الداعية عبد العزيز بن صالح الكنهل

القصص القرآني
وقفات وعبر (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

فسبق أن كتبتُ الحلقة الأولى من حلقات (القصص القرآني: وقفات وعبر)، وهذه هي الحلقة الثانية، سائلًا الله سبحانه التوفيق والإخلاص والانتفاع بها.

فمن القصص القرآني القصص الآتية:

أولًا: قصة عفو أبي بكر رضي الله عنه عن الصحابي البدري مِسطح بن أثاثة رضي الله عنه، بعدما خاض في عِرض أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

فقد أنزل الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم آياتٍ تحثُّ أبا بكر رضي الله عنه على العفو عن مسطح، وإعادة النفقة إليه؛ قال عز وجل: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فماذا كان موقف أبي بكر رضي الله عنه، الذي كان قد أقسم بقطع النفقة عن مسطح؟ قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: ((والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا، ولا أنفعه بنفع أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها ما أدخل، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فأنـزل الله في ذلك: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ… ﴾ [النور: 22] الآية، قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح نفقته التي كان يُنْفِق عليه، وقال: والله لا أنـزعها منه أبدًا)).

انظروا كيف التعظيم لله سبحانه ولكلامه القرآن، والرغبة الشديدة في عفو الله عنه.

وأعظم من هذه الحادثة عفوُ النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد فتحها، وهم الذين أخرجوه وقاتلوه وآذَوه، وآذَوا أصحابه رضي الله عنهم؛ حيث قال لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وكذلك عفو النبي يوسف عليه السلام عن إخوته، وقد آذَوه أذًى عظيمًا، وأعظم من ذلك دعاؤه لهم؛ حيث قال سبحانه: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]؛ حيث عفا عنهم مع قدرته على الانتقام منهم، ثم زاد عليه الدعاء لهم، ويلحظ أن كلًّا من نبينا محمد ونبي الله يوسف عليهما الصلاة والسلام قد عفيا، مع قدرتهما على الانتقام، ويعقوب عليه السلام عفا عن أولاده ودعا لهم، والله سبحانه مدح مَن يفعل ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، وبعض الناس اليوم يخاصم زوجته أو أقاربه أو زملاء العمل، وقد يقاطعهم مددًا طويلة بسبب بعض الأخطاء.

ثانيًا: قصة الدعاء الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعد بناء الكعبة:

قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، سبحان الله يقومان بأعظم عمل، ومع ذلك يخشيان عدم قبول عملهما، ويسألان الله قبوله؛ جاء عن وهيب بن الورد أنه يبكي حين يقرأ هذه الآية، ويقول: “يا خليل الرحمن، ترفع قوائم البيت وأنت مشفق ألَّا يُقبَلَ منك”.

وهذه الآية تعطينا درسًا مهمًا جدًّا في الإخلاص وعدم الإعجاب بالأعمال، وسؤال الله سبحانه دائمًا التوفيق للإخلاص والقبول.

ثالثًا: قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين:

قال سبحانه: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23].

يُلحظ هنا أن موسى عليه السلام رقَّ قلبه رِقَّةً عظيمةً لحال فتاتين ضعيفتين لا تستطيعان مزاحمة الناس عند البئر لسقاية أغنامهما، فسألهما: ﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾؛ أي: ما سبب اعتزالكما وعدم سقايتكما لبهائمكما؟ فأجابتا بجواب مؤثر في القلوب الرحيمة: ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23]، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن ترجم عن تأثره لحالهما، فبادر فورًا لمساعدتهما، فزاحم الناس وسقى أغنامهما، وفي هذا الموقف النبيل من نبي الله عليه السلام فوائد عظيمة؛ منها:

♦ ذم القسوة والجفا وعدم الشفقة والرحمة مثلما كان عليه ما كان عليه أولئك الرعاة.

♦ مدح الشفقة والرحمة والمبادرة لمساعدة الضعفاء مثلما فعل موسى عليه السلام.

ثم قال سبحانه: ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، وفيها فائدة عظيمة في ضرورة اللجوء لله سبحانه دائمًا في تفريج الكرب وطلب الرزق؛ فموسى عليه السلام دخل مدين هاربًا من بطش فرعون، ودخلها غريبًا لا يعرف أحدًا، وزيادة على ذلك سقى للفتاتين دون مقابل، وكان ذلك وقت اشتداد الحر لأنه أوى لظلِّ شجرة، ثم دعا ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾، فما أسرع ما استجاب الله دعاءه! وهذه ثمرة لأمرين؛ هما: عمل الخير احتسابًا، والدعاء بصدق ويقين؛ قال سبحانه: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، وفي هذا المقطع من الفوائد الآتي:

1- أهمية الإخلاص في الأعمال.

2- الأجر العظيم في مساعدة الضعفاء، وأنه من أسباب إجابة الدعاء.

3- أهمية استحضار عظمة الله سبحانه، وقدرته على تفريج الكرب وتيسير الرزق، ثم ملازمة الدعاء بطلب ذلك كله.

4- لاحظوا في قوله سبحانه: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾، كيف أن هذه الفتاة التي تربت في بيت صلاحٍ وتُقًى جاءت لموسى عليه السلام مستحية جدًّا في مِشيتها وهيئتها؛ حتى لا يُساءَ الظن بها؛ قال بن عباس رضي الله عنه: “غطت وجهها بطرف كُمِّها”، مع أن الحجاب لم يكن مفروضًا في عصرهم، ولكنها التربية الصحيحة على الستر والحياء، فاحرصوا على تربية مَن ولَّاكم الله أمرهن على ذلك.

إلى آخر القصة وما فيها من زواج موسى عليه السلام من إحدى الفتاتين، مقابل خدمته لوالدها بعض السنوات.

رابعًا: قصة الذي أحضر عرش ملكة اليمن في طرفة عين:

قال سبحانه: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، وفيها من الفوائد:

1- عظيم قدرة الله سبحانه؛ فعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق سبحانه الذي منحه هذه القدرة العجيبة الباهرة.

2- التواضع لله سبحانه، وشكره على نِعَمِهِ كما فعل سليمان عليه السلام.

حفظكم الله، وأسأل الله أن يرزقكم محبة القرآن قولًا وعملًا، والإكثار من تلاوته بتدبرٍ، والوقوف عند عجائبه والعمل به.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.