الاستاذ/ سامي فسيح

يروج البعض من حين لآخر لأفكار من قبيل: ”هل الوجود التاريخي لمحمد حقيقة أم وهم؟” في محاولة لجعل المسلم يتصور أنه يعيش داخل وهم كبير.. وهم يدعى الإسلام.. وهم يدعى النبي محمد.. وطبعا وهم القرآن الذي جاء به هذا النبي..

والمتتبع للحركة التشكيكية التي تتزعمها هذه الفئة عبر شبكة الأنترنت يعلم أن أول ما يبتدئون به هو الترويج لمغالطات من داخل الدائرة الفقهية والحديثية، متحاشين بهذا الانخراط في أي نقاش جاد يُؤسس على أرضية سليمة تبتدئ بالأصول الكبرى التي عليها المدار، ثم بعد ذلك الجزئيات التي تأتي تبعا..

وبعد وابل من الصدمات التي يتعرَّض لها متابعوهم فيما يعرضونه حول دينهم ونبيهم وتراثهم، تستحكم تلك الشبهات في نفوسهم، فتتشكل لديهم قابلية الشك في كل شيء.. ليصل بهم الأمر بعد ذلك إلى تقبل أي تشكيك يصدر من أي جهة ولو كان في مسلمات كبرى كإنكار وجود الله عز وجل.. أو إنكار الوجود التاريخيِّ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.. ثم إنكار غيرها من كبرى اليقينيات..

وبعد أن تتشكل لديهم هذه القابلية ينعدم لديهم التثبت والتفطن للجهة التي صدرت عنها هذه الشبهة، ولا يلتفتون بعدها إلى مستوى الشبهة ومدى ضعفها أو انعدام الأدلة حولها وما يؤيدها، حتى ينتهي بهم الأمر أبواقا تروج لها في نهاية المطاف..

أما دعوى عدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم في التاريخ، فليست جديدة.. فالتيار الاستشراقي الجديد عرف مدارس روجت لها ولأخرى مثيلاتها، كالتشكيك في مكان مكة، والتشكيك في وقت ظهور القرآن الكريم..

وهو تيار منحاز يتسم بتزوير الحقائق، وتشويه المعطيات التاريخية، والترويج لتخمينات لا دليل عليها، وتحريف معنى النصوص أثناء ترجمتها، وغيرها من الآفات التي لا علاقة لها بالبحث العلمي، لكنها انطلت على بعض القراء الغربيين الذين لا يعرفون قراءة النصوص الأصلية العربية..

ومن هؤلاء المستشرقين الجدد ”باتريشا كرون” [1] التي عبثت بكثير من المسلمات التاريخية.. ثم تراجعت عن كثير من ذلك فيما بعد، على سبيل المثال ما كتبته هي ومايكل كوك في كتابهما ”الهاجريون Hagarism” حيث اعترفت بشكل صريح أن ما فيه من تخمينات وفرضيات حول الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين غير صحيحة وأن الدافع وراءها كان حماس الشباب..

وقد كان لها من قبل نصيب في التشكيك في وجود النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا من المجازفات التي تراجعت عنها أيضا، ويبدو هذا بشكل واضح من خلال مقال لها بعنوان: ”ماذا نعرف عن محمد؟” [2]، وقد مررت فيه على عادتها الكثير من المغالطات، لكنها وصفت محاولات إنكار وجوده صلى الله عليه وسلم أنها محاولات ضعيفة، قالت: ”لا شك أن محمدًا كان موجودًا، وظهرت محاولات من حين لآخر لإنكار وجوده، لكنها ضعيفة إلى حد ما. فجيرانه في “سوريا البيزنطية” قد سمعوا به بعد سنتين من وفاته، وهناك نصٌّ يوناني مكتوب خلال فترة الغزو العربي لسوريا بين عامي 632 و634 للميلاد جاء فيه أن “نبيّاً كاذباً ظهر بين “السرسنيين””، ورُفِض على أنه مزيف على أساس أن الأنبياء “لا يأتون بالسيف والعربة”. وهذا ما يعطينا انطباعًا بأنه كان يقود عملية الغزو”..

