موقع المثقف الجديدحوار

صدر عن (مركز دلائل) كتاب (الميديا والإلحاد – السينما واللاوعي، الخطاب الشعبي للإلحاد) للباحث أحمد حسن الذي عالج ثغرة مسكوتاً عنها، رغم فاعليتها وحساسيتها و أثرها الغائر في الثقافة والوجدان. تناول فيه معركة اللاوعي وتمرير الأفكار في الميديا، حيث بسط التحليل في هذين المحورين.

(المثقف الجديد) استضاف الباحث وحاوره عن الإعلام الغربي والكنيسة، والعلاقة السببية بين مشاهد العري والخيال العلمي والإلحاد، والميديا المضادة للإلحاد، ومحاور أخرى.

 

* اختيارك لفظ (الميديا) عوضاً عن و(سائل الإعلام) لا يبدو مبرراً، لا سيما أنك ذكرت أنهما بمعنى واحد. هل تفصّل أكثر في الفرق بينهما؟

مقصود الكتاب هو إبراز (الأدوات) أو (الوسائل) التي يتم تمرير الأفكار الإلحادية بها، وهذه الوسائل هي ما تترجمه (الميديا) اليوم بشتى الصور من الصورة والكاريكاتير إلى ألعاب الفيديو جيم إلى الفيديو، وهذا أشمل من ذكر (وسائل الإعلام) التي قد يتبادر للبعض اختصاصها بالأخبار والقنوات الرسمية التي تبث الفيديوهات فقط، فالميديا بهذا المفهوم في عنوان الكتاب هي أوسع وألصق بـ(الأدوات) أو (الوسائل) نفسها حتى ما نقابله في وسائل التواصل الاجتماعي من صور تهكمية وفيديوهات خاصة أو عامة ونحو ذلك. وهو ما عملت على تفصيله في الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان (أهمية الوسائل البصرية في الميديا)، فألعاب الفيديو جيم مثلا صعب أن تنسبها إلى (وسائل الإعلام)، ولكن سهل أن تصنف ما فيها على أنه (ميديا).

 

* هل السينما الملحدة في الغرب متأثرة بالمجتمع أو مؤثرة فيه فقط؟

هي مؤثرة ومتأثرة معاً، وإذا أردت أن تقف على تفصيل ذلك فانظر إلى السينما في بلادنا العربية اليوم وراقب التحول الحادث فيها وما زال، حيث لو سألتني عن أقوى حديث نبوي فيه تنبؤ بالمستقبل نعيشه بحذافيره فسأخبرك أنه حديث ” لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة” رواه البخاري ومسلم، فالإلحاد كفكر هو بلا شك فكر شاذ وقبيح ولا ينتهجه إلا مطموس الفطرة أو مكلوم النفس يائس من رحمة الله لا يصبر على الابتلاء، ومن هنا: فبداية ظهور الإلحاد في سينما أي بلد شعبها متدين (وبذلك نستثني الدول الشيوعية وأشباهها)، يكون بإتاحة تلك البلد الفرصة له (على استحياء في البداية) كنوع من أنواع حرية التعبير والفكر، وخصوصا أنه لا يجاهر بالإلحاد صراحة في تلك المرحلة، وإنما بث الشكوك والطعن غير المباشر في الإله والدين، وبذلك تكون البداية من تفريط الرقابة والحكومات في حفظ شعوبها من هذه الأفكار (وهذا هو تأثير المجتمع)، ثم مع الوقت وبمرور السنوات واعتياد الناس على هذه النوعية من السينما للأسف، بل ولكل شاذ في الفكر بدعوى (حرية التعبير والفن): يبدأ هذا اللون من الإنتاج ينتشر ويلقى دعماً سخياً من أثرياء الملاحدة وفسَدة القوم، حتى يصير هو نفسه (مؤثرا في المجتمع)، وتلخيصاً لما سبق: السينما الإلحادية أفرزها المجتمع غير المنضبط وغير المسؤول، ثم صارت هي مؤثرة فيه فيما بعد: تفتن الصغير وتضل الشباب مستغلة عدم علمهم بمغالطات الإلحاد وأكاذيبه وخلط أوراقه التي شرحت كثيرا منها في الكتاب.

