انهيار فلسفة الربوبية

 

بعض الناس أمام أدلة الخلق والإيجاد والصنع الإلهي المتقن لمنظومات الحياة والكون، يضطرون إلى التسليم لله بالخلق لكنهم يرفضون التسليم له بالطاعة، وهؤلاء يُسمون الربوبية.

فهم يرفضون الرسل والرسالات!

وفي مثلهم يقول الله تعالى {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} ﴿٩١﴾ سورة الأنعام.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: “وما عظموا الله حق تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم”.

فمَن أنكر رسل الله لم يُقدر الله حق قدره، إذ يفترض أن الله خلقنا ولم يهدينا سبل النجاة، ولم يبين لنا غائية وجودنا.

 

ويزعم هؤلاء الربوبية أن العقل كافٍ لتحقيق مراد الله من خلقه.

لكنهم وقعوا بذلك في إشكالٍ كبير
فالذكاء الإنساني متفاوت وبالتالي تتغير صفات الإله ومراداته حسب القدرات العقلية والمنهج الاستنباطي لكل ربوبي، وحتماً هناك مَن يُجيز على الإله ما لا يُجيزه غيره .

وبالتالي تكون أمامنا عقولٌ متفاوتة ينتج عنها نسخٌ عن صفات الإله تختلف كل نسخة اختلافاً جذرياً عن النسخة الأُخرى، والمشكلة الفعلية هي: أي نسخة سيؤمن بها الإنسان؟

وبأي حُجة سيتم إقناع أتباع الربوبية باعتماد هذه النسخة بديلاً عن نسخٍ أُخرى؟

وماذا لو ظهرت في المستقبل نُسخٌ أكثر رقياً هل سيتم اعتمادها واعتبار أن المؤمنين بالنسخ السابقة لم يكونوا يعرفون الإله الحقيقي ؟

وكيف يتم إقناع الربوبيين بوجود نسخة حصرية وعقل حصري استطاع أن يعرف صفات الإله الحقيقية؟

أليس من الممكن أن يحدث تمرد عام داخل المذهب الربوبي، لأن فكرة العقل الحصري والنسخة الحصرية هي فكرة لا يمكن استيعابها إلا في إطار وحي ورسالات وبالتالي انهيار كامل لأصل الأصول في الربوبية ؟

ثم ما الذي يجعل هذه النسخة أفضل من نُسخ أخرى لا نهائية يفترضها العقل الواحد بمرور السنين والتجارب والنمو الفكري والعقل الأداتي ؟
إذن يجب تأجيل طرح النسخة للإيمان الذاتي إلى حين قبل الموت بلحظات بحيث لا تبقى فرصة لطرح نُسخ أعلى رقياً وأكثر تهذباً.

مما سبق يتبين استحالة – استحالة – استحالة اعتبار العقل معياراً لتحديد صفات الإله أو مراداته من خلقه، واستحالة اعتبار النُسخ العقلية التي يفترضها لتحديد صفات الإله هي نسخ حصرية، ومن هنا يتبين انهيار الربوبية في أعظم أصل من أُصولها وهو استخدام العقل في تحديد صفات الإله ومراداته.

إن العقل يؤله ويوثن، ويصنع الوهم والخرافة والحقيقة.

فكيف يكلنا الخالق إلى عقولنا وحدها دون بيانٍ، ورسالة هداية؟

كيف تكون الربوبية هي ما يريده الله منا وتكون هي المنهج الذي يرتضيه الله لعباده، والعقل لا يعرف مستقلاً ماذا بعد الموت ولا يعرف لماذا هو في هذا العالم ولا يعرف ألف باء أجوبة للأسئلة الوجودية الكبرى في حياتنا.

فالعقل بدون النبوات، كالعين بدون آلية الإبصار، وكالأذن بدون آلية السمع. {لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} ﴿١٧٩﴾ سورة الأعراف.

 

فللعقول أقيسة لا نهائية لكل مسألة، وضروب متباينة متفاوتة. فكيف ينجو بعقله مَن رأى نسبية طرحه؟

 

يقول ابن قتيبة رحمه الله: “وقد كان يجب مع ما يدّعونه – في تقديسهم للعقل-من معرفة القياس وإعداد آلات النظر أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسّاب والمُسّاح والمُهندسون، لأن آلاتهم لا تدل إلى على عددٍ واحد، وإلا على شكلٍ واحد، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا؟

لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمرٍ واحدٍ.”

تأويل مختلف الحديث ص14.

 

فما أشد تشرذم الذين اعتمدوا العقل وحده في النظر!

فالعقول متفاوتة. ولا إجابة إلا ببعثة الرسل فهي التي تحسم الخلاف بين العقول.

قال الماوردي: “إن قضايا العقول قد تختلف فيما تتكافأ فيه أدلتها فانحسم ببعثة الرسل”.

أعلام النبوة للماوردي 2-68.

 

وتفاوت العقول ليس لتفاوت الأفهام فحسب، ولا لتفاوت القدرات والملكات فقط. بل إن العقل ذاته يتغير في كل لحظةٍ. فانظر إلى نفسك في يومك وأمسك وغدك. وانظر إلى ما كنت لا تعقله ثم عقلته ثم ربما غدًا لفظته أو عقِلت غيره. فهذا حالك وأنت بعقلك لا بعقل غيرك تتقلب!

ف: “رحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة، وكل ما فيها خيرٌ مما يجمعون بعقولهم المختالة.” الملل والنحل 2-252.

 

 

والعقل لا يدل على شيءٍ من الغيب ولا يعرف تفصيل الماوراء وجزئياته فضلاً عن مجمله فضلاً عن ثبوته أو نفيه!

ثم ما فائدة أن تشهد آيات الخلق وشواهد الحق وحِكَم النِعم بعقلك، ثم لا تعرف ردة فعلك الأصلح تجاه ذلك وغاية وجودك؟

فأي تخلفٍ وانحطاطٍ معرفيٍ يريد أن يعيشه هؤلاء منكرو الرسالات؟

 

فليس أكفر من الربوبي الذي يرد على الله وحيه ويعترض نبوة نبيه وينكر رسالته {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} ﴿٩﴾ سورة محمد.

فالربوبي الذي يؤمن بالله ويكفر برسله هذه عقيدته {يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله} ﴿١٥٠﴾ سورة النساء.

وهذا مصيره {أولئك هم الكافرون حقا} ﴿١٥١﴾.

لقد انهارت الربوبية في أصل أصولها ، وانهار معها حلمٌ جديدٌ لإعادة الوثنية بصورة أكثر عقلية وأكثر حكمة ومنطقية في الظاهر لكن في الباطن لا تختلف الربوبية في منهجها الاستدلالي عن أحط الديانات إغراقا في الوثنية والمادية؛ لأن العقل الذي يؤله هو العقل الذي يوثن كما فصّلنا ، وعليه تكون الربوبية هي أحد المذاهب الكُفرية لا تختلف كثيرا عن الإلحاد والوثنية والفلسفات المادية، ويعود الربوبي مرةً أخرى ليكتشف أنه من أكفر الخلق وأبعدهم عن الله والحق في الوقت الذي كان يظن أنه العبقري الذي أتى بما لم يأت به الأوائل { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }( الكهف:105:103)

 

 

وكم من ربوبي عبر التاريخ ظن أنه بعقله ناجٍ وهو في الدركات هالك {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ﴿١٤﴾ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ﴿١٥﴾ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ﴿١٦﴾ وما علينا إلا البلاغ المبين ﴿١٧﴾} سورة يس.