شبهات حول النبي – صلى الله عليه وسلم – والرد عليها
قال الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ﴾ [الفرقان: 7 – 10].
المناسبة بين المقطعين:
بعد أن أثاروا الشبهات حول الوحي المنزل فقالوا فيه ما قالوا؛ جاءت اعتراضاتهم على الرسول الذي أنزل عليه الوحي.
المعنى الإجمالي للمقطع:
شبهة الإنسان عبر البشرية عن كلِّ رسولٍ: ﴿ … هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 3].
﴿ … مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 24].
قاله قوم نوح عليه السلام، وقاله قوم شعيب عليه السلام حينما دعاهم إلى الالتزام بالحق والعدل في التعامل وترك الجور والظلم والإفساد في الأرض ﴿ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الشعراء: 186].
وقاله قوم صالح عليه السلام: ﴿ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر: 24].
وهي السنة في جميع الأقوام ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [التغابن: 5 – 6].
كان هذا استغراب الناس خلال تاريخ الرسل والنبوات، وذلك جهل منهم بحكمة الله سبحانه وتعالى وسنّته في الرسالات، وجهل بقيمة الإنسان في ميزان الله العلي الحكيم.
أما جهلهم بحكمة الله فإن الإنسان خلق لأداء مهمة على وجه الأرض، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58].
ولمعرفة المهمة والتكاليف لا بد من تبليغ وبيان. والطرق المتصورة في التبليغ ثلاث، لا رابع لها، فإما أن يبلّغ كلّ فرد مباشرة من ربه وهذا ينافي الحكمة من الابتلاء إذ الابتلاء يقتضي الاختيار في الإرادة.
والطريق الثاني في التبليغ أن يرسل إليهم رسولاً من غير جنسهم من الملائكة أو الجن، فإن كانوا على صورتهم الأصلية لا تتحقق معه الغاية من التبليغ، لأنهم لو أتوهم على صورتهم الأصلية لا يتحقق معه التلقي والبيان والتطبيق العملي والقدوة حيث لا انسجام بين التكوينين. يقول تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 8 – 9].
وإذا ظهروا لهم على صورة البشر كانت مطابقة للطريقة الثالثة وهي أن يكون الرسول من جنس البشر وهي الطريقة التي يتحقق معها المراد من إرسال الرسل.
إن الحكمة الإلهية لا تتحقق إلا أن يكون رسول البشر من البشر «واحد من البشر يحس إحساسهم ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ويعلم ضروراتهم وأثقالهم،… ومن ثمّ يعطف على ضعيفهم ونقصهم ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر براعتهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم يتسامى بهم رويداً رويداً، ويعيش بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معرضة لهم ينقلونها سطراً سطراً، ويحققونها معنى معنى وهم يرونها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان، ولو كان ملكاً ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم ولا حاولوا أن يقلدوه، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ولا شوق إلى تحقيق صورته»[1] فالاعتراض على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم جهل بهذه الحكمة الربانية.
ولقد جرت سنّة الله أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم لأن الحكمة والغاية لا تتحقق إلا بذلك، يقول جلّ شأنه: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94 – 95].
كما أن الاعتراض على بشرية الرسول جهل بقيمة الإنسان في ميزان العلي الحكيم، إن الإنسان خلق من مادة الطين لأنه مهيأ للحياة على هذه الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55]. ولكن التكريم جاء من نفخة الروح التي استحق بها إسجاد الملائكة له ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [سورة ص: 71 – 72].
بهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنساناً، واستخلف في الأرض… وقد أودع الاستعداد للاتصال بالملأ الأعلى عن طريق تلك النفخة العلوية.
إذن لا مجال للإنكار على بشرية الرسل إذا أدرك العاقل مكانة الإنسان في ميزان الله وإذا أدرك حكمة الله في النبوات والرسالات.
ولكن للبشر الحق أن يطلبوا من الرسل أن يأتوهم ببراهين على صدق اتصالهم بالملأ الأعلى إذ لا علامات فارقة لهم عن سائر البشر، ولم ينكر القرآن عليهم هذا الطلب.
