معرفة الله ونبيه ودين الإسلام
(المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول)

قال المصنف رحمه الله: (الأُولَى: الْعِلْمُ، وَهُوَ: مَعْرِفَةُ الله، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة).

الشرح الإجمالي:

(الأولى) من تلك المسائل الأربع التي يجب تعلمها (العلم)، وهو معرفة الهدى بدليله (و) العلم الذي يجب تعلمه على كل أحد (هو) معرفة ثلاثة الأصول: (معرفة الله) بأسمائه وصفاته، (ومعرفة نبيه) محمد صلى الله عليه وسلم، (ومعرفة دين الإسلام بالأدلة)، فشملت ثلاث معارف: المرسِل، والمرسَل، والرسالة، وهي: الأصول الثلاثة التي سيتكلم عنها المصنف إجمالًا وتفصيلًا، وخص رحمه الله تعالى هذه الأمور؛ لأنها هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا عليها، وهي التي يُسأل العبد عنها في قبره، والعبد إذا عرف ربَّه جل وعلا، وعرَف نبيه صلى الله عليه وسلم، وعرَف دين الإسلام بالأدلة، كمُلَ له دينُه.

الشرح التفصيلي:

ذكر المصنف فيما سبق أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل، وبدأ هنا بذكر المسألة الأولى من تلك المسائل، فقال: (الأولى: العلم)، فأول المسائل الأربع التي يجب علينا تعلُّمها: العلم، والمراد بالعلم هنا: العلم الشرعي؛ لأن العلم إذا أُطلق – أي: في القرآن والسنة ولسان السلف الصالح – فالمراد به العلم الشرعي الذي تُفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه[1]، وهو: العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق.

والعلم الشرعي ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: علم كفائي يجب على من تقوم بهم الكفاية تعلمه، وهو طلب ما يكمل به الدين، والعلم الذي تعلمه فرض كفاية؛ كتفاريع المسائل الفقهية، والاطلاع على أقوال العلماء، ومعرفة الخلاف، ومناقشة الأدلة، فهذا ليس بواجب على كل مسلم، فإذا وجد من يقوم به من أهل العلم، صار في حق الباقين سنة.

والقسم الثاني: علم عيني يجب على كل مكلف تعلمه؛ ليصح به دينه، وهو ما لا يستقيم ويقوم دين المرء إلا به، سواء في العقائد، أو في الأعمال، أو في الأقوال، كأصول الإيمان، وأركان الإسلام، وما يجب اجتنابه من المحرمات، وما يجب فعله من الواجبات، ونحو ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب عليه العلم به [2].

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، قيل له: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله: صلاته وصيامه، ونحو ذلك» [3].

وحد العلم الواجب: هو أنَّ كلَّ ما وجَبَ على المُسْلم ِالعَملُ به وجب عليهِ أن يُقدِّم العلمَ به؛ فكل ما وجب العمل به، فتقدم العمل به واجب[4]، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فإن الإيمان فرض على كل وَاحِد، وَهُوَ مَاهِيَّة مركبة من علم وعمل، فَلَا يُتصَوَّر وجود الإيمان إلا بِالْعلمِ وَالْعَمَل، ثمَّ شرائع الإسلام وَاجِبَة على كل مُسلم، وَلَا يُمكن أداؤها إلا بعد معرفتها وَالْعلم بهَا»، وقال أيضًا: «العلم المفروض تعلمه ضربان: ضربٌ منه فرض عين لا يسع مسلمًا جهله، وهو أنواع:

النوع الأول: عِلْمُ أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن، فالإيمان بهذه الأصول فرعُ عن معرفتها والعلم بها.

النوع الثاني: عِلْمُ شرائع الإسلام، واللازم منها عِلْمُ ما يخص العبد من فعلها؛ كعلم الوضوء، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.

النوع الثالث: عِلْمُ المحرمات الخمس التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الإلهية، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].