بل وتعتبر أن المعطيات حول هذا النبي متوفرة بشكل كبير: ”على الأرجح أننا نعرف عن محمد أكثر بكثير مما نعرفه عن يسوع (ناهيك عن موسى وبوذا)، وبالتأكيد نحن نمتلك الإمكانية لمعرفة المزيد أيضاً”.

يدفعنا هذا غالبا لنتساءل عن ماهية الاستشراق ومتى ظهر، وما الذي يرمي إليه وكيف خُدع الكثيرون بأطروحاته؟

يمكن أن نُرجع بدايات ”الاستشراق الجديد” إلى نفس بدايات ظهور ما يُعرف بالإلحاد الجديد أي بعد التفجيرات التي طالت بُرجَي التجارة في أمريكا فيما يعرف بأحداث 11 سبتمبر سنة 2001م، حين ظهرت العديد من الأصوات المنددة والثائرة تجاه الأديان وخصوصا الإسلام، وظهرت العديد من المؤلفات التي تهاجم الإسلام والمسلمين بشكل خاص..

والمستشرق كما هو واضح من تركيب الكلمة أنها مشتقة من كلمة شرق، فهو ذلك الغربي الذي يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء بحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في الأنثروبولوجيا -أي علم الإنسان-، أو علم الاجتماع، أو التاريخ أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة [3].

وهذا التعريف الذي قدمه إدوارد سعيد للمستشرق يشمل كلا من الاستشراق الكلاسيكي القديم الذي اهتم بالجانب اللغوي بدرجة كبيرة، والاستشراق الجديد الذي يسعى لإعادة إنتاج الأطروحات التي أثارها الاستشراق الكلاسيكي لكن في قوالب أنثروبولوجية [4] وسوسيولوجية وأركيولوجية وغيرها من الوسائل التي تبدو أكثر حداثة..

وقد صعد ”الاستشراق الجديد” بعد أن دُق آخر مسمار في نعش الاستشراق الكلاسيكي، حيث نَقَمَ على هذا الأخير إيغاله في الاعتماد على المنهج الفيلولوجي (اللغوي) وعلى المصادر العربية الإسلامية في دراسة التاريخ المبكر للإسلام. ثم يعلن ”الاستشراق الجديد” باستهتار عن إنشاء قطيعة بين الدراسات الاستشراقية والمصادر العربية الإسلامية التي استبدلها باستثمار المعطيات الأركيولوجية للوصول إلى الصورة الحقيقية لبدايات ظهور الإسلام.

ومن المدارس التي تمثل ”الاستشراق الجديد” مدرسة ”المراجعون الجدد” الذين يظهر من خلال إنتاجاتهم ودراساتهم أنهم كأسلافهم الكلاسيكيين يتعلقون بكل شيء يُمَكنهم من الإساءة للإسلام ولو بالكذب وتزوير الحقائق..

ويفسر ”زكاري لوكمان” دوافع الاستشراق الكلاسيكي في تلك الإساءات بأن ما حققته حضارة المسلمين جعلت الإسلام مشكلة اجتماعية ثقافية، وقد ظهر الاستشراق بوصفه الأساس المنطقي لأوروبا في مواجهة تحدي الإسلام، فلما كانت الدولة العثمانية كابوسا مرعبا بالنسبة لأوروبا لحين من الزمن استباح الأسلاف لأنفسهم إطلاق قصص شنيعة وإظهار الإسلام بصورة هزلية من خلال ما أشاعوه عن العثمانيين من أباطيل [5].

وفي كتابه: ”الاستشراق، صورة الشرق في الآداب والمعارف الغربية”، يتحدث ”ضياء الدين ساردار” بتفصيل حول الدعاية المخادعة المبنية على الجهل المسبق بالإسلام والتي كان هدفها تقوية العالم المسيحي في مقابل إضعاف الإسلام الذي كان يظهر على أنه وحدة مرصوصة يصعب تجاوزها..

وبالإضافة إلى هذا المرمى تظهر الميولات التبشيرية التي وُظف من أجلها الاستشراق، بل لم يكن سوى أداة من أدوات التنصير، ليتطور به الأمر فيما بعد حتى يُستعمل في أواخره لأغراض سياسية استعمارية للشرق..

