إن فهم النفس الإنسانية جزء من فهم الإنسان، والنفس الإنسانية من أجل ذلك، لها مفهوم مختلف في كل ثقافة وكل نظرية اجتماعية وكل فلسفة، وموقف الإسلام منها شأنه في موقفه من الإنسان: من أرحب هذه المناهج نظرة، وأوسعها أفقًا، وأعرفها بميول الإنسان وغرائزه ورغباته، وأكثرها للنفس تحريرًا ودعوة إلى الخير والهدى، والارتفاع عن الدنايا، ولا ريب من أجل ذلك، يقال: إن للإسلام علم نفس خاصًا مختلفًا عن المفاهيم التي طرحتها بعض النظريات التي قامت على الخطيئة والخلاص وإذلال النفس بتحريم الطيبات، وكراهية الرغبات، وسد باب الغرائز، ثم إن هذه المفاهيم الإسلامية – في مجموعها – تختلف عما يطلق عليه في العصر الحديث: “علم النفس” الذي هو – في حقيقته – ###4### مجموعة من العقائد التلموذية مصاغة في أسلوب له طابع علمي خادع.

ولا ريب أن فيما طرح من أفكار ونظريات نفسية عن طريق المدارس المختلفة الموجودة الآن حقائق وأخطاء، وتصورات صحيحة وفاسدة، وفرضيات قد تصدق في بعض المجتمعات، ولا تصدق في البعض الآخر غير أن الأصول الأصيلة لمفاهيم “النفس” إنما هي ميزات النبوة، وما قدمه القرآن، وصاغه العلماء المسلمون مما لا زال هو خير ما هنالك.

فلقد قدم علماء المسلمين مجموعة من الأصول العامة لفهم النفس الإنسانية، تمثل نظرة الإسلام الجامعة الكاملة المتوازنة القائمة أساسًا على المجاهدة والكظم في مواجهة الرغبات المذلة، والتماس الفطرة، والإعتدال في الرغبات المباحة.

ولقد جعل الإسلام معرفة النفس سبيلا إلى إصلاحها وإلى تهذيب الأخلاق، وكلمة: (اعرف نفسك) التي تطرحها الفلسفات الوافدة كلمة مضلة، فإن الإنسان لا يعرف نفسه إلا إذا عرف ربه، ولذلك كانت القاعدة الإسلامية الأولى: “اعرفوا ربكم، تعرفوا أنفسكم” ومن عرف ربه ###5### جل، ومن عرف نفسه ذل، وتهذيب الأخلاق لا يتأتى إلا بمعرفة عيوب النفس التي ينبغي على الإنسان أن يتجنبها حتى يسير في “الطريق المستقيم”، فلكي يرى الإنسان النفس عليه أن يراقب سلوكها الظاهر.

يقول ابن عباس: إن في ابن آدم نفسًا وروحًا بينهما مثل شعاع الشمس، والنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، إلا أن النفس والروح يتوفيان عند الموت في حين أن النفس وحدها هي التي تتوفى عند النوم.

ويتبع هذا المعنى: أن النفس ليست بجسم، وإنما هي من الجسم بمثابة العرض من الجوهر، كما أنها هي الحياة، التي بها يصير البدن حيًا بوجودها فيه، وأن البدن هو صورتها ومظهرها: مظهر كمالاتها وقواها في عالم الشهادة.

ويفسر الإمام الغزالي مظاهر سلوك الإنسان بأربع دوافع أساسية: هي شهوة الطعام، والجنس، والمال، والجاه. وأساس هذه الدوافع كلها غريزة الطعام، إذ تتفرغ الرغبة الجنسية، وحب المال والسلطان منها، ويسمي الغزالي هذه الغريزة البطن.

ويقول: إن الاعتدال هو الميزان الصحيح لجمي أنواع السلوك، والخروج عن حد الاعتدال إلى الإفراط أو التفريط، ###6### هو مصدر الأمراض النفسية، والعلاج هو العودة إلى الاعتدال الواجب.

