مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم .. سنة الأنبياء، وصراط العقلاءِ، ومختار النبلاءِ، ومجد الفضلاء .. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) [البيهقي]
وقد أدرك حكيم العرب (أكثم بن صيفي) سر دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- .. فقد روى الحافظ أبو يعلى: أن أكثم بن صيفي بلغه مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخُف إليه، قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما من أنا فأنا محمد بن عبد اللّه، وأما ما أنا فأنا عبد اللّه ورسوله، قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، قالوا: ردد علينا هذا القول، فردد عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، وسطاً في مضر – أي شريفاً – وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مَلائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً. [أي أسرعوا إلى اتِّباعه تكون لكم فضيلة الأسبقية، ولا تتأخروا فتكونوا أذناباً مؤخرين].
وساحة الأخلاق الكريمة لا يرتادها إلى ذوي النفوس الجليلة .. فقد أخرج ابن عساكر عن سعيد بن العاص: “لو أن المكارم كانت سهلة لسابقكم إليها اللثام، لكنها كريهة مرة، لا يصبر عليها إلا من عرف فضلها”.
يقال أن من تمام ثبات القلب أن ينعس في المعركة، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]
ومشاهير الشجعان في الإسلام كانوا ينعسون وسط المعركة علامة على قوة قلوبهم، وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن (شبيب بن يزيد) الخارجي البطل الكبير وهو من قوادهم أنه ما سُمع بأشجع منه بعد الصحابة، كان في ستين رجلاً يلقى ثلاثة آلاف فيهزمهم، وكان ينعس قبيل المعركة على بغلته، وهذا من شجاعة قلبه ومن حماسته ينعس والصفوف أمامه، حتى إن زوجته واسمها غزالة كانت مثله في ثبات القلب، دخلت الكوفة، فأرهبت الكوفة كلها، والحجاج كان أمير الكوفة في ذاك الوقت، فلما دخلت من باب الكوفة الشرقي خرج هو من الغربي، فدخلت بعمود في يديها تضرب باب الإمارة وتقول للحجاج: اخرج يا عدو الله، ثم ارتقت منبر الجامع، فخطبت خطبة، فقال أحد المسلمين للحجاج: يا ذليل تقتل علماء المسلمين وتقتل ضعفاء المسلمين، ولما أتت غزالة الخارجية هربت منها.
وقال شاعر الخوارج الشهير (عمران بن حطان) في الحجاج حين دخلت غزالة الخارجية مسجد الكوفة:
أسد علي وفي الحروب نعامة … فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى … بل كان قلبك في جوانح طائر
صَدَعت غزالة قلبه بفوارس … صدع الزجاجة ماله من جابر
وكان عمران بن حِطّان من رؤوس الخوارج، قيل عنه: مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها وخطيبها الأكبر، وهو الذي مدح ابن مُلْجِمٍ لقتله على بن أبى طالب في أبيات قال فيها:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها .. إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه .. أوفى البرية عند الله ميزانا
فعارضه شاعر أهل السنة فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها .. إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره حيناً فألعنه .. لعناً وألعن عمران بن حطّانا
ومعلوم أن شر الذين يبغضون علي -رضي الله عنه- هم الخوارج الذين كفَّروه، واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام، واستحلُّوا قتله تقرباً إلى الله تعالى.
فأخذ الحجّاج يطارد عمران بن حطان ويطلبه طويلاً حتى ظفر به. فقال للحارس: اضرب عنق ابن الفاعلة. فقال عمران: بئسَ ما أدَّبك أهلُكَ يا حجاجُ، أكنتَ أمِنتَ أن أُجيبك بمثل ما لَقيتَني به؟ أبعدَ الموت منزلةٌ أصانعُك عليها؟
فأَطرق الحجاجُ استحياءً، وقال: خلُّوا عنه، فخرج إلى أصحابه. فقالوا: ما أطلقكَ إلا اللهُ، فارجعْ إلى حربِه معنا. فقال: هَيهاتَ، غلَّ يداً مُطلقُها، واسترقَّ رقبةً مُعتقها. ثم قال:
أأُقاتل الحجَّاجَ عن سُلطانهِ … بيدٍ تُقرُّ بأنَّها مَولاتهُ
إني إذا لأخو الدناءة والذي … عفَّتْ على عرْفانِه جَهَلاتُهُ
ماذا أقولُ إذا وقفتُ موازياً … في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ
وتدَّثَ الأكفاءُ[تراموا بالكلام]أنَّ صنائعاً … غُرستْ لديَّ فحنْظلتْ نَخَلاتُهُ