أما ”الاستشراق الجديد” فلا يختلف الأمر كثيرا، ويظهر ذلك جليا فيمن يسمون أنفسهم بـ”المراجعين الجدد” هذا الاسم الذي أطلقه الباحث في جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية ”جون وانسبرو”، والذي يعني أنهم امتداد لحركة الاستشراق الكلاسيكي، غير أنهم يعززون أطروحاتهم بأدوات جديدة.. وقد نشر في عام 1977م كتابه ”دراسات قرآنية” الذي زعم فيه أن القرآن الكريم لم يدون إلا بعد قرن ونصف القرن من وفاة النبي وأنه لا دليل على أن ظهوره كان قبل سنة 59هـ [6]، وهو أستاذ باتريشا كرون -التي مر معنا كلامها- وقد حصلت على الدكتوراه تحت إشرافه..

ومن المواضيع التي يعالجها المراجعون الجدد موضوع ”الإسلام المبكر” مما دفع بالبعض منهم إلى إنكار الوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم..

من بين هؤلاء باتريشا كرون في بداياتها -كما مر معنا-، والكاتب الأمريكي روبرت سبنسر في كتابه ”هل وُجد محمد؟”، وسيفن كاليش وغيرهم..

وقد تعرض طرحهم هذا إلى نقودات شرسة من أروبيين، واعتبروه عبثا تاريخيا لا غير..

واعتمدوا في ذلك على:

أولا: زعمهم بأنه لا توجد أدلة أركيولوجية تثبت الوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم..

ثانيا: أنه لا توجد مصادر أجنبية ذكرت اسمه، كما أن المصادر الإسلامية لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن الثقة بها واعتمادها مصدرا للبحث العلمي الأكاديمي الذي سيصل بنا إلى قياس مدى مصداقية وجوده التاريخي، على مذهب المستشرق المجري “غولد زيهر” الذي رأى أن التناقض بين تلك الروايات يحيل إلى الشك في جميعها..

والملاحظ في الطرح الاستشراقي سواء القديم منه أو الجديد أنه وإن ادعى أنه يقوم على أسس متينة في البحث فإن الدارس لها يعلم أنها أعمال مهلهلة تنم عن سطحية في تصور الدين والتاريخ الإسلامي.. قائمة على الخيال، والحدس، والافتراض، كما أن مقدار المغالطات التي تُمرر من خلال كتاباتهم لا حصر لها، لذلك قوبلت معظمها بالرفض دوليا وكتبت حولها ردود قاسية من غربيين أنفسهم..

أولا: زعمهم أنه لا توجد أدلة أركيولوجية تثبت الوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم..

مر معنا الحديث عن ”وانسبرو” الذي زعم من خلال كتابه ”دراسات قرآنية” أن القرآن الكريم لم يدون إلا بعد قرن ونصف القرن من وفاة النبي وأنه لا دليل على أنه ظهر قبل سنة 59هـ..

ومشكلتهم أنهم يبنون تصوراتهم حول الأشياء إما عن خيال وادعاءات مبهرجة، أو من خلال المعطيات القليلة في حدود المتوفر.. لكن عدم العلم ليس علما بالعدم، وعدم توفر ما يثبت ظهور القرآن في زمن الرسالة لا يعني أنه لا يوجد ما يثبت ذلك..

وكذلك وجود نسخة مخطوطة للقرآن الكريم متأخرة بقرون عن زمن ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعني أن القرآن ظهر بشكل فجائي في الفترة الزمنية التي يعود إليها المخطوط .. فمالهم كيف يحكمون؟!

وإذا ألقينا نظرة على النسخ المخطوطة للقرآن الكريم سنجد ما يناقض هذا تماما، ويثبت أن هناك من النسخ التي عاصرت زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا منه..

فنسخة مكتبة برلين الحكومية على سبيل المثال بعد الفحص يقول خبير المخطوطات الإسلامية ومدير قسم المشرق بالمكتبة كريستوف راوخ أنه “بنسبة %95 فإن الرّقّ [7] يعود للأعوام ما بين 606م و652م، وأرجح أن يكون في حدود العام 650م”، ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم توفي في العام 632م [8].