فعندما طلب قوم صالح العلامة والبرهان من رسولهم بقولهم: ﴿ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 154]. لم ينكر عليهم هذا الطلب، وإنما استجاب لهم فقال: ﴿ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 155 – 156].
ولكن القوم إذا حددوا المعجزة التي يريدونها ولم يتحولوا عنها إلى غيرها، أوخذوا على هذا الجمود في الطلب. فإن الوصول إلى الحقيقة هدف العاقل المنصف، فإذا ظهرت له الآية (البرهان، المعجزة، الخارقة) على يد رسول وأدرك أنها حق وليست في مقدور البشر، عليه أن يؤمن وبه ويخضع للبرهان الذي ظهر له.
ولو طلب القوم من رسولهم تحويل مجرى نهر من وجهة إلى أخرى، أو إزالة جبل من مكانه إلى مكان آخر، فقال لهم رسولهم: إنه يأتيهم بغير هذين الأمرين وهما ليسا من مقدور البشر، بأن يشير إلى شجرة فتأتمر بأمره وتنتقل من مكان إلى مكان آخر، ثم يأمرها فتعود إلى مكانها الأول أو يكلم حجراً فيسمع الناس كلامه.
لا فرق في عالم الخوارق ودلالاتها بين ما طلبوا وبين ماجاءهم به رسولهم لأنها كلها خارج مقدور البشر. فلا معنى لجمودهم على ما طلبوا، وعلى العاقل أن يستسلم ويقرّ أن هذه الخارقة كافية لإثبات صدق من جاء به.
لذا جرت سنّة الله تعالى على الأقوام أنهم إذا حددوا خارقة معينة ولم يتحولوا عنها ولم يقبلوا نصيحة الرسول بالتحول عنها إلى غيرها، واستجيب لهم في مطلبهم ذاك ثم ارتدوا على أعقابهم كان العذاب المستأصل مصيرهم، هذه السنّة بيّنها قول الله تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115]. وهذا ما حدث لقوم صالح عندما أصروا على إخراج الناقة من الصخرة الصماء.
كما أننا نلحظ من خلال اقتراحاتهم عن الرسول وامتيازاته، أن لهم قيماً محددة دفعتهم إلى ذلك. ففي تصوراتهم أن يكون الرسول في غنى عن الطعام والشراب ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [المؤمنون: 33 – 38]. وإن احتاج إلى الطعام والشراب فينبغي أن يكون مكفياً عن ذلك بأتباعه ونفره فلا يحتاج للمشي في الأسواق للتكسب والسعي على الرزق.
أو ينزل عليه ملك للنصرة والتأييد فينذر معانديه ويخوفهم من البطش بهم، أو يلقى إليه كنز من السماء[2] فينفقه على نفسه وأتباعه لتظهر لهم المزية على غيرهم، فإن لم يكن شيء مما تقدم فلا أقل من جنة (بستان من نخيل وأعناب وغيرها) يأكل منها، وكلها صور مادية منبثقة من قيمهم المادية التي يقيسون بها الرجال، وهذا شأن أهل الدنيا لا يحسبون حساباً للآخرة فمنتهى نظرهم أن يكون المرء في هذه الحياة وافر المال كثير الأتباع نافذ الكلمة. أما الكمالات النفسية والسمو الروحي والأخلاق والمُثل المعنوية فلا وجود لها في عالم الماديين. وهذا ما قال الملأ من بني إسرائيل عندما أخبرهم نبيهم ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 247]. وقالت قريش: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31].
وإذا لم تتحقق في الرسول مواصفاتهم، فليبحثوا عن سبب دفع الرسول إلى هذه المقولة، وعرض نفسه للصدام مع القوم وقد كان في غنىً عن ذلك.
• ومن المعلوم أن الرسول يرسل وهو متصف بالصدق والأمانة والعقل والحكمة وفي قمة حالات الرشد البشري. إلا أنّهم يوهمون الناس أن هذا الرجل قد فقد عقله أو غُلب عليه فهو يهرف بما لا يعرف ويقول ما لا يعقل، ويأتي ما لا ينبغي، فيكسب بذلك عداوة الناس ﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 62].
وهذا هو المنهج الذي يسير عليه الطغاة والمعاندون للحق أن يتهموا الرسل في عقولهم ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 52 – 53].