النوع الرابع: عِلْمُ أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصًا وعمومًا، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجب على مَن نَصَبَ نفسه لأنواع التجارات من تعلُّم أحكام البياعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه»؛ ا. هـ[5].

وقد عيَّن المصنف المراد بالعلم هنا، وفسره بقوله: (وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة)، فليس المراد كل العلم الذي هو الشرعي، وإنما المراد به هذه المعارف الثلاث[6]، وهذا أشرفُ علمٍ على الإطلاق؛ فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وأفعاله، ودينه، ورسوله [7]، وهذه المعارف الثلاث من العلم العيني الذي يجب على كل مكلف تعلُّمه ليصح به دينه، ووجه كونها مما يجب تعلمه أنها مندرجة في الأمر بالعبادة؛ فإن الله جل وعلا أمرنا بالعبادة وخلقنا لها؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والإتيان بالعبادة متوقف على ثلاثة أمور:

أحدها: معرفة المعبود الذي تُجعل له العبادة، وهو الله جل جلاله.

وثانيها: معرفة المبلغ عنه المعرِّفُ بما يجب له من العبادة؛ فإن العقول لا تستقل بمعرفة مــا يجب لله من حق، بل هي مفتقرة إلى دليل يدلها، ومرشد يرشدها.

وثالثها: معرفة الكيفية التي يُتَعبَّد المعبود بها.

فأما الأصل الأول، وهو معرفة المعبود، فهو معرفة الله، وأما الأصل الثاني، وهو معرفة المبلغ عن المعبود، فهو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الأصل الثالث، وهو معرفة كيفية العبادة، فهو معرفة الدين، فصار الأمر بالعبادة شاملًا للأمر بهذه الأصول الثلاثة؛ لتوقف العبادة عليها، وكل أمر في الكتاب والسنة بالعبادة، فهو أمرٌ بها[8].

قال المصنف: (وهو: معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة): والمعرفة في اللغة: ضد الإنكار، وتعود إلى معنى السكون والطمأنينة[9]، ويستند ذلك إلى أن ثبوت المعنى في النفس يقتضي سكونها إليه، بخلاف مالم يثبت في النفس فإنها تُنكره[10]، وهذا الأصل ينطبق على معنى العلم، من جهة أنه ثبوت المعلوم وتحقُّقه في النفس، فمن علِمَ بشيء فقد عرَفه، ومن عرفه فقد علِمَ به، ولهذا يُفسر أهل اللغة المعرفة بالعلم، كما يُفسرون العلم بالمعرفة[11]، وقد فسَّر المصنف هنا العلم بالمعرفة، وهذا ورد في القرآن، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، ففي الأول قال: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾، ثم قال: ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، فأصدق أو أخبر عن المعرفة بالعلم، فدل على أنهما بمعنى واحد، قال ابن حزم: “العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد، وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه، وتيقُّنه وارتفاع الشكوك عنه»[12]، وقد يُفرَّق بين العلم والمعرفة، لكن على وجه لا ينافي اتفاقهما في المفهوم الإجمالي، المستند إلى ثبوت معنى في النفس هو حقيقة العلم والمعرفة، فلا تنافي بين تفسير العلم بالمعرفة، والمعرفة بالعلم، وبين أن يكون لكل منهما مع ذلك معنى يختص به [13]؛ لأنه على التحقيق لا ترادف في اللغة العربية، بل تختلف الألفاظ، فهي تشترك في أصل المعنى، ويزيد لفظ على لفظ في بعض المعنى الذي دلَّ عليه اللفظ[14]، فمع اشتراك العلم والمعرفة في المفهوم الإجمالي، وهو إدراك المعلومة، فإن المعرفة أخص من العلم؛ لأنها علمٌ بعين الشيء مفصلًا عما سواه، والعلم يكون مجملًا ومفصلًا، فلفظ المعرفة يُفيد تمييز المعلوم من غيره، ولفظ العلم لا يفيد ذلك إلا بضربٍ آخر من التخصيص في ذكر المعلوم[15]، وبه يُعرف دقة المصنف رحمه الله تعالى في اختياره لفظَ المعرفة دون العلم، وقد جاء في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، قال: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرَفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس)[16].