ثم بعد ذلك تم اكتشاف أقدم نسخة للقرآن الكريم، حيث أعلنت جامعة برمنغهام البريطانية عن اكتشاف نسخة يُرجح الباحثون أن كاتبها من الصحابة أو ممن عايش الصحابة، وترجع بعد فحصها بالكربون المشع وهي تقنية معتمدة في علم الآثار نسبة دقتها تفوق 95%، أن عمرها يبلغ نحو 1370 عام، أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بزهاء عشرين سنة [9]..

وقد صرح أستاذ الدراسات المسيحية والإسلامية دومينيك سيلوود بأن هذه النسخة “مكتوبة بخط عربي قديم اسمه الحجازي مما يعني أنها كانت في مكة أو المدينة وطبعا النبي محمد كان هناك” [10]..

وغيرهما من المخطوطات التي يُرجح الدارسون عودتها إلى القرنين الأول والثاني كمخطوطة صنعاء للمصحف المنسوب لعلي بن أبي طالب، ومصحف المشهد الحسيني، ومصحف طوب كابي، مصحف تيام في اسطنبول، ومخطوطة توبنجين…

ورغم ما يحاول إثارته البعض من تشكيك في زمن كتابتها بالحديث عن المداد هل يرجع إلى نفس تاريخ الرِّق الذي كتب فيه أم لا، منطلقين في ذلك من كون التنقيط ظهر متأخرا عن الزمن الذي يزعم أن المخطوطة ترجع إليه.. أو حول وجود بعض الاختلافات بينها وبين المصاحف المطبوعة والتي لا ترجع إلى تطور قواعد الإملاء عبر العصور، وهذا ما يقدح في كون النص الأصلي قد حفظ كما هو منذ نزل.. وقد وجدت بعض الاختلافات بين بعض النسخ المخطوطة وبين ما في المصاحف المطبوعة الآن، والتي ترجع إلى أخطاء إملائية وأخرى راجعة لسهو الناسخ، كتكراره لكلمة مرتين وسهوه عن كتابة كلمة..

وهنا يظهر الحفظ الإلهي للقرآن الكريم حيث أن القرآن الكريم حُفِظ حِفظ سطور وحفظ صدور، فلو أن ناسخا أخطأ أثناء نسخه للقرآن الكريم، فإن حملة كتاب الله عز وجل يصححونه، وعدد حفظته منذ نزوله ينبئ عن استحالة تغيره ولو تم تحريف جميع المصاحف.. بل ويمنع في الكتاتيب القرآنية عندنا في المغرب استعمال المصحف الكريم، ويعتمدون في الحفظ على التناقل الشفهي، وهذا ما كان عليه الأسلاف حين نقلوه متواترا جيلا عن جيل.

ونجد أن هذه النسخ التي تم اكتشافها تعالج في نفس الوقت جوانب أخرى روج لها المستشرقون كتشكيكهم في مكان انطلاق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومكان وجود مكة كتلك المحاولات الفاشلة من باتريشا كرون ودان جيبسون وغيرهما في التشكيك في موضعها!

فالخط الحجازي لهذه المخطوطات يثبت العكس.. وما هي إلا محاولة منهم لنقل النبي صلى الله عليه وسلم لبيئة أخرى تتوفر على ظروف ملائمة يؤلف فيها محمد صلى الله عليه وسلم كتابه، لِما علموا من صعوبة كتابة كتاب يحاور أهل الكتاب بهذه الدِّقة في بيئة وثنية.

أما مسألة التنقيط فيظنون أنها ظهرت متأخرة مع أبي الأسود الدؤلي، وهذا غير صحيح، بل كان التنقيط قبل الإسلام، لكن ليس بتلك الصورة المتكاملة التي عرفت فيما بعد..

أما ما قام به أبو الأسود الدؤلي فهو ضبط حركة الحرف من حيث الضم أو الفتح أو الكسر أو السكون، وهو ما قاله أبو الأسود لكاتبه: “إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف، فانقط نُقْطةً على أعلاه، وإذا ضَمَمْتُ فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإذا كسَرْتُ فمي فاجْعَلِ النقطة تحت الحرف” [11].

فهذه النسخ القريبة من العهد النبوي تكاد تنطق بسُخف دعوى إنكار الوجود التاريخي للنبي صلى الله عليه وسلم.