والغاية من كل سلوك: معرفة الله ومراعاة ما أمر به في كتابه ليهتدي الناس إلى الصراط المستقيم واتباع سبل التقوى.

والغريزة الجنسية – عند الغزالي – ركبت لفائدتين: اللذة وبقاء النسل، ومع ذلك فإن اللذة ليست مطلوبة لذاتها، أو لبقاء النسل، بل لشيء آخر أسمى وأرفع، هو أن يدرك الإنسان لذاته، فيقيس لذات الآخرة، والغزالي يرى أن للشهوة مراحل ثلاثًا: إفراطًا وتفريطًا واعتدالا.

فالإفراط ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجل إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم من سلوك سبيل الآخرة، أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش، والتفريط في هذه الشهوة، هو الضعف، وهو مذموم، أما المحمود، فهو أن تكون معتدلة ومطابقة للعقل والشرع.

ورسم الغزالي لعلاج هذه الشهوة أمورًا ثلاثة هي:

1- الجوع. 2- غض البصر. 3- الاشتغال بشيء يستولي على القلب.

وإذا نظرنا في مفاهيم علم النفس المطروحة الآن، نجد أن فرويد رد السلوك الإنساني إلى الغريزة الجنسية، وأن ادلر رد ###7### السلوك الإنساني إلى غريزة السيطرة، وأن الغزالي رد السلوك الإنساني إلى: شهوة الطعام، ومن شهوة الطعام إلى سائر الشهوات. وكان ذلك شأن النظرة الإسلامية في كل الأمور، فهي أوسع أفقًا وأقدر على معرفة الأبعاد المختلفة للشخصية الإنسانية.

والإسلام ينظر إلى النفس الإنسانية في إطار “التوازن” بعيدًا عن طرفي الزهادة والإباحة، فهو يعارض الإسراف والجمود معًا.

وقد أباح الإسلام شهوة الطعام والجنس والاستمتاع بطيبات الحياة، ولكنه وضعها في إطار يحمي به النفس الإنسانية من الانحراف، وحفظها لكي تكون قادرة على التماس طريقها إلى أشواقها الروحية ودون أن يغلق عنها هذا الباب الذي هو أحد بابيها الأصليين: من حيث هي سلالة من طين، ونفحة من الروح.

2- إذا التمسنا مطالع علم النفس الإسلامي من القرآن وجدناها واضحة صريحة: «ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» [الشمس: 7].

هذه هي الحقيقة الأولى التي تقرر أن النفس الإنسانية ###8### مؤهلة لطريق الخير وطريق الشر، وأن إرادتها الحرة، هي التي تتجه بها إلى أحدهما، ومن أجل ذلك جاء الدين الحق عن طريق الوحي ليهدي الإنسان إلى أحسن السبل، وليحذِّره من الطرق المنحرفة.

وقد سبق الإسلام علم النفس الحديث في ذلك بأكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وقد وصل المسلمون إلى أن النفس شيء، ليس بالجسم، وليس بجزء من الجسم، وأنه شيء آخر له جوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله، يتشوق إلى العلوم والمعارف كتشوق البدن إلى المأكل والمشرب.

وقد أورد القرآن ثلاث نفوس، هي مراحل للنفس الإنسانية النفس الأمارة، النفس اللوامة، النفس المطمئنة.

أما النفس الأمارة، فهي التي تمثل الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الأهواء.

وأما النفس اللوامة، فهي التي تنورت بنور القلب، وتنبهت عن سنة الغفلة، كلما صدرت عنها سيئة بحكم طبيعتها، أخذت تلوم نفسها، وتنوب عنها.

أما النفس المطمئنة، فهي التي وصلت إلى درجة اليقين، وتحررت من صفاتها الذميمة، وتخلفت بالأخلاق الحميدة.

