانوا يعيشون في حالة الرعاة الرحل، رعاة المواشي والأغنام [2]. إن الإصحاح (السادس والأربعين) من التوراة يضم أسماء الذين صعدوا مع يعقوب من أبنائه، وأحفاده إلى مصر، وقد بلغ عددهم ستة وستين نفسًا من صلبه؛ عدا زوجات بنيه، وعدا يوسف وابنيه الـّلذين ولدا في مصر… أما الإصحاح (التاسع والأربعون) فيروي قصة جمع يعقوب لبنيه قبيل وفاته، ووصفه كل واحد منهم وصفًا فيه كثير من الغرابة.. وهو وصف لا يليق ـ في أسلوبه على الأقل ـ بنبي الله يعقوب (عليه السلام). وقال عن يهوذا: إياك يحمد إخوتك – يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك. يهوذا شبل أسد، من فريسة صعدت يا ابني… رابط بالجفنة جحشه، وبأفضل كرمه ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب رداءه – عيناه أشد سوادًا من الخمر، وأسنانه أشد بياضًا من اللبن. زبولون: في سواحل البحر يسكن، وعند مرفأ السفن، وطرف تخمه إلى صيدون. أشير: طعامه دسم، وهو يعطى ملذات الملوك. نفتالي: أيلة سائمة ـ وعل ـ يردد أقوال الحسنى. يوسف: غض مفرع على عير… له فروع قد امتدت على سور (…) ثبتت قوسه بمتانة، وتشددت سواعد يديه من يدي عزيز يعقوب (…) من إله أبيك الذي يعينك، ومن القدير الذي يباركك. تأتي بركة السماء من العلو، وبركات الغمر الراكد بركات الثديين والرحم. بركات أبيك تضاف إلى بركات آبائي، إلى منية الآكام الدهرية؛ لتكن على رأس يوسف وعلى قمة نذير إخوته. بنيامين: ذئب يفترس بالغداة يأكل غنيمة، وبالعشي يقسم السلب [3]. وهكذا كانت نبوءة يعقوب لأبنائه… وهي لا تخلو في تعبيرها من غرائب وكلمات لا تليق!! ويردّ (ليوتاكسيل) على اللاهوتيين؛ الذين يرون أن ما نطق به يعقوب على فراش الموت هو نبوءات قائلًا: (إنه من الطريف أن نرى لاحقًا أن أحفاد لاوي لم يكونوا عاثري الحظ أبدًا، فإليهم بالذات منح حق وراثة إسرائيل بخيراته وامتيازاته كلها) [4]. وأيضًا كما يقول (ليوتاكسيل): (كان يجب على يعقوب أن يعطي البكورية إلى يوسف، بكره من راحيل الحبيبة، يوسف عزاء شيخوخة يعقوب، ومصدر فرحه، وثروة بيته، لكن يعقوب اختار يهوذا؛ يهوذا الذي حرض اخوته على بيع يوسف عبدًا إلى تجار غرباء كان هو الأقرب إلى قلب يعقوب، وله أعطى العجوز المحتضر حق البطريركية؛ الذي كان جزءًا من تركته الإلهية) [5]. ونحن من جانبنا نتساءل: هل هذا الكلام شبه الخيالي يليق بنبي مثل يعقوب؟.. وما الفائدة منه؟.. وهل ينسجم هذا مع لغة الوحي الكريم الواردة في القرآن؛ والتي ينبغي أن ترد في كل الكتب السماوية؛ مهما اختلفت لغاتها.. وهذا فارق كبير بين أسلوب التوراة والقرآن ومنهجيهما.

___________________________________________________

[1] انظر: الكتاب المقدس: سفر التكوين، الإصحاحات 37 ـ 50، ص: (51 ـ 73)، ط/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، وانظر مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية، ص: 250 ـ 251، (بتصرف)، دار الفكر سوريا، ط/ 4، (1407هـ 1987م)

.[2] مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية، ص: 252، 253.

[3] التوراة: التكوين، الإصحاح التاسع والأربعون، وانظر: التوراة السامرية: التكوين، إصحاح (49)، ص: 110، دار الأنصار، طبعة أولى، مصر (1978). وانظر: محمد عزة دروزة: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، ص: 62 ـ 63، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، صيدا ـ بيروت.

[4] التوراة (كتاب مقدس أم جمع من الأساطير)، ترجمة د/ حسان مخائيل اسحق، ص: 162، ط1، 1994م، بيروت.

[5] المكان السابق، ونحن ننقل قول (ليوتاكسيل) مستدلين به على التناقض، وليس تأييدًا له فيما يتصل باتهامات التوراة لأبناء يعقوب بأشياء أخلاقية!!