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الفروق بين العلم والمعرفة، فقال: «والفرق بينه (أي: العلم) وبين المعرفة من وجوه ثلاثة: أحدها: أن المعرفة لب العلم، ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان، وهي: علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق، والثاني: أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بموجبه ومقتضاه، فهي علم تتصل به الرعاية، والثالث: أن المعرفة شاهد لنفسها، وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها، وكشف المعرفة أتم من كشف العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم»[17]، وقال أيضًا: «والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن: أن المعرفة عندهم هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالِمًا بالله، وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم مَن عرَف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصوده ونيَّاته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرَّد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم، ولم يزِن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، إذا سُمي به غيره على الدعوى والاستعارة»[18].

إذًا المسألة الأولى مما يجب علينا أن نتعلمها وجوبًا عينيًا هي العلم، وهو: معرفة ثلاثة الأصول، معرفة الله جل جلاله، وهذا هو الأصل الأول، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل الثاني، ومعرفة دين الإسلام، وهذا الأصل الثالث؛ لأنها أول ما يُسأل عنها العبد في القبر؛ كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعًا وفيه: (فيأتيه – أي المؤمن في قبره – مَلَكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنتُ به وصدقت، فينادي منادٍ أن صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة)[19] ، ومن كان يعرف هذه الأصول بأدلتها، فحَرِيٌّ به أن يُثبَّت عند سؤال الملكين في قبره؛ فجلالتها من جهتين:

الأول: في الدنيا لتعلق الثواب والعقاب بها.

والثانية: في القبر لتعلق السؤال في القبر بهذه المعارف الثالث[20].

قال المصنف: (ومعرفة دين الإسلام بالأدلة)، وهذا يُفيد: أن مالم يكن مبنيًّا على دليل فليس علمًا[21]، فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد[22]، فلا بد من معرفة الحق بدليله، وفيه إشارة منه إلى ذم التقليد وأهله، وأن على الإنسان أن يأخذ دينه بالأدلة، والحجج القاطعة، فلا بد من معرفة المسائل التي يجب اعتقادها بدليلها.

والأدلة: جمع دليل، وهو فعيل بمعنى: فاعل، من الدلالة، وهي: الإرشاد، فالدليل هو: المرشد والموصل إلى المطلوب، واختلف في المراد بالأدلة هنا، فقيل: المراد بها الأدلة الشرعية ليس غير، وهي: الكتاب والسنة والإجماع، فيكون المراد: أن تعرف ربَّك ونبيك ودينك بالأدلة من كلام الله جل وعلا، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالرأي ولا بقول فلان، بل بالأدلة من الآيات والأحاديث[23]، وقيل: إن هذا الدليل أعم من أن يكون نصًّا من القرآن، أو من سنة، أو من قول صاحب، أو إجماع، أو قياس[24]، فالأدلة الدالة على التوحيد والدين والرسالة نوعان: أدلة خلقية مشاهدة، وأدلة سمعية متلوَّة؛ فأما الأدلة الخلقية المشاهدة، فهي ما لفت الله عز وجل إليه الأنظار من الآيات السماوية والأرضية، العلوية والسفلية، الدالة على صدق ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام؛ وأما الأدلة المتلوَّة السمعية، فهي ما ثبت بالوحي من كتاب أو سنة، ودينُ الإسلام يُتوصل إلى صحته عن الطريقين جميعًا، فقول المصنف: (بالأدلة): يشمل هذين النوعين؛ أي: عن طريق النظر والتفكر والتأمل في الأدلة الخلقية، وعن طريق النظر بالأدلة السمعية المتلوة الدالة على صحة هذا الدين القويم، وأنه من لدن حكيم خبير[25]، ولا شك أن أعظم الأدلة في باب معرفة دين الله جل وعلا هو كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم[26]، فالأدلة السمعية الشرعية مقدمة على الأدلة العقلية [27].