###9### 3- وللنفس أثرها في الجسم، نتيجة الارتباط الوثيق بينهما، فإن ما يصيب النفس من الشك أو الملل أو القلق أو الخوف، له أثره في الجسم، وإذا كانت البحوث النفسية قد تقدمت في السنوات الأخيرة، وقررت استحالة الفصل بين الجسم والنفس، وأن الفصل بينهما فصل لجوهرين متلازمين، يتأثر أحدهما بالآخر، وأن العلاج الصحيح ينبغي أن يوجه إليهما معًا، فإن هذا كله مما قرره علماء المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون.

فالحكمة في النفس، والإيمان والرضى، والغضب والسخط من النفس، وإن الوعد بالجنة كان للنفس، ولم يكن للجسم: «يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فأدخلي في عبادي، وأدخلي جنتي» [الفجر: 27] فالوعد بالجنة والخلود للنفس، وليس للجسم، وكل الفضائل والرذائل منها، وهي التي تقود إلى الشر، وتقود إلى الخير.

وفي كل نفس منطقة للخوف، ومنطقة للأمان، يتوازيان في الحالة السوية، فإذا طغت إحداهما على الأخرى، كانت النفس غير سوية، والإيمان هو مصدر السكينة والطمأنينة والأمن، فإذا تنكرت له النفس، وانطلقت إلى ###10### الأهواء، عاشت في الخوف والقلق والتمزق حتى تعود إليه مرة أخرى، وإذا كانت أزمة الإنسان المعاصر الآن هي الخوف والقلق، وما أحدثت من تدمير خطير، فإنما يرجع ذلك إلى أن النفس أنكرت وجودها الحقيقي، وهذه واحدة من الحقائق التي قررها علم النفس الإسلامي: “إذا تغلب الخوف على الإنسان، فقد اتزانه وقدرته، وأصبح إنسانًا خائفًا من الحقيقة والخيال، ومن الممكن، وغير الممكن”.

والمسلم يقف بين الخوف والأمان، وهما لا يستقران في النطاق المعقول إلا بالإيمان بالله ومعرفته التي هي العاصم من الخوف، والإيمان ضياء ونور، فهو يبدد ظلمات النفس حتى تطمئن، والإنسان يخاف ما يجهل، فكلما كان نطاق الجهل كبيرًا، كان الخوف أعظم.

كذلك دعا الإسلام الإنسان إلى أمرين: 1- إتقاء شح النفس بالإنفاق. 2- والإنصاف من النفس بالإعتراف بالخطأ.

فإذا استطاع الإنسان التغلب على نفسه، كان على غيرها أقدر؛ ولن يكون الإنسان قزو فعالة إلا إذا تحرر من مطامعه وأهوائه، واستطاع كبح غرائزه وشهواته.

كذلك دعا الإسلام الإنسان إلى تغيير النفس، وأنه هو ###11### مصدر الإنتصار الحقيقي، فإذا استطاعت الأمة أن تغير نفسها، فإنها تصل إلى مرحلة أعظم من درجات القوة والسيادة: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» [الرعد: 11] «ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» [الأنفال: 53].

4- أعلن القرآن قيام الحارس والرقيب اليقظ في النفس الإنسانية، يذودها عن الشر، ويدعوها إلى الخير، وينقلها من الخطأ إلى الصحيح؛ ويسمي القرآن هذا الرقيب باسم النفس اللوامة: «واللذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم، ذكروا الله، فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله» [آل عمران: 53].

وهذا ما يسمى في العصر الحديث بالضمير، فالنفس اللوامة حافظة للإنسان من الإنحرافات.

وقد أودع الله النفس البشرية هذه الملكة “الرقيب” أو الحارس اليقظ، تحاسب الإنسان على تصرفاته، وقد تؤرق نومه إذا تلكأ في إصلاح أمره؛ ولكن هذا الرقيب يبدأ ضعيفًا في نفس الإنسان، ثم يستطيع الإنسان تنميته وتقويته، وقد ###12### يتركه الإنسان، فيضعف عن المقاومة، وقد يتلاشى أمام التبريرات الوهمية.

5- يدعو الإسلام الإنسان أن يفهم ذاته، ويفهم الكون وما وراء الطبيعة، وذلك من منطلق رسالة الدين الحق، أما فكرة اكتشاف الفرد لنفسه بغير معين أو دليل أو علم أصيل، فإنها وسيلة إلى تدميره.