 

 

* كيف كانت ردة فعل الإعلام الكنسي الغربي على هذا الإلحاد؟

– الكنيسة الغربية ككل تم تشويهها وتهميشها تماماً مع الثورات العلمانية التي قامت في أوروبا منذ قرون، مستغلين مصادمة الكنيسة للعلماء وتواطؤ بعض رجال الدين مع الملوك والإقطاعيين والأمراء، حيث بعد تلك الثورات لم ينحصر فصل الكنيسة (أو الدين) عن الحياة في (العلم) فقط بل: عن كل ما يظهر في المجتمع من سلوكيات مهما كانت فاحشة أو ماجنة، حيث إذا اعترضت الكنيسة ساعتها يتم مواجهتها على الفور بالاتهامات المُعلبة والجاهزة: الكنيسة رجعية/ متخلفة/ متزمتة/ رجال الدين تجار/ إلخ.. وبمعنى آخر: قبل إشاعة أي فساد في المجتمع يجب عليك أولاً تشويه رموز الدين ورجاله حتى ينفر الناس منهم ولا يكون لنصحهم قيمة.. وما دام يملك الفسَدة أقوى الميديا والإعلام: فتأكد أنه بالفعل لن يكون لصوت النصح مجال للوصول للناس إلا مَن كان متيقظا من الناس أنفسهم واعياً بمثل هذه الصراعات، أو باحثاً عن الحق من بينها. وبذلك التدرج لم يظهر الإلحاد فقط بل: ظهر قبله العُري والمايوهات والأفلام الإباحية وانتشرت، رغم أن أكثر المجتمعات الغربية الأوروبية والأمريكية كانت إلى قرن مضى تصنف على أنها متدينة بالنصرانية وتعاليم العفة والاحتشام على الأقل.. هذا مثال واحد.. والتفصيل يطول.

 

* كتابك مزج العلمي بالوعظي. هل لازال الواعظ المسلم على ذات التأثير السابق على وجدان المسلمين، لا سيما تحذيره من الفن الإلحادي؟

أحد أكبر نقاط ضعف المادية والإلحاد أنها لا تروي الظمأ العاطفي النفسي الروحي لدى الإنسان.. وهذا ملحوظ حتى في كتابات مشاهير المفكرين والفلاسفة الناقدين للنزعة المادية (سواء منهم مَن أسلم أم من لم يسلم).. فكل إنسان لن يخلو من تفاعل نفسي مع الخوف والرجاء.. ومن مزيج من التأثير العاطفي والإقناع العقلي: مهما حاول أن يظهر لك عكس ذلك، عن نفسي قابلت في حياتي أشخاصاً يبكون من سماع آيات ذكر العذاب خوفاً.. وقابلت أشخاصاً يبكون عند سماعهم آيات النعيم! فهذه طبيعة بشرية لا تنفك.. وهذا من كمال الدعوة في ديننا أنها لا تهمل أي جانب من جوانب الإنسان، فنحن نحاور بالعقل والعلم والأدلة والأبحاث.. تماماً كما نستخدم الوعظ أيضاً للتذكير والتنبيه من الغفلة.. أنت يمكن أن تظل تستخدم الحوار العقلي والعلمي مع شخص لأعوام دون أن يقتنع.. لكن رؤيته لموت شخص واحد أمامه أو في حادث تؤثر فيه في لحظات.. وكفى بالموت واعظاً! ولهذا (وعن نفسي) أدمج بالفعل هذا وذاك لعل وعسى… والهداية توفيق من الله لمَن يستحق.

 

* مشاهد العري في الأفلام قد تكون سبباً للإلحاد. وضح أكثر هذه النقلة الحساسة الخطيرة من الحسي الشهواني إلى العقلي الإيماني؟