كما أن هناك أدلة أركيولوجية أخرى كالمنقوشات على الصخور والرسائل التي ترجع إلى العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين وهي كثيرة جدا جمعها وأعدها الباحث أحمد حسن في مقال مفصل [12].

ثانيا: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في المصادر الأجنبية

أما بالنسبة لوجود ذكرٍ للنبي صلى الله عليه وسلم في المصادر غير العربية فسواء وجِد أم لم يوجد فلا دليل يقوي أو ينفي وجوده التاريخي، فقد تسمع به طوائف ولا تسمع به أخرى، ولا يلزم من سماعهم به تدوين الأحداث التي تروج حوله، فلا يُتخيّل مثلا أن تتسابق على استقباله الصحافة التلفزية والإلكترونية وتُكتب المقالات والكتب حول وصف هذه الظاهرة وتحليلها سيكولوجيا.. ثم بعد ذلك تتسابق دور الطبع والنشر لتخلف كما هائلا من المؤلفات حوله للأجيال اللاحقة!

فلا بد من الانسلاخ من واقعنا الحالي والتفكير وفق إمكانيات ذلك العصر حتى نشكل تصورا صحيحا حول الواقع آنذاك..

فمن هنا يتضح أنه لا مجال للتشكيك في حال غياب ذكره في المصادر الغربية.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار ظروف الواقع آنذاك فإن أي مصدر أجنبي دوَّن أحداثا حول الفترة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا منها فهو مصدر قوي ومؤكد لهذه الحقيقة التاريخية، لكن في حال وجدناه فهل يصح اعتبار أن المصادر الإسلامية لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن الثقة بها واعتمادها مصدرا للبحث العلمي الأكاديمي للتأكد من مدى مصداقية وجوده التاريخي؟

نجد أن رفض اعتماد المصادر الإسلامية هو المنهج الذي دأب عليه المستشرقون الجدد في أحسن الأحوال.. وإلا فإن منهم من تخلى عن المصادر كلها ثم بدأ ينسج أحداثا من وحي خياله يُفترض أنها الحياة الحقيقية لمؤسس الإسلام، وهذا أقرب إلى الهزل والدعابة منه إلى الجدية .. وبعيدا عن العاطفة والأحكام المسبقة يمكن أن نقول عقلا وعبر تفعيل المنهج النقدي الذي يراعي حال الراوي وخلفياته وتوجهاته ومدى تعصبه لها وموقفه من المخالف أنه يمكن أن نسلب المصداقية والثقة من المصادر الأجنبية التي تحدثت عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبعض التفاصيل حوله تماما، ذلك أنها ترى في الإسلام دينا صاعدا منافسا يهدد عقيدتها، فهل يُقبل بأن يُسلّمَ بما فيها وهي محل شك حقيقي؟

ثم بأي منطق تُطرح المصادر العربية التي واكبت عصر الرسالة وتناقلت أخباره صلى الله عليه وسلم بعناية فائقة وفق منهج علمي عقلي يراعي حال الراوي وما يرويه ويحفظ سيرته صلى الله عليه وسلم من أن تتسرب إليها الخرافات والأباطيل؟ يقول عبد الرحمن السالمي في هذا الصدد: “ومن جانب آخر إنها جعلت المصادر العربية موازية للنصوص غير العربية في مجال التشكيك ونقد النص، وهو غير مقبول، ذلك أن الفحص الأولي للمصادر غير العربية يثبت أنها كتب جدلية، وليست موضوعية تذكر من تشاء وتستبعد من تشاء. وطريقة النقد الأعلى تجعل منهم أشبه بالمحْكمين بالقضايا وليسوا محللين لها” [13].

وتقول آمنة الجبلاوي: “كما أننا لا يجب أن نعتبرها نصوصا بريئة تماما، أو أشد تجردا من النصوص الإسلامية، لأنها نابعة من شهادات من هم في موقع المنخرط في الصراعات الدينية والعسكرية والسياسية مع الحضارة الإسلامية” [14].

وفي حالة ما إذا وجدنا مصادر عاش أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو كانت قريبة منه فهي بمثابة شهادة تنضاف إلى جملة الشهادات الكثيرة المصدقة للوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم لا غير، ولا تستقى منها المادة التاريخية الصحيحة لعدم توفرها على المصداقية التي ينشدها النقاد والتي تأخذ بعين الاعتبار النزعات الدينية والمذهبية والعرقية والسياسية وغيرها قبل الحكم على الأخبار.