هذا ما قاله فرعون لموسى عليه السلام: ﴿ … فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 101].
وقالت ثمود لصالح عليه السلام: ﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ [الشعراء: 153].
وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 47 – 48].
ولكن يتوارد سؤال هنا: لماذا اختار القوم هاتين التهمتين: ساحر، ومجنون؟
في الحقيقة تنوعت اتهاماتهم وتعددت حول رسول الله صلى الله ليه وسلم، فقد اختلفت التهمة حسب اختلاف مصدرها أو قائلها، وكذلك اختلفت حسب الظاهرة التي رأوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أ- فمن نظر إلى حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه – حيث يتفصد جبينه من العرق[3] ويكون له خرير كخرير البكرة، ويسمع عند فمه دوي كدوي النحل[4] ظن أنه يصاب بنوبات من الصرع أو الجنون، وقد رد القرآن على فريتهم هذه في مواطن عديدة منها قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾[الأعراف: 184]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [التكوير: 19 – 22][5].
ب- ومن نظر إلى النظم القرآني من حيث الفاصلة في الآيات القرآنية والأسجاع الرائعة ظنه مثل سجع الكهان الذين كانوا يأتون بالعبارات العامة الموهمة التي تشير إلى قضايا غيبية. فقال: إنه كاهن والقرآن ضرب من الكهانة.
فجاء الرد القرآني عليهم ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الطور: 29 – 32].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [6] * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحاقة: 41 – 43].
جـ- ومن نظر إلى أوزان العبارات والجمل القرآنية في الآيات، والموازين الحساسة التي توزن بها. وليس للعرب عهد بمثل هذه الموازين الحساسة في الكلام إلا في موازين الشعر. فقالوا: إنه شاعر وما يقوله شعر، قالوا ذلك ولم يقفوا عندها طويلاً فجاء الرد عليهم ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 35 – 37].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69 – 70].
د– ومنهم من نظر إلى أثر القرآن في النفوس، فكل من استمع إلى القرآن كافراً كان أو مؤمناً وجد له حلاوة وجمالاً يحسه في نفسه سواء خضع لهذا الإحساس والتذوق فآمن به، أو رفضه جهلاً وعناداً.
وكثير من المؤمنين بالقرآن فارقوا أهلهم المشركين وديارهم وتحملوا الأذى في سبيل عقيدتهم، ولم يعهد هذا الانجذاب لأحد، والتأثير بكلام البشر إلا مع السحرة وسحرهم، فهم الذين يسيطرون على المسحور ويسلبونه الإرادة ويفرقون بالسحر بين المرء وزوجه والأب وابنه والأخ وأخيه. فقالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر وما أتى به السحر.
ورد القرآن عليهم هذه المقولة الظالمة في مواضع كثيرة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 43 – 46]. كما أن القوم إذا رأوا خارقة أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد رسوله مما لا عهد للبشرية به، قالوا: إنه سحر، يقول تعالى عن صنيعهم: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الصافات: 14 – 17].
فمقالتهم هنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رجل مسحور من تلك الشبه التي لا تستند على أسباب وجيهة أو حقيقة معقولة، وإنما هو تبرير لبقائهم على معهودات الآباء، وملازمة الأعراف والعادات التي نشؤوا عليها.
لذا جاء الاستغراب والتعجيب من مقولاتهم هذه ﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ﴾ أليس من المستغرب أن تطاوعهم ألسنتهم على هذه المقولة الجائرة وهم على يقين تام أنهم كاذبون فيها ظالمون معتدون في التطاول على من قيلت فيه، فهم يدركون أنهم ضالون تائهون، فمرة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: كاهن، وأخرى يقولون: به جنة، ورابعة يقولون: مسحور مغلوب على أمره، فلا يهتدون إلى الحق على الرغم من قربه وظهوره لأنهم لا يرغبون في التمسك به.
ويأتي الرد الإجمالي بعد الاستغراب من مقولتهم تلك، النابعة من ضلالهم وعدم تدبرهم لواقع حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفكرهم فيما جاءهم به، يأتي الرد مجملاً ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ﴾ [الفرقان: 10]. وللبركة والنماء والزيادة في عطاء الله سبحانه وتعالى دلالات في سياقات السورة، ففي افتتاحية السورة تنامى عطاؤه في إنزال الفرقان فاستحق الشكر والثناء على هذه النعمة العظمى بإنزال الكتاب وإرسال الرسول.
