حلم

رأيتُ فيما يرى النائم أن مؤرِّخًا كتب ترجمتي بعد مائة عام من العُزلة، وكان مما جاءَ فيها: كانَ ربيع بن المدني بن عبدالقادر السملالي – رحمه الله – شديدَ الحب للكتب والدفاتر والأقلام، وكان في كتاباته يُسبِّب احمرارًا للأنوف، وانتفاخًا للأوداج، ولو لم يكن كثيرَ الانتقاد لغيره، لكان محل إجماع ومحبة من الجميع، وكان يَعتريه حزن شديد الوطأة كالمرض؛ بسبب ما يراه في ذلك الزمان من رداءة في الكتابة، وضعفٍ في اللُّغة، وحماقة في الأسلوب، انقطَعَ عن مخالطة الناس، وانكبَّ على إتمام مؤلفاته، إلى أن توفي سنة 2075 م، ودُفِن بمدينة سلا بقرب قبر أحمد بنِ خالد بن حماد بن محمد الناصري الدرعي!

أدب

زارني مرة وأنا في مطلع الشباب شيخ من مشايخ بلدي، وكان صديقًا حميمًا لي، رغم حداثة سني (ربما كان يجمعنا عشق الكتب)، فوجدني عاكفًا على قصيدة طويلة لشاعر النيل (حافظ إبراهيم)، مطلعها:

سَعَيْتُ إلى أن كِدتُ أَنتَعِلُ الدما وعُدتُ وما أعقبتُ إلا التندُّمَا

أحفظها وأرتِّلها، وأردِّدها ترديدًا، وأُنشدها ما وسعني الإنشاد، فقال ساخرًا متهكمًا: ما هذا الهُراء الذي أنت غارق فيه منذ اليوم؟! أما كان الأَولى بك أن تنشغلَ بكتاب ربك وسنَّة نبيِّك، لعلك تكون داعيةً في المستقبل، أو عالمًا تَنتفع بك الأمةُ؟ فأينَ ما كنتَ تقرأ من قبل؟ أين ابن تيمية وابن كَثير وابن القيم والشوكاني والألباني وابن عُثيمين وأبو غدة وغيرهم؟ فما هذا الضلال الذي حلَّ بساحتك أيها الربيع العاصف؟!

فقلت له: اهدأ يا شيخ، سنشرَب “شايًا مُنَعنعًا”، وأشرح لك ماذا يعني الأدب بالنسبة لي، وما علاقته بعلوم الشريعة؛ لكي لا نخلط الأوراق جزاك الله خيرًا!

ثم أحضرتُ الشاي الذي رائحته تُدغدِغ أعماق الشيخ فتجعله مبتسمًا راضيًا عن الحياة وعني، حتى إذا أحسستُ باطمئنانه بدأت أشرح له – بما كان معي حين ذاك من علم الأدب – رغم قلة زادي، وبضاعتي المزجاة، فوالله لقد قذفَ الله في قلبه حبَّ الأدب في تلك الجلسة، فاشترى “ديوان المتنبي”، وكتاب “الكامل” للمُبرد، و”البيان والتبيين” للجاحظ، وقرأهم في ظرف وجيز لأنه كان قارئًا فحلاً، ومنه تعلَّمت ذلك، ولكن المفاجأة التي لن أنساها ما حييت أنه اقتنى نسختين من كتاب “الأغاني” لأبي الفرَج الأصفهاني، أهداني واحدة منهما رضي الله عنه، ما زلت أذكر مساء ذلك اليوم حين اتصل بي ليُخبرني أنه يحمل إليَّ هديةً لا عهد لي بمثلها، وكيف غَمرتني تلك السعادة وأنا أرى الكتاب بين يدي بمجلَّداته “الكثيييييرة”، وكيفَ قبَّلتُ رأسه الأشيَب المصبوغ بالحناء حتى سقطت منه طاقيته المراكشية، ولَكُم أن تتصوروا شابًّا صغيرًا لا يملك شيئًا من متاع الدنيا، يعشق الكتب ولا يجد مالاً لشرائها، كيف سيَشعر حينها وهو يرى موسوعة ثمنها (1000 درهم) تأتيه بدون مال، صدقًا لا أستطيع أن أصف تلك المشاعر التي اعترتني واستبدَّت بقلبي وكادت تفتك بروحي التي لا تعشق شيئًا في الحياة كما تعشق الكتب!