ولقد هدى الدين الحق الإنسان إلى مكانه في الكون ورسالته ومسؤوليته وأمانته، وعلمه فهم العلاقة بين العوالم الثلاثة: عالم الطبيعة، وعالم الإنسان، وعالم الغيب؛ ودعاه إلى الحذر من أن تبهره الكشوف الطبيعية، فإن في نفسه ما هو أدق من ذلك صنعًا: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات: 21].

كذلك أعلن الإسلام وحدة النفس البشرية فهي من أصل واحد، ووحدة الإنسان جماعًا بين الروح والجسم، ووحدة الحياة جماعًا بين الدنيا والآخرة.

وأرسى التوازن بين النفس الإنسانية والجماعة، وحدد علاقة الإنسان بنفسه وبالإنسان وبالجماعة، وأشاع روح الطمأنينة إلى فضل الله والأمل فيه وبه، فألغى بذلك فكرة ###13### التشاؤم والقلق. كذلك رفض فكرتي التهافت على الحياة، والهروب من الحياة.

وحال بين الجفاف العقلي والجمود العاطفي، فأعطى النفس عطاء العقل، وكرم الوجدان الذي هو منبع فياض إلى جوار العقل الذي هو مصدر المقايسات، فخاطب الوجدان بالكون والطبيعة، وخاطب العقل بالعلم، ولما كانت النفس البشرية معارضة لموجات من الشك والطمع والأهواء، فقد دعا الإسلام إلى تزكية النفس وتطهيرها الدائم وتحريرها، وإظهار الفطرة، وإتاحة الفرصة لها، وكشف الأغشية عنها، وذلك بتربية الفرد، وتطهير الإنسان مما يغشى القلوب المريضة، والنفوس المنحرفة.

6- لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة النفس إلا إذا التمس الخيط الذي كشف عنه الدين الحق، وهو أنه مخلوق لغاية ورسالة؛ ولم يخلق عبثًا أو سدى، وأن الدين هو العامل الذي رفع الإنسان من ضعف البشر إلى سمو الإنسان، ورقاه من الحيوانية المتصلة بتركيبه الجسماني إلى الروحانية المتصلة بتركيبه النفسي، فإذا عجز الإنسان عن أن يرقى، ويرتفع فوق ماديته، فقد سجل على نفسه الفشل في رسالته وأمانته في هذه الحياة: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها ###14### فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه» [الأعراف: 176].

7- أن النفس الإنسانية – فيما قدم الدين الحق للإنسان – واضحة المعالم والاتجاه تمام الوضوح، لو أن الإنسان في العصر الحديث التمس هذا العلم، أما العلم التجريبي فإنه ما زال قاصرًا عن فهم الإنسان؛ وسيظل قاصرًا إلا في المجال المادي فقط، لأن فهم النفس الإنسانية مما لا يستطال بالأدوات الموجودة الآن في أيدي العلماء، وهي العقل والتجربة والعمل.

يقول الدكتور اليكسيس كاريل: “إن أغلب الأسئلة التي يلقيها عن أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما زالت غير معروفة، عنحن لا نعرف الإجابة على أسئلة كثيرة مثل: كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية التي تكون المركب، والأعضاء المكونة للخلية، كيف تتقرر “الجينيس” ناقلات الوراثة الموجودة في نواة البويضة الملحقة؟ كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها: مثل الأنسجة والأعضاء؟ فهي كالنما والنحل تعرف مقدمًا الدور الذي قدر لها ان تلعبه في حياة المجموع.

