في التاسع من نوفمبر سنة 1976 م أُتيح لي أن أقدم للأكاديمية الفرنسية محاضرةً فريدة في موضوعها حول: “علوم الأَجنّة ووظائف الأعضاء في القرآن الكريم”، تناولت فيها: بعض ما جاء بالقرآن الكريم من “إشارات” تتصل بالتكاثر والفسيولوجيا البشرية .

الدافع إلى إعداد هذه المحاضرة:

وقد دفعني إلى إعداد هذه المحاضرة: انبهاري بما جاء في القرآن الكريم من إشارات إلى معارف ومفاهيم لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث.

والقرآن هو الكتاب الوحيد من نوعه بين أيدينا الذي جاء بمعارف تسبق عصر تدوينه بقرون.

وقد دفعني ذلك أيضًا إلى مقارنة النص القرآني بنصوص الكتاب المقدس : (العهد القديم والجديد) المتعلقة بمثل هذه المعارف وتمخضت هذه الدراسة عن إصدار كتابي : “القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم” الذي صدرت طبعته الأولى باللغة الفرنسية في مايو سنة 1976 عن دار سيجلير بباريس ، ثم توالى ظهور طبعات إنجليزية وعربية مترجمة .

العلم والدين توأمان في الإسلام :

إن الدارس للإسلام يعرف أن العلم والدين فيه توأمان ، حتى في هذا العصر الذي قطع العلم فيه أشواطًا تبدو مذهلة!

لم يصطدم الإسلام أبدًا مع العلم؛ بل على العكس ألقت المعارف الحديثة أضواء جلت لنا معاني القرآن، وما فيه من روعة!

وفي هذا القرن الذي بدا فيه للغرب ، وللعالَم غير المسلم أن الحقائق والأفكار العلمية قد أجهزت على بقايا الفكر الديني – كان الأمر في العالم الإسلامي مختلفًا تمامًا ، فقد ساعدت هذه الكشوف والحقائق العلمية ذاتها على إثبات ما في رسالة الإسلام، والنص القرآنيّ من إعجازٍ علميّ يؤكد صدوره من قوى خارقة للطبيعة؛ أي: من وحي الخالق الأعظم!

وعلى رغم كل التيارات والدعاوَى الفكرية التي تخبطت فيها عقول البشر؛ فإن المعارف العلمية لابد أن تدفع العقل المحايد المتحرر من الأهواء إلى التأمل في قضية الإيمان؛ فكثير من البحوث في ظواهر الطبيعة والحياة تؤدي بشكل تلقائي إلى تدبر المفاهيم الدينية !

مثال على ذلك :

ونضرب مثلاً لذلك بدراسات النظم الدقيقة التي تحكم بداية الحياة ونشأتها وتطورها : فكلما تعمقت الدراسة، واتسعت المعارف أصبح من العسير علميًّا أن نتقبل فكرة “الصُّدفة” كتعليل لتلك النظم !

ومما يبعث على الأسى والإشفاق – معًا – أن ينادى عالم فرنسي حاصل على جائزة نوبل بأن الخلايا الحية قد كونت نفسها ! فجأة باتحاد عناصرها الكيميائية في ظروف مَا مواتية(1)، ثم تطورت هذه المادة الحية – بنفسها  أيضًا- حتى وصلت إلى الإنسان بكل ما فيه من أنظمة معقدة، وتلك آراء لا يُقرها أى تفكير سليم؛ لأن الدراسة العلمية الجادّة لبيولوجيا الإنسان، وغيره من الكائنات العليا، إنما تؤدى إلى النقيض من هذا الادعاء تمامًا ؛ وتؤكد وجود إرادة أسمى خارقة للطبيعة وراء خلق ونشأة وترتيب نظم الحياة وخصائصها وسلوكها .

(1)     كشف القرآن غرور هؤلاء وتهافت فكرهم: )أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُون* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُون[ [الواقعة : 85-59]، ووصفهم وصفًا دقيقًا: )لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ([الأعراف : 179]

وسنرى في هذه المحاضرة كيف تثبت لنا دراسة القرآن هذه المفاهيم ، وبوضوح شديد !

كما سأركز – بصفة خاصة – على ما جاء بالقرآن من حقائق علمية تتفق بمنتهى الدقة مع العلوم الحديثة !

وهو موضوع يشكل نقطة جذب كبير للدراسات العلمية المعاصرة !

القرآن والكشوف العلمية

ظل المغزى العلميّ لكثير من آيات القرآن الكريم غامضًا لقرون عدة قبل تطور أدوات البحث والتحليل العلمي إلى ما صارت إليه في هذا القرن العشرين ؛ وما صحبه من تفرع المعارف إلى تخصصات دقيقة !

واجب من يتصدى للتفسير العلمي للقرآن :

لقد أصبح واجبًا على من يتصدى للتفسير العلمي للقرآن أن يرجع إلى البحوث والدراسات المتخصصة ، وأن يستند – على الأقل – إلى دائرة معارف متسعة ، وأعنى بالمعارف العلمية هنا : ما أصبح في حكم الحقائق المؤكدة التي لا خلاف عليها ؛ فلا يدخل فيها ما لم يتحقق بعد من نظريات قد يضعها العلماء للتفسير المؤقت لظواهر محدودة، قبل أن تنقضها ظواهر أو مفاهيم جديدة (2) .