وقوله: (بالأَدلة): هل هي متعلقة بالثلاثة الأصول: معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام؟ أم أنها متعلقة بمعرفة دين الإسلام فقط؟ فيه وجهان محتملان في تفسير النص[28]، فيحتمل أن يقال: إن قوله: (بالأدلة) تعود على معرفة دين الإسلام؛ لأن القاعدة في اللغة: عود الضمير على أقرب مذكور؛ ولأن المصنف رحمه الله تعالى شَرَح الأصلين الأولين (معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم)، دون أن يذكر كلمة: (بالأدلة)، ولما بيَّن الأصل الثالث، قال: (وهو: معرفة دين الإسلام بالأدلة)، فجعل كلمة (بالأدلة) مع قوله: (معرفة دين الإسلام)، والاحتمال الآخر وهو الأظهر: عود الضمير للمعارف الثلاث، فيكون تقدير الكلام: معرفة الله بالأدلة، ومعرفة نبيه بالأدلة، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة[29]، والخلاف لا يترتب عليه أثر معتبر، فلا فرقَ بين أن يكون قوله: (بالأدلة) متعلقًا بالثلاث معارف أو يكون متعلقًا بمعرفة دين الإسلام؛ لأن دين الإسلام يتضمن ما قبله من المعارف وزيادة، ولكن يظهر أن الجار والمجرور في قوله: (بالأدلة) يتعلق بالمعارف الثلاثة لا بآخرها فقط، وتعليق المصنف الجار والمجرور بمعرفة دين الإسلام لا يُراد حصره فيه؛ ولكنه أكثرها فروعًا، فناسب ذكر الأدلة معها وتعليق الجار والمجرور به، وإلا فمعرفة الأصول الثلاثة لا بد من اقترانها بالأدلة [30]؛ والمراد هنا من طلب اقتران هذه المعارف الثلاث بالأدلة: اعتقاد العبد الإيمان بها على وجه الجزم؛ لأنها مبنية على أدلة شرعية معتبرة، فإذا اعتقد العبد أصول ما يتعلق بهذه المعارف الثلاث على وجه الجزم، كفاه ذلك في صحة إيمانه، لا أنه يُطلب من كل أحد تعلم الأدلة على التفصيل لتعذر ذلك في عموم الخلق[31].