وهنا تنامى عطاؤه في النعم الدنيوية فلا يحدها شيء ولا ينقصها عطاء الليل والنهار فخزائن الله ملأى لا يغيضها البذل.
ولو كانت المكرمة تقاس بالعطاء الدنيوي لكان خير البشر وأفضل الرسل أولى بها؛ ولكنها الحكمة الإلهية في تربية الأمة «فلم يرد لرسوله أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة، لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته، ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته، فلا يقولن أحد من أمته – يكد لعيشه –: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفي الحاجة لا يعاني صراع العيش، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته وتكاليفه، فلم يعوقه عائق مما أعاني، فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل ليعيش، ويعمل لرسالته، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة وقدوته أمامه – ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة – فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله، فكان كالريح المرسلة في جوده، حتى يستعلي على فتنة المال ويرخص من قيمته في النفوس، وكيلا يقولن أحد بعد ذلك: إنما نهض محمد برسالته لأنه عاش فقيراً لا يشغله المال، فها هو ذا المال يأتيه غزيراً وفيراً ولكنه يمضي في دعوته، كذلك شأنه يوم أن كان فقيراً»[7] إن النفوس العظام لا يشغلها الحطام الدنيوي العاجل عن مقاصدها وغاياتها النبية، فهي تترفع عن السعي إليها إلا بما يكون وسيلة لتحقيق الغايات العظيمة وإذا وضعت تحت يديها أنفقتها في وجوهها التي تتحقق بها تلك الغايات. ولو بحثت عن الدوافع الحقيقية لمقولتهم هذه لوجدتها تكذيبهم بالساعة والبعث بعد الموت وهو شأن الكافرين جميعاً.
المناسبة بين المقطع الثاني ومحور السورة:
الحديث في هذا المقطع عن الشبهات التي أثارها القوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الشق الثاني من المحور، فالمحور كما بيَّناه يدور حول تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معجزة القرآن الكريم. فالمناسبة واضحة لا تحتاج إلى توضيح.
[1] في ظلال القرآن: 5/ 2553.
[2] من العادة أن تُحصَّل الكنوز من باطن الأرض فلا يطلق الكنز إلا على مدخرات الأمم القديمة التي دفنوها في باطن الأرض لإخراجه عند الحاجة، ولكن القوم اقترحوا إنزاله عليه من السماء إمعاناً في التعجيز. كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12].
[3] في الصحاح من حديث عائشة رضي الله عنها عن بدء الوحي ووصفه. انظر صحيح البخاري، باب بدء الوحي: 1/ 3.
[4] انظر الروايات والتعليق عليها في كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبو شهبة، ص 60 وما بعدها؛ وكتاب مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 56 وما بعدها؛ وكتاب السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري: 1/ 128.
[5] من المناقشات المفحمة لقريش ما جاء في سورة (المؤمنون) في رد فريتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهامه بالجنون: قال تعالى ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [المؤمنون: 63 – 70].
جاء في سياق الدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر كلمة (صاحب) وتكررت في أكثر من آية وتدل بظلالها على افتراء القوم وتوبيخهم، فإن الذي يتهمونه بمختلف التهم صاحبهم الذي طالت عشرتهم له وامتدت أربعين سنة ولم يتهموه بشيء من ذلك في عقله ولا في سلوكه بل كان المعروف لديهم بالعقل والحكمة والأمانة، فكيف يتهمونه الآن بشيء هم أعلم الناس بكذبهم فيه.
[6] كأن فرية الكهانة لم تجد رواجاً عند القوم فأقلعوا عنها في مرحلة متقدمة في المرحلة المكية حيث لم يرد الرد القرآني إلا في موضعين في سورة (الحاقة) وسورة (الطور)، وكلتا السورتين من السور المتقدمة في النزول في المرحلة الأولى من المراحل المكية.
[7] في ظلال القرآن: 5/ 2553.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/118651/#ixzz61WvkMqeY