جَدَل

رآني صديق متشدِّد الهوى أطالعُ مجلةً نِسائية تُعنى بالأخبار الاجتماعية، وأخبار الفنانين الساقطين والساقطات، فنظرَ إليَّ نظرةً أفهمتْني أنه غير راضٍ عني وعن انشغالي بهذه السخافات، فقلتُ له مُمازحًا: إن لم أقرأ هذا الغُثاء فلن أستطيع الكتابة التي تَنقد المجتمع والبيئة التي قُدِّر لنا أن نكون من أبنائها، فهذه المجلات هي لسان حال عِليَة القوم وديوان فُجورهم! والحكم على الشيء فرع عن تصوُّره، وإن قلمي هذا الصعلوك ابن جارية ليَستمدُّ قوته من هذا العَفن، فيُخرجُ للقارئ ما لذَّ وطاب، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل: 66]!

فأخرج صاحبي ابتسامةً مُتعبةً من بين شفتيه المزمومَتينِ، ثم قال: أنتَ في التبريرات والإقناع لا يصمدُ معك إلا مَن كان له عقل أو ألقى السمع وهو أديب!

زواج

كنتُ قد تجاوزتُ العشرين من عمري بسنتين حينَ رأيتُ أمَّ أولادي أول مرة وهي ذاهبة إلى دراستها، فدقَّ قلبي وتعطلت جوارحي عن الحركة، ووقفَ الزمن وتبعثرَت حركة الحياة، ولم أدرِ أليلٌ هذا الذي أنا فيه أم نهار، وبعدما استيقظت من سكرة هذه اللحظات التي انتزعتني من الأرض ورفعتْني إلى السماء، علمتُ أنني مُصاب لا محالة بشيء اسمه “الهوى”، فرددتُ بيني وبين قلبي: رباه، كيف أفعل وأنا شاب حديث عهد بالتِزام؟ فجاءني صوت كأنه الوحي أو كأنه الإلهام: اقصد إلى بيت أبيها ولا تخفْ فإنكَ بأعيننا، فتبسَّمتُ ارتياحًا لهذا الخاطر الذي أنقَذني وأخرَجني من حيرتي، تبسمتُ كطفل يرى وجه أمه بعد طول غياب!

واستجابةً لذلك الخاطر قرَّرتُ أن أقصدَ بيتهم وأخطبها من أبيها، لكن قبلَ أن أقدم على هذه الخطوة الخطيرة والجريئة وأنا في تلك السن، كشفتُ لأمي عن دخيلة نفسي، واضطراب قلبي هذا الصغير الذي لا عهد له بالحب قبل ذلك اليوم، الذي أشرقت فيه شمسُ هذه الصبية على حين غفلة من حياتي الباردة! هذه الصبية التي لها بقية من جمال وحظٌّ مِن براءة وأخلاق، كما أخبرني بذلك الثقات من سُكان حيِّها عندما ذهبت أسأل عن سيرتها وأخلاقها، وكان من حسن حظي أن بيت عمي كان قريبًا من بيتهم ويعرفونها وعائلتها معرفة جيدة، هذه المعرفة التي ستدفعُ عني كثيرًا من الغموض والتردُّد الذي يكتنف المرء في مثل هذه المواقف.. ضحكتْ أمي ساخرةً من كلامي واعترافي، وحذَّرتني من هذا الكلام وكأنه شيء من عمل الشيطان الذي يجب اجتنابه ما وسعنا الاجتناب.. حتى تخيَّلتْني قد جئت شيئًا نُكرًا، لكن في سبيل الحب يجب أن أصمد وأقاوم، فأمي تنظرُ إليَّ كطفل غرير كما عهدتْني وكما ستظل ناظرة إليَّ في مستقبل الأيام شأنها في ذلك شأن كثير من الأمهات، لكنني أحدثتُ بعض الضجيج المُؤدَّب لأحصل على موافقتها، يدفعني الحب ويلحُّ عليَّ وجه حبيبتي هذا الذي سار في أعماقي مسيرَ الشمس والقمر!