وقد أورد بعض الشراح استشكالًا على قول المصنف هنا: (معرفة دين الإسلام بالأدلة)؛ من جهة أن العامي لا يدرك الأدلة، فتكليفه بأخذ العلم من الأدلة وفَهمها، واستنباطه منها تكليف له بما لا يُطيقه[32]، ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة صحة إيمان المقلد لغيره في مسائل الاعتقاد؛ أي: بدون معرفة الدليل إذا اعتقد الحق اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، فمن اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه كفاه ذلك، ولا يجب عليه معرفة الأدلة[33]، ولتلافي هذا الاستشكال: حمَلَ بعض الشراح قول المصنف هنا: (معرفة دين الإسلام بالأدلة)، على أنه موجه لمن يُعَلِّمُ الناس هذه الأصول الثلاثة، وهي معرفة الله، ومعرفة رسوله، ومعرفة دين الإسلام، فعليه أن يُبينها للعامي بالأدلة؛ ليحصل له الجزم، فالعامي لا يلزمه معرفة الأدلة واستحضارها، وإنما يجب عليه أن يكون اعتقاده ذلك اعتقادًا جازمًا[34]، وذهب آخرون إلى أن قول المصنف: (بالأدلة): يختلف باختلاف المتعلم، فإن كان عاميًّا، فدليل العامي قول العالم المجتهد الموثوق بعلمه، وأما من عداه من المجتهدين، فدليلهم الكتاب والسنة، وما عُلم من الأدلة الشرعية، واتباع العامي للعالم الذي يثق فيه يعتبر اتباعًا للدليل؛ لأن قول العالم يعد دليلًا عند العامي، فكأن المصنف يقول: إن العالم يعرف دين الإسلام بالأدلة الشرعية المعروفة، وأما بالنسبة لغير العالم، وهو العامي، فقول العالم يعد دليلًا له[35]، ويظهر والله أعلم أن الاستشكال المورد على كلام المصنف غير وارد؛ لأن المصنف جعل معرفة الدليل واجبًا، ولم يجعله شرطًا في صحة الإيمان[36]، ومعرفة الدليل إنما تجب لمن استطاع أن يُدلل، فالعامي إذا كان لا يعرف الدليل، أو لم يمكنه فهم الدليل، ولكنه يعتقد وحدانية الله، ويعتقد بطلان ما يعبد من دون الله، فهو مسلم، فمن اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه كفاه ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، ففيه دلالة ظاهرة على أنه يُكتفى بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه اشتراط المعرفة بالدليل[37]، قال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى: «فرض على كل أحد معرفة التوحيد وأركان الإسلام بالدليل، ولا يجوز التقليد في ذلك، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنار، ويعتقد أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدليل؛ لأن عامة المسلمين ولو لُقِّنوا الدليل، فإنهم لا يفهمون المعنى غالبًا»[38]؛ فليس مقصود المصنف في ذكر معرفة الأدلة: إيجاب معرفة كل مسألة بدليلها، بل مقصوده: وجوب اعتقاد العبد أن الدين الذي آمن به، وهو الإسلام ثابت بأدلة إجمالية مقطوع بها، أما المعرفة التفصيلية فهي فرض كفاية، وهي تختلف باختلاف الخلق، فما يجب على العالم والمفتي ليس كالواجب على من دونهم، فالمقصود أن العامي يجب عليه أن يعرف أن هذه المعارف مبنية على أصول شرعية صحيحة، وإن لم يُحط بها علمًا، وأما غيره فإن الواجب عليه مناسبٌ لحاله، فالمراد بالمعرفة الواجبة هنا على كل أحد إنما هي المعرفة الإجمالية التي هي معرفة العامة، فهذه المعرفة واجبة على كل أحد من المسلمين، والعوام يكفيهم أن يعرفوا أن هذه الأمور ثابتة بأدلة من قبل الشرع، ولا يلزمهم الاطلاع على كل دليل مفرد متعلق بفرع مستقل مع معرفة وجه الاستنباط منه[39]، فالمطلوب في حق العوام تعلم هذه الرسالة بأدلتها، لا على وجه التفصيل كما يُذكر في كتب الشروح، لكن يتعلم أن العبادة معناها كذا، ودليلها كذا، فيعتقدها بدليلها، ويعلم أن الله جل وعلا هو الذي فرض هذا الشيء، وهذا دليل المسألة؛ ليكون اعتقاده عن دليل، فيخرج عن ربقة التقليد في هذه المسائل العظام[40]، فالباء في قول المصنف: (بالأدلة): سببية، فيكون المعنى: بسبب الأدلة حصلت هذه المعرفة، فحينئذ يقال: الواجب عليك أيها المكلف أن تعلم دين الإسلام، وأن تكون معرفتك له بالأدلة؛ أي: إدراكُ أن لهذه المعارف أدلةً شرعية تَثْبُتُ بها، فتكون المعرفة بالدليل لا بالتقليد المحض الذي لا ينتج اعتقادًا[41]، فقوله: (بالأدلة): يُفيد أنه لا بد من معرفة تلك الأصول الثلاثة بالأدلة ليجزم؛ لئلا يكون عنده شك، فيعلم ذلك بالأدلة من الشرع، والأدلة من العقل، ومن الفطرة، فهذه الأصول لا بد أن يعرفها المسلم، وأن يجزم بها، والمصنف رحمه الله تعالى أورد في هذه الرسالة الأدلة على الأصول الثلاثة كما سيأتي[42].

قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: «ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمه؛ فإن كان ممن يقرأ القرآن، أو عرف أنه ذكي، فيُعلم أصل الدين وأدلته، والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد أنه يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلًا متوسطًا، ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ويصف له حقوق الخلق، مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم»[43].

ويتبيَّن مما سبق ذكره في المسألة الأولى من المسائل الأربع التي يجب علينا تعلمها أمران:

الأول: أن العلم المأمور به شرعًا وَفق ما ذكره المصنف له وصفان:

أحدهما: ما يُطلب منه، وهو ما تعلق بالمعارف الثلاث المذكورة في خطاب الشرع، فهذه هي علوم الشرع.

والآخر: ما يُطلب به، وهو كونه واقعًا بالأدلة؛ أي: مقترنًا بها، فيُطلب في العلم اقترانه بالأدلة، فتكون تلك المعرفة علمًا حال اقترانها بالأدلة، فالعلم الواجب: لا يحصل إلا بتحقق هذه المعارف الثلاث بأدلتها، ويدل لذلك أن المصنف عند الحديث عن كل أصل من الأصول الثلاثة أتبع ذلك بذكر أدلة معرفة تلك الأصول[44].

والثاني: أن معرفة الشرع المأمور بها نوعان:

أحدهما: المعرفة الإجمالية، وهي معرفة أصول الشرع وكلياته، ويتعلق وجوبها بالخلق كافة، فهذه المعرفة واجبة على الخلق كافة.

والآخر: المعرفة التفصيلية، وهي معرفة تفاصيل الشرع وجزئياته، ويتعلق وجوبها ببعض الخلق، الذين اقترنت بهم أحوال تستدعي وجوب التفصيل في معرفة الشرع، كالحكم أو القضاء أو الإفتاء أو التعليم [45].

——————————————————————————–

[1] حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (10).

[2] ينظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبدالبر: (31)، وحاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (10).

[3] الفروع، لابن مفلح: (1/ 525).

[4] فوائد من تقريرات الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي، على شرح ثلاثة الأصول، للعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، مفرغٌ، ومنشور على الشبكة العنكبوتية.

[5] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 442-444)، تحقيق: عبدالرحمن بن حسن بن قائد، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، الناشر: دار عالم الفوائد، ط. الأولى: 1432هـ.

[6] ينظر: شرح الأصول الثلاثة، عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي (11)؛ وشرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (14).

[7] مفتاح دار السعادة، لابن قيم الجوزية (1/ 214).

[8] تعليقات الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي على كتاب القول السديد فيما يجب لله تعالى على العبيد، لابن مانع (4)، وهي عبارة عن مجموعة من الدروس العلمية، فرغها: سالم بن محمد الجزائري، النسخة الإلكترونية الخامسة، (دمج لست تعليقات، ولم يراجع الشيخ التفريغ)، منشور على الشبكة العنكبوتية.

[9] ينظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (732).

[10] المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها، د. عبدالله بن محمد القرني (15)، الناشر: دار عالم الفوائد، ط. الأولى: 1419هـ.

[11] جاء في لسان العرب (9/ 236): “العرفان: العلم”، وفي اللسان أيضًا (12/ 417): “علمت الشيء: أعلمه علمًا: عرَفته”.

[12] الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 68).

[13] المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها، د. عبدالله بن محمد القرني (16)، الناشر: دار عالم الفوائد، ط. الأولى: 1419هـ.

[14] الأجوبة والبحوث والمدارسات المشتملة عليها الدروس العلمية، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (8/ 376).

[15] ينظر: الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري (93).

[16] رواه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم (1458)؛ ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (31).