###15### ما هي طبيعة تكويننا النفسي والفسيولوجي؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة والأعضاء والسوائل والشعور، ولكن العلاقات بين الشعور والمخ ما زالت لغزًا، إننا ما زلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريبًا عن فسيولوجية الخلايا الغضبية، أي: إلى أي مدى تؤثر الإرادة في الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟

على أي وجه تستطيع الخصائص العضوية والعقلية التي يرثها كل فرد أن تتغير بواسطة الحياة والمواد الكيماوية الموجودة في الطعام والمناخ، هذا التعقيد في تركيب الكائن الإنساني، وفي وظائفه وأوجه نشاطه، هو الذي يتسق مع ضخامة وتشعب وظيفته الأساسية في خلافة هذه الأرض تعقيدًا ما زال مستعصيًا على العقل البشري لأنه فوق وأكبر منه”، اهـ.

وصدق الله العظيم: «هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم» [النجم: 32].

ويرد كاريل دراسة الإنسان المعقدة إلى أنه: إنسان كائن له عالمه الفرد الخاص الذي لا مثيل له في سائر أفراده، وله عالم جامع للخصائص الإنسانية المشتركة.

يقول: إن الفردية جوهرية في الإنسان؛ إنها ليست مجرد جانب معين من الجسم، إذ أننها تنفذ إلى كل كياننا، وهي ###16### تجعل اللذات حدثًا فريدًا في تاريخ العالم، إنها تطبع الجسم والشعور؛ كما تطبع كل مركب في الكل بطابعها الخاص، وإن ظلت غير منظورة، وتميز الأفراد كل منهم عن الآخر بسهولة بواسطة: تقاطيع وجوههم وإشاراتهم وطريقتهم في المشي، وصفاتهم العقلية والأدبية الخاصة، ومع أن الزمن يحدث تغييرات كثيرة في مظهر الأفراد، إلا أنه يمكن دائمًا معرفة كل فرد بواسطة إبقاء أجزاء معينة من هيكله، وكذلك فإن خطوط أطراف الأصابع مميزات قاطعة للفرد؛ ومن ثم فإن بصمات الأصابع هي التوقيع الحقيقي للإنسان.

ومن المحتمل أنه لم يوجد فردان بين ملايين البشر الذين استوطنوا هذه الأرض، وكان تركيبهما الكيماوي متماثلا، وترتبط شخصية الأنسجة التي تدخل في تركيب الخلايا والاختلاط بطريقة ما زالت غير معروفة حتى الآن، ومن ثم فإن فرديتنا تتأصل جذورها في أعماق ذاتنا.

إننا عاجزون عن اكتشاف الصفات الجوهرية لشخص بعينه، فضلا عن أننا أكثر عجزًا عن اكتشاف إمكانياته.

ويصل اليكسيس كاريل إلى حقائق ثلاثة:

1- حقيقة أن الإنسان كائن فريد في هذا الكون.

2- حقيقة أن الإنسان كائن معقد أشد التعقيد.

3- ###17### حقيقة أن الإنسان يشتمل على عوالم منفردة عددها عدد أفراده.

ويقول: إن هذه الحقائق تقتضي منهجًا للحياة الإنسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها، يرعى تفرد الإنسان في طبيعته وتركيبه، وتفرده في وظيفته وغاية وجوده، وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد وتنوع أوجه نشاطه، ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية.

وبعد هذا كله تضمن له أن يزاول نشاطه كله وفق طاقاته كلها بحيث لا يسحق ولا يكبت، كما لا يسرف ولا يفرط. وبحيث لا يدع طاقة تطغي على طاقة، ولا وظيفة تطغي على وظيفة، ثم يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الأصيلة. مع كونه عضوًا في جماعة.

ولذلك فإن مناهج الحياة التي اتخذها البشر لأنفسهم لم تستطع وضع شيء مناسب لأنها لم تصل بعد إلى أغوار حقائق هذا الكائن، والمنهج الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها، هو المنهج الذي وضعه للإنسان خالقه العليم بتكوينه ونظرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، المنهج الذي يحقق غاية وجوده، ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعته.

