لفيلسوف المسلم “ابن عربي” عبارة على قدر من الأهمية في علاقة الاعتقاد بالإنسان، إذ يقول: “إن العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته”، وكان عالم النفس الكبير “إريك فروم”، يرى “أنه لا يوجد إنسان بلا مقدس”.. فرغم اختلاف الأرضية الفكرية والثقافية التي يقف عليها “ابن عربي” و”فروم” إلا أنهما يتفقان أن الإنسان مفطور على العبادة والاعتقاد والإيمان، حتى في حاله إلحاده فهو يبحث عن يقين مختلف، وفردوس آخر، فالشيوعية في أشد لحظات إلحادها خلقت فردوساً أرضيا لأتباعها بديلاً عن الفردوس الموعود في الآخرة، فالإنسان بلا معتقد أشبه ما يكون بالجسد الذي تصفر فيه الريح، بل وصلت السخرية من فكرة الإلحاد بالأديب “برنارد شو” أن يقول: “أشكر الله على أني ملحد”.

العودة بعد خمسين عاماً

والمفكر الإنجليزي “أنطوني فلو” الذي قطع أكثر من خمسين عاما في التأسيس للإلحاد في الفكر الإنساني المعاصر، حيث بدأ إلحاده عام 1946، وكان يرى أن أول كائن حي نشأ كان من العدم ثم تحول إلى مخلوق معقد، لم يجد في النهاية إلا أن يعترف بأن الإلحاد ما هو إلى خواء، وأن للكون إلها قديرا، ورغم أن عودته للإيمان كانت ما تزال مشوشة بتأثير طول العمر الذي قضاه في التنظير للإلحاد، إذ يقول عن رحلة عودته للإيمان أنها كانت “رحلة عقل وليست رحلة إيمان”، إلا أن الحقيقة أن إلحاده قد اهتز وتهاوى الأساس الذي يرتكز عليه مشروعه الإلحادي بالكامل بفضل فكرة الاعتقاد بوجد إله خالق لهذا الكون، فهو يؤكد أنه كان يتبع البرهان إلى حيث يقوده، وقد قاده البرهان إلى حقيقة الاعتقاد بوجود إله، فيقول:” صرت أؤمن بإله واحد أحد، واجب الوجود، غير مادي، لا يطرأ عليه التغيّر، مطلق القدرة، مطلق العلم” وكانت لحظة إعلان الإيمان تلك وهو في الحادية والثمانين من عمره.

في نهاية عام 2007 أصدر “فلو” كتابه “There is God” “هناك إله” أي قبل موته بثلاث سنوات، نسف به ثلاثين كتابا وبحثا فلسفيا في التنظير للإلحاد، وهو ما يعني أن الرجل أراد أن يقول كلمته الأخيرة في أهم ما شغل الإنسان ألا وهو قضية المعتقد في أكبر أسئلتها وهو سؤال “الإله”، وربما قد اكتمل عند “فلو” الكثير من المعرفة والقدرة على الصراحة، فالأديب توفيق الحكيم كان يرى أن القليل من العلم يورث الإلحاد، أما الكثير من العلم فهو يورث الإيمان، ومن ثم فالإلحاد كما أشار الشيخ الغزالي هو “آفة نفسية قبل أن يكون شبهة عقلية”.

وكان المفكر البوسنوي علي عزت بيجوفيتش، في الفترة التي رأى فيها انتشار الشيوعية والإلحاد  في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وانجراف شعوب نحو العلمنة الملحدة، أو الشيوعية الملحدة، رأى أن كثرة معتنقي الفكرة ليس دليلا على صحتها، لأن الأصل هو مدى صلاحية الفكرة لأن تفسر ما يواجه الإنسان في الوجود من تعقيد، فحسب رأيه فـ” الإلحاد في جوهره متناقضًا مع ذاته ومع الكون المحيط به “، وهنا نشير إلى كتاب “الحقيقة الإلهية: الله، والإسلام وسراب الإلحاد” للباحث البريطاني المسلم “حمزة تزورتزس” ذلك الرجل الذي أسلم عام 2002 ، وأصدر ذلك الكتاب 2016 ليناقش الإلحاد الحديث نقاشا قويا، فقدم أدلة تنفي الإلحاد بأسلوب منطقي وأمثلة مختلة من الواقع والحياة.