ظللت أنتظرُ موافقة والدتي وأنا مُصرٌّ على الإقدام لا يَمنعني شيء، وكنتُ أذهبُ بين الفينة والأخرى إلى مكان تمرُّ منه عند عودتها من المدرسة، لكي أملأ عينيَّ المعجبتين بنور وجهها الطفولي البريء الذي أستمد منه قوتي وعزيمتي على المضي قدمًا في سبيل العيش معها تحت سقف واحد مهما كلَّفني الثمن، وقد لاحظتُ – بل تأكدتُ – أنها فطنت لنظراتي المتلاحِقة، الشيء الذي جعلها تتعثَّر في مشيتها،وتضطربُ ملامحها بحياء جعل وجنتيها البيضاء تحمر بشكل غريب، فخجلت من نفسي وجعلت ألومها وأعنِّفها، ما بالكِ أيتها الأمارة بالسوء تسوقينني إلى إحراج حبيبتي؟! ثم هل نسيتِ أنني شاب أعفي لحيتي، وأقصِّر ثيابي، وألبس الأبيض من الثياب؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل يليق أن أرسلَ النظر في وجه أُنثوي لا يحلُّ لي، وأحرج صاحبته هذا الإحراج؟! فذكَّرتني نفسي – سامحها الله – أن ذلك جائز شرعًا، وقالت لي: ألم يصِلكَ خبر الإمام أحمد الذي يجوِّز فيه النظرَ إلى من تريد خِطبتها، بل النظر إلى كل ما يَدعوك لنكاحها؟! فاطمأنَّ قلبي وارتاحت جوارحي لهذه الفتوى التي منَّت بها عليَّ هذه النفس التي بين جنبي، بل محضتني النصح ورغَّبتني في قراءة كتاب “تحفة العروس”؛ للإستانبولي، و”أدب الزفاف”؛ للألباني، و”روضة المحبين”؛ لابن القيم، و”طوق الحمامة”؛ لابن حزم، فلم أتردَّد في قَبول هذه النصيحة بصدر رحب، ثم عكفت على قراءتها اعتكاف العاشق الولهان الذي يبحث عن آثار حبيبته بين السطور والكلمات!

حتى إذا انتهيت من قراءة تلك الكتب في وقتٍ وجيز، وجدتني قد امتلأتُ حبًّا وعشقًا لهذه الحياة التي أنا مُقبل عليها منذ اليوم، بعدما أنزل الله سكينتَه على أمي ووافقتْ على مُرافقتي لرؤيتها والتعرف على عائلتها، فكانَ ذلك المساء الذي قرَّرنا الذهاب فيه من أجمل الأمساء في حياتي كلها، حتى إني أحببت الناس أجمعين، وكدتُ أقبِّل الأطفال الذين صادفتهم في طريقي حين كنت قاصدًا حي حبيبتي لإخبارها بزيارتنا لخطبتها، لقد تحوَّلت أعماقي إلى بستان من البساتين الخالدة حيثُ العصافيرُ تغرِّد، والأشجار الباسقة تُلقي بظلالها بسخاء عجيب، والمياه العذبة تطلق العنان لكل مخلوق حي من مخلوقات الله للاستمتاع بعذوبتها وزلالها النمير، والشمس ترسل أشعتها الذهبية مداعبةً الأزهار والورود والحيوانات الأليفة، حتى حسبْتُني جنةً من جِنان الله الرائعة تمشي على الأرض، وأن الناس ينظرونَ إلي نظرةَ السرور والغِبطة والانشراح!

يا ألله! فها هي حبيبتي تقفُ أمامي وجهًا لوجه، يكاد الخجل يُغرقها، وتكاد السعادة تخنقني، وابتسامة حائرة افترَّت عن ثغر لم أرَ أجمل منه يشق طريقه نحو إفهامي أنها موافقة، مُوافقة، نعم يا ناس إنها موافقة موافقة، أتفهمون؟! موافقة، موافقة.. أليسَ الصمت من علامات الرضا؟ فكيف إذا كان هذا الصمت مُكلَّلاً بابتسامة الإعجاب والدهشة التي تعتري القلوب الظمأى لهذا الحب السامي الأنيق الذي تنشده؟!

يُتبع إن شاء الله..