###18### ونحن نرى أن هذا التوقف الذي وقفه العلم الحديث، إنما جاء من اعتقاد هذا العلم بقدرته على أن يكتشف الإنسان، بينما لم يكن ذلك في مقدوره، وبينما وجد المنهج الخاص بالإنسان والنفس الإنسانية كاملا عميقًا ما زال متدفقًا بالحياة منذ جاء الإسلام، وما زال صالحًا للتطبيق، ومعلنًا أن كل هذه المذاهب التي صنعها الإنسان لم تكن بقادرة على أن تدله أو تهديه، أو تكشف له أعماق نفسه.

إن المنهج الرباني في الإنسان والنفس، هو الأمل الوحيد الآن للبشرية كلها بعد أن تساقطت المذاهب والنظريات كما تساقطت أوراق الخريف.

ولقد كشف كارل يونج الباحث النفسي عن الخطر الذي يواجه النفس الإنسانية في هذا العصر بالتمزق والمرض.

يقول في مقدمة كتابه (النفس غير المكتشفة):

“استشارني خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشخاص من مختلف شعوب العالم المتحضرة، وعالجت مئات من المرضى فلم أجد مشكلة واحدة من مشكلات أولئك الذين بلغوا منتصف العمر – أي: الخامسة والثلاثين – لا ترجع في أساسها إلا إلى افتقارهم إلى الإيمان، وخروجهم على تعاليم الدين، ويصبح القول بأن كل واحد من هؤلاء، وقع فريسة المرض ###19### لأنه حرم سكينة النفس التي يجلبها الدين – أي دين – ولم يبرأ واحد من هؤلاء المرضى إلا حين استعاد إيمانه، واستعان بأوامر الدين ونواهيه على مواجهة الحياة.

8- ويقول يونج: إن سر أزمة الإنسان هو أنه لم يستكشف ذاته، وأن تحرر الإنسان من التحديات التي تواجهه، إنما يرجع إلى فهم النفس والتغلغل في أعماقها والوصول إلى معرفة كافية للإنسان وإلى إقامة تقييم سليم له، هذا الإنسان الذي يسحقه الآن التطور الآلي، وتعصف بقلاعه، وأن لذة المعرفة، هي السلام الوحيد الذي يقف أمام التدهور الروحي والاستخذاء الجماعي إزاء أنظمة الاستبداد. ويقول: إن النظريات العلمية لا نفع فيها، فبقدر ما تكون النظرية شاملة، بقدر ما تعجز عن الإلمام بالواقع الخاص بالذات، وكل نظرية تعتمد على التجربة، هي بالضرورة نظرية إحصائية، فهي لا تقدم إلا متوسطًا حسابيًا، ويرى يونج أن عملية اغتيال الذات الفردية، ليست قاصرة على الشرق أو على الغرب، فهما يسلبان الحرية الفردية.

ويقرر أن نفس الإنسان كائن مستقل، هو نقيض المادة والجسم، وعنه تصدر ظواهر الوعي والشعور والإرادة، وله ###20### وجوده القائم بذاته وقوانينه الخاصة المميزة.

ثم يقف يونج على مفرق الطريق ليرى المنهج الصالح لدراسة النفس الإنسانية، فهو يرى أنه ليس مذهب زميله وصديق شبابه فرويد، وليس مذهب الفكر الغربي وليس مذهب الماركسية.

والواقع أن المنهج الصالح هو الذي يقدمه الإسلام، والذي لم يحاول الفكر الغربي بعد أن يدرسه، أو يجربه، ولو فعل لوجد فيه عامل تحرره.

أما الدعوة إلى الوجودية أو منهج الاستيطان الذاتي أو منهج البوذية أو غيرها من الدعوات المادية الخالصة، أو الروحية الخالصة من الشرق أو من الغرب، فإنها لن تؤدي إلى فهم حقيقة النفس لأنها غالبًا ستحجب تلك العروة الوثقى القائمة على الترابط الأصيل بين الروح والمادة، والنفس والجسم التي يمثلها منهج الإسلام.