     (2)          يعرَّف الإعجاز العلمي بأنه “إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم”.

الاقتصار على المعارف العلمية المؤكدة :

وسأقتصر في “محاضرتي” هذه على الإشارة إلى ما جاء بالقرآن الكريم من معارف علمية مؤكدة تمامًا .

أما حينما أشير إلى حقائق شبه مؤكدة ، أو آراء يُرجِّح إجماع العلماء صحتَها ، وإن لم تتحقق نهائيًا بالبحث التجريبي القاطع ، سأبين ذلك بكل وضوح ؛ ولن يتجاوز ذلك إشارة أو إشارتين مثل “نشأة الحياة في وسط مائي واحتمالات وجود الحياة في كواكب أخرى في الكون” .
حقيقة لابد من أن نؤكدها :

ينبغي أن نؤكد أولاً أن القرآن الكريم – قبل كل شيء – كتاب هداية ، لم ينزله الله مصدرًا للمعارف العلمية ، وإنما هو رسالة تستنهض العقل للتأمل في خلق الله، ونواميس الطبيعة، ليتعرف من خلالها على جلال القدرة الإلهية(3) .

وفي خلال تدبر ذلك الكتاب يجد أولو العلم والبصيرة فيه من “الإشارات العلمية” المشرقة نفحاتٍ من الله تعالى، تشدّ أزرهم في مواجهة دعاوى الإلحاد المادي المتهافتة، وإن تسربلت بعباءة العلم .

(3)             والقرآن أيضًا هو البرهان الخالد والمعجزة الشاهدة  إلى آخر الزمان – على صدق تنزيله من خالق الكون ، سواء في إعجاز بيانه أو صدق معارفه ، بما يقطع باستحالة صدوره من بشر .

التزام الأسلوب الموضوعي المجرد :

حاولت خلال دراستي هذه – وأظنني قد نجحت – التزام الأسلوب الموضوعي المجرد الذي يتبعه الطبيب عند فحص مريض جديد ؛ إذ يمحص كل أعراض المرض بعناية حتى يصل إلى التشخيص السليم .

وأصارحكم القول : أني عندما بدأتُ الدراسة لم يكن لدي أدنى اقتناع بالإسلام ، وكلما مضيت في الدراسة ازداد اقتناعي حتى أتاني اليقين في النهاية: أن هذا القرآن إن هو إلا وحي أوحاه الله إلى نبيه .
خطتي في هذه الدراسة :

سأستعرض في دراستي عبارات وردت في القرآن ، تشير بوضوح إلى حقائق علمية كانت بعيدة تمامًا عن إدراك أسلافنا؛ الذين لم يتجاوز حظهم منها إدراك المعنى اللغوي الظاهري – وإن أصبحت الآن من المعارف الأساسية، ولو كان القرآن- جدلاً- نصًّا بشريًّا لما نُقل إلينا بهذه العبارات التي تتجاوز فهم الأسلاف؛ ولعدّلوا وبدّلوا ألفاظها تبعًا لتطور مفاهيمهم .
الله قد تكفل بحفظ القرآن :

ولكن الله – تعالى – قد تكفل بحفظ النص القرآني قرنًا بعد قرن ، حتى يتبين للبشر يومًا بعد يوم المزيد من آيات التطابق بين التعبير القرآني ، والمعارف الحديثة.

تنتشر هذه الإشارات العلمية المعجزة في شتى سور القرآن بين دفتيه شاهدًا حيًّا على صدقه. ولما كان القرآن قد نزل مفرَّقًا عبر ثلاثة وعشرين عامًا قبل وبعد الهجرة من مكة إلى المدينة، فقد توزعت الإشارات العلمية أيضًا بين السور المكية والمدنية.

ولما كان من الضروري – في دراسة مثل هذه – جمع وتصنيف الآيات المتعلقة بكل موضوع على حِدَة ؛ فقد لجأت إلى تصنيف مبسط لهذه الموضوعات؛ بدأت فيه بموضوع: نشأة الكون ، وبيان ما جاء بآيات القرآن الكريم في هذا الصدد، وعلاقته بالمفاهيم العلمية المعاصرة .

ثم صنفت مجموعات الآيات تباعًا في موضوعات : الفلك، الأرض، المملكة الحيوانية والنباتية، الإنسان، ثم موضوع التكاثر الإنساني الذي أضفى عليه القرآن الكريم عناية خاصة.

وكان من الممكن تقسيم هذه الموضوعات إلى موضوعات فرعية أدق، ولكنى اكتفيت بتقسيمي هذا المبسط .

عقد مقارنة بين النصوص :

ثم رأيت لتمام الفائدة أن أعقد من آن لآخر مقارنة بين النصوص القرآنية ، وبين ما جاء في التوراة والأناجيل؛ من منظور العلم الحديث ، وبخاصة موضوعات نشأة الكون والطوفان وخروج بني إسرائيل .