ويلاحظ عند مطالعة كتيب “لماذا أنا ملحد؟” الصادر 1937، والذي كتبه إسماعيل أدهم تجده يقول: ”الإلحاد هو الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته وأن ثمة لا شيء وراء هذا العالم” وهو قول بائس، فكيف يكون الإلحاد إيمانا، ولماذا يطلب الملحد من المؤمنين أن يغادروا حقائق الإيمان ونصاعة معرفة الخالق إلى الإيمان بالعدم، ونذكر هنا أن إسماعيل أدهم قد انتحر في (23 يوليو 1940) بعدما ألقى بنفسه في البحر بالإسكندرية، غير أن رسالته التي وجدت مع جثته، تفيد أنه لم يفلح هروبه من حقيقة الاعتراف بوجود الله، فكل الأدلة التي أوردها لنفى الإله هي أدلة إثبات، وفشلت محاولته لفصم عرى العلاقة بين السبب والنتيجة أو كما أسماه “قانون الصدفة الشامل” باعتباره أحد مداخله الإلحادية، لذا لم يجد سبيلا للتخلص من ذلك التناقض إلا بالتخلص من حياته، فكف تكون الصدفة قانونا؟! وكيف يكون هذا الإبداع في الوجود والتناسق في الخلق والنظام الحاكم للكون.. صدفة؟!، و كان أمير الشعراء أحمد شوقي على بصيرة عندما رأى الإلحاد يتنفس في بدايات القرن الماضي، فكتب قطعة أدبية رائعة تناقش الملحدين، جاء فيها:” يا متابع الملاحدة، مُشايع العُصبة الجاحدة، منكر الحقيقة الواحدة؛ ما للأعمى والمرآة، وللمقعد والمرقاة” (أي: السلم).

العلم والإلحاد

كان بيجوفيتش في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” مدركا لضرورة الاتساق بين الدين والعلم كسبيل لمقاومة الإلحاد، لأن الانفصال بينهما لا يعني سوى أن “يرتكس الدين في التخلف، ويتجه العلم إلى الإلحاد”، وصاغ الألماني الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932 ” فيرنر هايزنبيرغ” ذلك ببراعة عندما قال:” إن أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية سوف تحوّلك إلى ملحد، ولكن في قاع الكأس، ستجد الله في انتظارك”، والحقيقة أن “فيرنر” أنزل العلم من عليائه في مطلع القرن الماضي بوضعه مبدأ الريبة أو عدم اليقين أو الشك في نتائج التجارب العلمية والتي تعد أحد أهم نظريات الفيزياء الحديثة، حيث أكد أن علم الفيزياء لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن تكون لديه تنبؤات إحصائية فقط. وبالتالي نفى “فيرنر” صفة إطلاقية العلم معترفا بنسبية العلم، ولا شك أن تلك النظرية تعني أن هناك مطلقا ينزع الكون والوجود إليه.

وفي رحلته الكبيرة من الشك إلى الإيمان رأى الدكتور مصطفى محمود أن الإصغاء إلى صوت الفطر يكفي للهداية، أما نجيب محفوظ في كتابه “أصداء السيرة الذاتية” فقال “إن أمسك بك الشك فانظر إلى مرآة نفسك مليا” غير أن الملحد لا يريد أن يختلي بنفسه”.

ولكن هل نحن نعاني من انتشار الإلحاد، أم أن ضجيج الإلحاد زاد بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، ففي تقرير سابق[1]  لمركز “بيو ” الأمريكي المتخصص في دراسة الدين في العالم، ذكر أن نسبة الأشخاص الين يعتبرون أنفسهم بلا دين حوالي (16%)، وان هذه النسبة ستنخفض في عام 2050 إلى (13%)، وهؤلاء يختلفون عن الملحدين الذين ينفون وجود إله للكون، ورغم أن التقرير ذكر أن الإلحاد هو الدين الثالثة من حيث العدد بعد الإسلام والمسيحية، إلا أنهم في منطقة الشرق الأوسط من أقل المناطق إذ لا تزد عن مليون شخص، وفي تقرير آخر عن معهد “غالوب” الأميركي 2012 ذكر أن الإلحاد لا يزيد عن 13%، وأن المؤمنين حوالي 59% ، ورغم أن الإلحاد يحاول مأسسة نفسه في روابط وشبكات تواصل على الإنترنت وفي إصدارات إلا أن خطابه هش معرفيا وجماهيريا.

__________________

المصدر: “إسلام أون لاين”.