9- لقد مرت البشرية بمرحلتين من الدعوة إلى فهم الإنسان، والنفس الإنسانية، ولم يفلح كلتاهما، لأن الأولى غلبت المادية الصرفة، وجاءت الأخرى، فغلبت الروحية الصرفة، وتركت كل منهما تراثًا، فلم تجد البشرية أمامها طريقًا صحيحًا حتى جاء الإسلام، فوقف موقفًا وسطًا فهو: “لا ###21### يفرض القيود إلى الحد الذي يرهق النفس، ويبطل دفعة الحياة، ولا يطلق الإنسان من عقاله إلى الحد الذي يرده حيوانًا، ويلغي ما تعبت الإنسانية في الوصول إليه في جهادها الطويل من ضوابط لنزع الحيوان”.

وفي هذا المجال الواضح يقدم الإسلام مفهومًا واضحًا:

أساسه الاعتراف بحقوق الإنسان وميوله وعواطفه، والنظر إلى كل ما يتصل بعلم النفس على أنه نظرية وفروض، وليست حقائق علمية مقررة، قامت أساسًا على تجارب خاصة للباحثين، منهم من له ظروفه الخاصة العقلية والاجتماعية، من اضطراب عقلي أو اضطهاد، ويرى ضرورة الحذر من أهواء الفلاسفة والباحثين التي لا ترتقي إلى مستوى القيم الثابتة التي لا تتغير بتغير الظروف أو الأزمان أو البيئات واعتبار أن العلم هو كل ما يتعلق بالمختبرات العلمية والتجريب، أما النظريات الفلسفية، فهي ليسن سوى وجهات نظر تخطئ وتصيب.

كما يلاحظ أن الموجات السياسية المختلفة من استعمارية وشعوبية وصهيونية، إنما تحاول الاستفادة من بعض النظريات التي تتفق مع وجهة نظرها، أو التي تستهدف احتواء الأمم والشعوب وتحويلها عن نظرتها الأصيلة.

###22### ولقد أولى الإسلام تقديره واهتمامه لميول الإنسان وعواطفه وغرائزه الطبيعية باعتبارها فطرية، ولم يمنعها حقها، أو يدمرها أو يقضي عليها، كما فعلت بعض الأديان، بل أفسح لها الطريق الطبيعي والمعتدل، ووضع لها ركائز وضوابط، وأجراها في طريق معبد: قوامه التوسط والبعد عن الغلو والإسراف من ناحية، والتجميد من ناحية أخرى أو الإلغاء من ناحية ثالثة، وعدت الإنسان السوي هو الذي يحتفظ بقواه العقلية والروحية والجسمية، ويطبقها في الاتجاه الطبيعي.

ويرى الإسلام أن وقف تيار هذه الميول بصنوف الرياضات وأشكال الحرمان سبب لتعطيل قوى النفس الإنسانية وصدها عن استخدام جميع وسائلها، وبذلك يتوقف ظهور آثارها في عالم الحس، لذلك جاء الإسلام معترفًا بهذه الميول الطبيعية داعيًا إلى الاعتدال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) [الأعراف: 7].

وصفوة القول في الصلة بين عالم النفس والإسلام أن دراسات العلماء تجمع الأدواء النفسية كلها في داء واحد، هو داء الضمير المدخول أو الضمير المنقسم على نفسه، وأنها تجمع الطب النفساني كله في دواء واحد، هو داء اليقين والإيمان، ###23### وذلك دواء الدين وليس منه عند العلم إلا القليل، لأن العلم سبيل ما يعرف، ولا حاجة به إلى ثقة وتسليم، وإنما يؤمن الإنسان ليعرف كيف يثق، وكيف يبصر موئل الأمان، ثم يركن إليه ركون العارف الآمن.

ويشير الإمام محمد عبده إلى أن الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان، أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان، ويعرضوها عليه، حتى يعرفها ويعود إليها. هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المصفى، أفلا يتيسر لهم أن يحلوا الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود إليها لمعانها الروحي؟ فالدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية، وعرفها إلى أربابها في كل زمان، ولكنهم يعودون، فيجهلونها، وأن العقدة النفسية الكبرى في أعمال النوع البشري، قد تتلخص في كلمتين: “المخاوف المجهولة” وإن الشفاء في تلك العقيدة، يتلخص في الإيمان لأنه أمان وائتمان.