نجد ذكرا للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض المصادر البيزنطية والأرمينية والسريانية التي عايشت الفترة التي عاش فيها أو بعدها بقليل.. وتجدر الإشارة قبل إيراد بعض من تلك الشهادات أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بين 569م و632م..

أقدم إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاءت فيما يعرف بـ”تعاليم يعقوب” التي تحدثت عنها باتريشا كرون في الاقتباس الذي مر معنا، وكذلك في ”تاريخ هرقل” لسيبيوس الأرميني الذي ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم وذكر بعض تعاليمه كتحريمه أكل لحم الحيوان الميت، وشرب الخمر، والكذب والزنى..، كما أن هناك وثيقة سريانية معاصرة لمعركة اليرموك تذكر محمدا صلى الله عليه وسلم كتبها راهب سرياني في أحد أديرة الجابية في الجولان – حوران، بتاريخ عام 636م والتي تتطابق تماما مع ما عند المؤرخين المسلمين حول هذه المعركة التي كانت بين المسلمين والروم.. وغيرها من الشهادات وهي كثيرة..

أما عن المصادر الإسلامية فيظهر مدى مصداقيتها من خلال الاطلاع على المنهج النقدي الذي اعتمده المسلمون في قبول الأخبار ورفضها..

بعد أن خضنا هذه الرحلة التاريخية حول موضوع الاستشراق وأبرز مدرسة تمثله الآن وما أثارته من إشكالات وشبهات، لقيت لها أذانا صاغية من بعض الشباب العربي الذين يعجبهم كل ما هو غريب ويروجون لكل ما هو جديد ومختلف ولو كان سخيفا..

فهؤلاء الذين يعملون على التشكيك ونقد الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يخرجون على متابعيهم بتصريح يكذبون فيه الوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم، فتناقض صارخ يُفصح عن كونهم يتمسّكون بكل عروة يهجمون بها على الإسلام ولو كانت واهية!

فهل وُجد النبي صلى الله عليه وسلم تاريخيا فيكون لانتقادكم لشريعته وجه من النظر؟

أم أنه لم يُوجد، فلا جدوى من انتقاد مَن انعدم تاريخيا، فهل من المعقول انتقاد ما جاء به شخص غير موجود ثم إنكار وجوده بعد ذلك؟

فتلك الفئة صدقت أنها كانت تعيش في مؤامرة كبيرة خدعوا بها لسنين حتى اكتشفوا الحق المبين، وعلى عادتهم في إلصاق جميع التهم بالأمويين يذهبون إلى أنهم من أنشؤوا هذه الشخصية الوهمية ووضعو كتابا مقدسا لهذا الدين، وكأن المسلمين كانوا نائمين غائبي الوعي حتى قيل لهم يوما إن لكم دينا ونبيا وكتابا فصدقوهم!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] : مستشرقة ومؤرخة دنماركية.

[2] : انظر المقال مترجما هنا.

[3] : الاستشراق، إدوارد سعيد، ص 44، بتصرف.

[4] : يعرفها مارك أوجيه في كتابه ”الأنثروبولوجيا” أنها: علم يعنى بدراسة الإنسان وهي تنقسم إلى الأنثروبولوجيا الطبيعية، والأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، وهذه الأخيرة تهتم بالجماعات الإنسانية والظواهر الاجتماعية التي تستحق تفسيرا من خلال العوامل الثقافية.

[5] : انظر “تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط”، زكاري لوكمان، ص: 95-96.

[6] : المبروك المنصوري، ص: 69، بتصرف.

[7] : جلد حيوان كان يستخدم للكتابة.

[8] : انظر مقالا مفصلا للمهندس أحمد حسن هنا.

[9] : انظر تقريرا مصورا عن المخطوط هنا.

[10] : انظر كلامه في المقطع هنا.

[11] : السيرافي، أخبار النحويين، ص: 13.

[12] : انظر المقال هنا.

[13] : عبد الرحمن السالمي، “المراجعون الجدد، مدرسة استشراقية جديدة؟”، مجلة “التسامح”.

[14] : الإسلام المبكر، الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، ص: 157.