﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ… ﴾

قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].

يتبين من خلال هذه الآية جحود اليهود لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم التام بأنه هو النبي الخاتم الذي كانوا ينتظرونه، وأنه انطبقت عليه الصفات المذكورة في كتبهم، ولهذا نزلت الآيات موجهة لهم العتاب ومدافعة عن خير من دعا إلى الملك التواب، وإليك ما فيها من بالغ الحكمة وجميل الخطاب:

1- قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ﴾؛ يعني بقوله: (ولما جاءهم) اليهودَ، (كتاب): يعني القرآن، (من عند الله مصدق) نعت لكتاب، (لما معهم) يعني التوراة والإنجيل يُخبرهم بما فيهما.

2- قوله تعالى: ﴿ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَذِينَ كَفَرُوا ﴾؛ أي يستنصرون، والاستفتاح الاستنصار، استفتحت: استنصرت.

قال الشيخ السعدي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء, المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة, وقد علموا به, وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب, استنصروا بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا, كفروا به, بغيا وحسدًا, أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فلعنهم الله, وغضب عليهم غضبا بعد غضب, لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم.

3- قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾؛ أي: فلما جاءهم ما كانوا يستفتحون به على أعدائهم ويرتقبونه جُحدوه كفروا به، ولم يقل: فلما جاءهم الكتاب أو الرسول، ليكون اللفظ أشمل، فيتناول الكتاب والرسول الذي جاء به؛ لأنه لا يَجيء الكتاب إلا عن طريق رسول.

ومعرفتهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه حاصلة بانطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من الواجب عليهم أن يؤيدوا هذه المعرفة بالإيمان به، ولكن خوفهم على زوال رئاستهم وأموالهم، وفوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون النبي المبعوث منهم لا من العرب، ملأ قلوبهم غيظًا وحسدًا، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى غلبها، وحال بينها وبين أن يكون لها أثرٌ نافع لهم لعدم اقترانها بالقبول والتصديق.

4- وبعد أن عموا وصموا، وتنقَّصوا رسالة النبي المرسل إليهم، لعنهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته؛ قال تعالى: ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ﴾، وقال سبحانه: ﴿ عَلَى الْكافِرِينَ ﴾، ولم يقل: عليهم، للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم كان بسبب كفرهم.