من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الثلث الأخير من رمضان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فبالأمس القريب استقبلنا رمضان ونحن في فرح وسرور، وفي لحظة من أمرنا أسرع رمضان وشرع في الرحيل، وآذنت بالغروب شمسه، فلم يبق إلا ثلثه الأخير.

وللثلث الأخير من رمضان مكانة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الثلث الأخير اجتهد في العبادة، وأكثر من الطاعة، فكان يعتكف رجاء أن يدرك ليلة القدر، وكان يحيي الليل بالقيام والذكر والدعاء، واعتزال النساء، وإيقاظ أهل بيته للصلاة.

ومن الطاعات التي كان صلى الله عليه وسلم يفعلها في الثلث الأخير من شهر رمضان:

الاجتهاد في الثلث الأخير من رمضان:

مما يدل على فضل الثلث الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر اجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وشمر وجدَّ، وهجر فراشه، وأيقظ أهله؛ فعن عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره))[1].

وعنها رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله))[2].

قال ابن بطال: “فعل ذلك عليه السلام؛ لأنه أُخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فسنَّ لأمته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله”[3].

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان))[4].

قال ابن حجر: “قال ابن بطال: مواظبته صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف تدل على أنه من السنن المؤكدة”[5].

يتحرى ليلة القدر ويأمر بتحريها:

عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان))[6].

وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))[7].

قال ابن حجر: “دل الحديث على رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها”[8].

يوقظ أهله في الثلث الأخير من رمضان:

كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يرغِّب أهله في قيام ليالي العشر؛ فعن علي رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان))[9].

قال القاضي عياض: “فيه حث الرجل أهله على فعل الخير ونوافل البر”[10].

الحث على قيام ليلة القدر:

فمن قام ووافق قيامه تلك الليلة، غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))[11].

مما ينبغي فعله على من أدركها:

ينبغي على من أدرك هذه الليلة أن يكثر فيها من الدعاء والتضرع؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

وعن عائشة أنها قالت: ((يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني))[12].

قال البيهقي: “مسألة العفو من الله مستحبة في جميع الأوقات، وخاصة في هذه الليلة”[13].

من علامات ليلة القدر:

قال أبي بن كعب: ((وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها))[14].

عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلة طلقة، بلجة، لا حارة، ولا باردة))[15].

من فضائل ليلة القدر:

من فضائل ليلة القدر أن الله تعالى خصها بسورة كاملة، وشرفها بإنزال القرآن فيها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 – 3].

قال الشيخ ابن عثيمين: “في هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر[16]:

الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾.

الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.

الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها، وهم لاينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.

الفضيلة الخامسة: أنها سلام؛ لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.

ختامًا:

ينبغي علينا أن نجتهد في العشر الأواخر بالقيام، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، وكثرة الإنابة والاستغفار، والابتعاد عن فضول الكلام والمنام والطعام، فالعشر الأواخر فرصة لنتدارك شرف الزمان قبل فوات الأوان، واستدراك ما فات من التقصير فيما مضى من أعمارنا، فالنَّفَس يخرج وقد لا يعود، ويعود وقد لا يخرج.

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، ويستعملنا في مرضاته، وأن يتقبل الصيام والقيام وسائر الطاعات، والتوفيق لقيام لليلة القدر ويحسن الختام، وأن يغفر لنا التفريط والتقصير.

——————————————————————————–

[1] صحيح مسلم (2/ 832).

[2] صحيح البخاري (3/ 47).

[3] شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 159).

[4] صحيح البخاري (3/ 47)، صحيح مسلم (2/ 830).

[5] فتح الباري لابن حجر (4/ 285).

[6] صحيح البخاري (3/ 47)، صحيح مسلم (2/ 828).

[7] صحيح البخاري (3/ 46).

[8] فتح الباري لابن حجر (4/ 260).

[9] سنن الترمذي (3/ 152)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[10] إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 159).

[11] صحيح البخاري (3/ 45)، صحيح مسلم (1/ 523).

[12] سنن ابن ماجه (2/ 1265)، قال الشيخ الألباني: صحيح.

[13] فضائل الأوقات للبيهقي (ص: 258).

[14] صحيح مسلم (1/ 525).

[15] صحيح ابن خزيمة (2/ 1048)، وصحيح الجامع.

[16] مجالس شهر رمضان (ص: 161).