ويصور جون كارل فلوجل في كتابه (الإنسان والأخلاق والمجتمع) عجزت العلوم الحديثة عن الوصول إلى الحقيقة، فيقول: إن موقف علم النفس الآن أشبه بموقف الطبيب يشاهد مريضًا بين الموت والحياة دون أن يستطيع تشخيص ###24### الداء عن طريق الحدس والتخمين، وإن مكتشفات التحليل النفسي ونظرياته في ميدان الغريزة الجنسية، قد صدمت شعور كثير من الناس، فهم يشعرون أن علماء النفس حين يحاولون فهم البواعث التي ترتكز عليها القيم الخلقية والدينية، قد يحطمون هذه القيم عينها، بل لعلهم يعملون فعلا على تحطيمها.

وحذر فلوجل من نتائج هذه الأبحاث، وخاصة ما يتعارض منها مع النظم والعقائد، وقال: ربما كان علماء النفس هم أنفسهم من المصابين بتلك العقد التي يحلو لهم الحديث عنها، ولذلك جاءت معظم أحكامهم مشوبة بالهوى، قائمة على معرفة مبتسرة.

وقال: إن علم النفس علم مهمته مقصورة على وصف حقائق الحياة العقلية وتصنيفها؛ فلا شأن له بالقيم ذاتها.

ويقول العقاد: إن أكبر معالجات علم النفس، هو القلق: مصدر المرض النفسي والانقسام الداخلي وانفصام الشخصية؛ ويقترن بهذا الخطر – وقد يكون من أسبابه – داء الحيرة بين حياة الروح وحياة الجسد؛ وبين تغليب الروح بالجور على المتعة الجنسية، وتغليب حياة الجسد بالاسترسال مع الشهوات والإقبال على اللذات الحيوانية دون غيرها؛ وفي ###25### الإسلام عصمة من كل داء من أدواء هذا الفصام الذي يمزق طوية الفرد، أو يمزق صورة الوجود كله بين خصومات الفكر وخصومات العقيدة وخصومات المثل العليا في كل قبلة يتجه إليها، فليس في الإسلام عداء بين الروح والجسد؛ وليس للجسد فيه محنة تمتحنه بالصراع بين الطيبات من متعة الروح أو متعة الجسد.

10- ومن كل هذه المراجعات في موقف الأديان والفلسفات والمذاهب: تجد أن التصور الإسلامي، هو أعمق هذه التصورات وأوسعها وأكثرها عمقًا؛ وأصدقها تعرفًا إلى الفطرة، وأقربها إلى العلم والعقل. فالإنسان – في نظر الإسلام – كائن كريم لا هو بالملاك ولا هو بالشيطان؛ له مطامع تشده إلى الأرض، وله أشواق تربطه بالسماء، والإسلام من أجل إقامة التوازن بين نوازعه وأشواقه، يرسم لها طريقًا وسطًا، ويعمد إلى إيجاد الموائمة في نفس الفرد بين قواه المختلفة مما يؤدي إلى سلامة الكيان البشري وحسن تناسق الفرد مع المجتمع، فهو يحفظه دون أن يجمد بالرهبانية، أو يتمزق بالإباحة حتى يستطيع أن يكون قادرًا على أداء رسالته ومسؤوليته، وهو يحقق له رغبات جسده وعقله وروحه؛ واعتراف الإسلام بالطبيعة البشرية وبحق ممارستها مع وضع ###26### الضوابط والحدود لها: يحول دون كل ما يسمى من كبت أو تمزق أو ضياع.

كذلك فإن من أبرز معطيات الإسلام: التفاؤل برحمة الله، فليس في الإسلام أي ملمح ليأس أو انهزامية أو ضعف أو تشاؤم؛ كذلك فإن هذا الاتجاه الجامع الوسط يحول دون طوابع الوثنية أو عبادة الشهوة أو عبادة الفرد، كذلك فإنه يدفع إلى التضحية والتقوى والبذل والفداء.