[17] مدارج السالكين (2/ 472).

[18] المصدر السابق (3/ 316).

[19] رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18534)، وقال البيهقي في الشعب: «هذا حديث صحيح الإسناد»، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (5221)، وقال: “حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح”؛ ينظر: الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد (30/ 503).

[20] تعليقات الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي على كتاب القول السديد فيما يجب لله تعالى على العبيد، لابن مانع، (5)، وهي عبارة عن مجموعة من الدروس العلمية، فرغها: سالم بن محمد الجزائري، النسخة الإلكترونية الثانية.

[21] شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (8).

[22] أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية (1/ 11)، تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي، الناشر: دار عالم الفوائد، ط الأولى: 1437هـ.

[23] شرح ثلاثة الأصول، عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (22)، وينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم (11)، وشرح الأصول الثلاثة، صالح بن فوزان الفوزان (23)، وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (12)، وحصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول، عبدالله بن صالح الفوزان (16)، وإتحاف العقول بشرح الثلاثة الأصول، عبيد بن عبدالله الجابري (9)، الناشر: دار الميراث النبوي، الجزائر، ط الثالثة: 1436هـ.

[24] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (14).

[25] شرح الأصول الثلاثة، د. خالد المصلح (39)، وينظر: شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (19، 21)، والمحصول من شرح ثلاثة الأصول، عبدالله الغنيمان (120)، وإفادة المسؤول عن ثلاثة الأصول، عبدالله بن صالح القصير (11).

[26] تنبيه العقول إلى كنوز ثلاثة الأصول، تأليف: د. عبدالرحمن بن سليمان الشمسان (2/ 542)،الناشر: دار العقيدة، ط الأولى: 1437هـ.

[27] بلوغ المأمول بشرح الثلاثة الأصول، عصام بن أحمد مامي (27)، الناشر: دار اللؤلؤة، بيروت، ط الأولى: 1434هـ.

[28] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، أحمد بن عمر الحازمي، الشريط الثالث، منشور في موقعه على الشبكة العنكبوتية.

[29] الشرح الصوتي: (تعليقات على ثلاثة الأصول)، صالح بن عبدالله العصيمي، برنامج مهمات العلم السابع بالمسجد النبوي 1437هـ.

[30] ينظر: تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (5).

[31] الشرح الصوتي: (تعليقات على ثلاثة الأصول)، صالح بن عبدالله العصيمي، برنامج مهمات العلم السابع بالمسجد النبوي 1437هـ.

[32] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، أحمد بن عمر الحازمي؛ وشرح ثلاثة الأصول، خالد بن عبدالعزيز الباتلي (18)؛ وينظر: شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (11).

[33] ينظر: لوامع الأنوار البهية، لمحمد بن أحمد السفاريني (1/ 736)، تحقيق: مجموعة من الباحثين، الناشر: دار التوحيد، ط الأولى: 1437هـ، وشرح العقيدة السفارينية، لمحمد بن صالح العثيمين (307)، والتقليد في باب العقائد وأحكامه، د. ناصر بن عبدالرحمن الجديع (110).

[34] شرح ثلاثة الأصول، خالد بن عبدالعزيز الباتلي (19).

[35] شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (12، 69).

[36] شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (13).

[37] ينظر: شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 210)، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 44)؛ وشرح العقيدة السفارينية، لابن عثيمين (306)، وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (13).

[38] الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبدالرحمن بن محمد بن قاسم (4/ 339).

[39] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (5).

[40] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (124).

[41] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (5).

[42] شرح ثلاثة الأصول، حمد بن عبدالله الحمد (3).

[43] الدرر السنية (1/ 170، 171).

[44] الشرح الصوتي: (تعليقات على ثلاثة الأصول)، صالح بن عبدالله العصيمي، برنامج مهمات العلم السابع بالمسجد النبوي 1437هـ.

[45] المصدر السابق.