عندما يعتاد شخص ما على مشاهد العري والزنا والفاحشة في الأفلام.. فإن بعض المسلمين والشباب خصوصا قد يصل إلى مرحلة عدم الممانعة (أي عدم وجود أي اعتراض لديه أو غضاضة في وقوع مثل هذه الأشياء للمسلمين)، وهنا يبدأ صراع فكري نفسي داخلي بين التبرير والرفض.. لأنه إذا كان دينه يخبره بأن ما يراه لا يجوز: في حين هو أصبح يميل إليه ويتقبله: فهناك حالة مؤلمة من التناقض النفسي والداخلي تتعارك في صدره.. وهنا ثلاث نتائج لا رابع لها.. إما يعيد ترتيب أوراقه فتتغلب فطرته السليمة وإيمانه.. وإما يحاول التعايش مع هذا التناقض (وهؤلاء تجدهم بكثرة في مجتمعاتنا وفي الغرب اليوم: الاسم مؤمن لكنه لا يمانع من وجود الشذوذ الجنسي والزنا قبل الزواج وعدم الحجاب وإباحة الخمر إلخ) وإما يرى في الإلحاد حلاً لهذه الحالة من الصراع الداخلي لكي يتسق مع نفسه أمام نفسه، بل والأعجب: قد لا يتبنى الإلحاد بالفعل وإنما: يلحد حياء من الله (وأترك لك مائة علامة تعجب!) ولهذا الصنف أقول: ما تعاني منه تحدث عنه علماء الأمة في الماضي وليس بجديد.. ولأن تلقى الله مؤمنا بذنوب ومعاصي: خير من أن تلقاه ملحداً! ولأن تصلي حاملاً مشاعر الندم والألم: خير لك من ترك الصلاة.. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يؤتى به كثيرا لشربه الخمر ليجلدوه، فلما لعنه أحدهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ” أي إنه يحب الله ورسوله، فانظر إلى حكم النبي عليه، لقد تلقى الرجل عقاب معصيته وذنبه، لكنه لم يُسقط عنه الإيمان ولم يُسقط عنه محبة الله ورسوله. وإجمالاً لما سبق أقول: الشهوات باب من أبواب الكفر والإلحاد، وليست النفوس كلها بذات الوعي أو القوة حتى لا تتأثر بكثرة رؤية الشهوات والاعتياد عليها. والله المستعان.

 

* الخيال العلمي الموغل في تعظيم قدرات الإنسان قد يهدف إلى الكسب المادي وحسب، وأظنك حصرته في بعث الرسائل الإلحادية بوصفه مهمشاً لقدرات الله. كيف تتفاعل مع هكذا رأي؟

لكل مظهر من مظاهر الخيال العلمي غرض أو دافع فكري ورائه.. فمثلا عندما أفكر بخيالي في وصول الإنسان في المستقبل إلى طرق مواصلات حديثة (مثل المركبات الطائرة ونحوه) فأنا هنا أحمل غرضاً أو دافعاً فكرياً وهو حث نفسي أو غيري للوصول إلى ذلك الإنجاز، وهكذا.. وعليه، فأنا لا (أحصر) شيئاً (فقد يكون خيالاً نظيفاً مفيداً أو عكس ذلك)، وإنما أحاكم الأفكار إلى دوافعها الظاهرة من السياق والحوار ولوازم الأفعال، وكثير من هذه الأعمال الخيالية يكون الحوار فيها ظاهراً جداً وملموساً لدرجة أنه يتم التصريح لفظاً أنه البطل صار قويا كـ(إله) God أو أنه صارت له القدرة على التحكم في الزمن أو الناس كـ(إله) –هذا في باب القدرات فقط- وبعضها يزيد عن ذلك ويبدأ إسقاطاته الفلسفية بعدما أوصل البطل إلى هذه المرحلة (الألوهية في نظره) لينتقد القدر مثلاً أو الخلق أو الحياة والوجود. فيبدو وكأنه (يحاكم) الإله.

 

* هل تورطت الميديا العربية العلمانية في ترويج الإلحاد؟

الميديا بمفهومها الواسع الذي أوضحته منذ قليل في إجابة السؤال الأول: فيمكننا للدقة تقسيمها إلى نوعين.. ميديا عامة غير رسمية (مثل وسائل التواصل الاجتماعي والحسابات والصفحات والقنوات التي لا رقابة عليها).. وميديا رسمية (مثل القنوات الحكومية والخاصة والسينما)، فأما غير الرسمية: فالإلحاد فيها منتشر بالطبع ويتم تمويله بكثافة.. وأما الرسمية فأرى أننا لا زلنا في مرحلة (بداية حرية التعبير) التي تحدثت عنها في إجابة السؤال الثاني.. وهنا بابان من أبواب الإلحاد كـ(بداية).. باب الترويج للداروينية والتطور دون عرض للنقد العلمي الهادم لها (وذلك يتجلى في بعض مناهج التعليم والبرامج العلمية ووزارات الثقافة التي تهتم بترجمة ونشر وطباعة أشهر كتابات الملحدين والتطوريين وغيرها) ومعلوم أن التطور ونسبة إبداع الكائنات الحية للطبيعة والطفرات العشوائية هو أحد أكبر أبواب الإلحاد باعتراف مشاهير الملحدين مثل ريتشارد دوكينز وغيره.. والباب الآخر هو تكثير تكرار اسم الإلحاد إعلامياً.. والذي يترتب عليه بعد اعتياد الناس: مجاهرة الملحدين به مجتمعياً، حتى يصير الشاب وهو يعرفك على زملائه يقول لك بكل بساطة: وهذا صديقي الملحد فلان! فإذا تقصد بسؤالك باب السينما خصوصاً.. فبالنظر إلى الروايات المكتوبة (والمطبوعة) والتي تعد بذرة من أهم بذور السينما وخاصة ما يتحول منها إلى أفلام: فهناك روايات فيها إسقاطات كثيرة تزدري الإسلام والصحابة وتعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم ورموز الدين (بل ومنها إسقاطات على الله جل وعلا).. وتوجد غالبا في البلاد العربية التي تتلون وزارة الثقافة والإعلام فيها بالعلمانية أو بقايا الشيوعية والماركسية.. ومؤخراً صدرت رواية مصرية بطلها ملحد.. ساق فيها المؤلف المعروف بفجاجة روايته وإشاراتها الجنسية: عشرات المغالطات المنطقية والعلمية للأسف، وهنا مكمن الخطورة الذي أشرت إليه في كتابي، وهو أن الأفلام (ومثلها الروايات) يصنع فيها المؤلف عالمه الخاص ليتحكم في مسار الأحداث ونهايتها وأبطالها: من غير أن يتصدى له أحد في حوار أو يكشف مغالطاته وأخطائه طوال العرض.

 

* هل هناك ميديا إسلامية مضادة للإلحاد؟

للأسف تكاد تكون منعدمة.. أولاً لحداثة انتشار الإلحاد بشكله الواضح والصريح اليوم.. وثانياً لاحتياج الميديا إلى تعاون بين مختصين في نقد الإلحاد ومختصين في إنتاج الميديا بصورة احترافية ومؤثرة (وإلا فلن تنتشر).. وثالثاً لضعف التمويل في هذا الباب تحديداً رغم أهميته مهما حاولنا استنكاره.. وعن نفسي أرى أن البداية تنطلق دوماً من الكتابات (المقالات والقصص والروايات).. حيث فيها تتجلى عبقرية الحوار والإقناع الفكري المضاد لأكاذيب الإلحاد والباطل.. وهو ما وقع بالفعل منذ خمسين عاماً تقريباً عندما تصدى بعض المفكرين العرب والمسلمين لظاهرة الماركسية والشيوعية (فهي إحدى صور الإلحاد أيضا).. فنتج عدد من الكتابات والروايات تغرس القيم وتعري الباطل: وإن كان عددها لا يتجاوز أصابع اليد للأسف.. هذا من خمسين عاماً.. فما بالك اليوم والميديا صار لها من الانتشار ما ترى حتى تصل إلى أيدي أطفالنا الصغار؟! إذن.. نحن بحاجة إلى مجهودات في كتابة قصص وروايات تعزز الإيمان واليقين.. وتعلم نقد الترهات والأباطيل وتكشف زيف منطقها ومغالطاتها.. وكذلك في حاجة لكتابات تعيد غرز إنسانية الإنسان والتوكيد عليها.. مع إظهار قبح وجه المادية والإلحاد الحقيقيين لا زخرفهما الكاذب الذي يخدعون به الناس إعلاميا في الأفلام والمسلسلات والروايات للأسف.. نحتاج إلى مَن يركز عمله في إنتاج مقاطع موشن جرافيك.. ومقاطع رسوم متحركة.. وغير ذلك الكثير مما يعد أحد أهم أوجه مواجهة الإلحاد وكل فكر فاسد في المجتمع.