ما أجمل أن نتمعَّن في قُدرة الخالق عزَّ وجل في كيفية خلقه للإنسان؛ فقد خلق الله سبحانه آدم عليه السلام أبا البشر جميعًا من تراب، لا من أب ولا أم، ثم خلقَ حواءَ من ضِلَع آدم، وبذلك يكون قد خلقها من ذكر بدون أنثى، ثم خلقَنا جميعًا من ذكر وأنثى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ الآية [الحجرات: 13].

وقد تجلَّت معجزة الخالق، وذلك بخلق الإنسان من أنثى بدون ذكر، فكان – عيسى – ابن مريم عليه السلام.

وقد نصَّ القرآن على مولده أنَّ مولده معجزة كخلق آدم عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، ويقول عزَّ وجل: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ [المائدة: 75] ؛ أيْ: عظيمة الصدق، وقد تكلَّم بنبوته في المهد، وتحدَّث عليه السلام ببراءة أمِّه الطاهرة العذراء البتول عليها السلام.

وقد تفرَّد القرآن الكريم بذكر الآيات الكثيرة عن السيِّد المسيح وأمِّه مريم عليهما السلام، وأشاد بمعجزاته وبركاته التي تحيِّر العقول وتبهر الأبصار، وقد كرَّم القرآن الكريم السيدة مريم وحفظها بالطهارة والتقى والاصطفاء على نساء العالمين.

كانت أمنية ونذْر والدتها (حَنَّة بنت فاقود) التي عاشت لسنوات طوال في حياة أسرية طيبة، لولا أنها لم تُنجِب، وقد اصطحب عمران زوجتَه – حنة – في هذه الرحلة من الناصرة إلى القدس؛ لكي يزور قريبه زكريا عليه السلام، وكان زكريا في ذلك الوقت يعمل في المعبد.

وذهبت – حنة – وأختها للتعبُّد في المعبد، فرأت أطفالاً صغارًا يرتدون الملابس البيضاء ويقفون بجوار المعبد يردِّدون معهم التراتيل، فمسَّ ذلك المشهد أوتارَ الأمومة في قلبها، ووضع في نفس السيدة – حنة – موقفًا حسنًا، وتمنَّت أن يكون لها طفلٌ مثل هؤلاء الأطفال فتهبه للمعبد، استجاب الله سبحانه وتعالى لرغبتها، وإذا بها تشعر بالحمل، وفي ذلك المعنى يقول القرآن الكريم: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35].

وعادت – حنة – إلى بيت شقيقتها وهي تشعر بالسعادة العميقة والرضاء، وتتابعت شهور الحمل التسع دون أدنى ألم أو تعب، مما تشعر به مثيلاتها من السيدات في تلك الفترة، وكانت – حنة – تشعر بأن حملها خفيف، وترى في أحلامها ملائكة السماء يحومون حولها ويباركون ما في بطنها، حتى حان موعد الولادة فولدت في أمان ويسر وسلام.

وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36].

بهذا الدعاء القلبي الصادق بسطت – حنة – أمام ربها أمنيتها في أدب رفيع، وهي التي كانت عاقرًا، فمنحها الله مريم، فطلبَت منه أن يُعيذها وذريَّتها من الشيطان الرجيم، وقد سُمِّيت – مريم – بهذا الاسم تيمُّنًا باسم (مريم) أخت موسى وهارون عليهما السلام، وفرِحت الأم فرحة غامرة بطفلتها، وزاد من حبها الطبيعي كأم أن كانت – مريم – على جانب كبير من الحسن والجمال.

ومات عمران وكانت ابنته الصغيرة (مريم) طفلة قُدِّر لها أن تتربَّى في حجر أمها يتيمة وحيدة، وظلَّت كذلك حتى تجاوزت سنَّ الطفولة بقليل، فأخذت بها أمها من يدها وذهبَت بها إلى المعبد وفاءً بنذرها: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 37]، وتشاور العبَّاد الذين في المعبد فيما بينهم أيهم يكفل (مريم)، فقال زكريا عليه السلام: إنَّه أولى وأحق منهم جميعًا بتنشئة (مريم)؛ وذلك لأنَّ زوجته هي خالتها، وهي التي تقوم على تربيتها حتى كبِرت.

ولكن الباقين في المعبد عارضوا زكريا فيما ذهب إليه وطلبوا الاقتراع، وكانت صفة الاقتراع التي اختاروها لتحديد من يكفل (مريم) أن اتفقوا على أن يُلقوا بأقلامهم في نهر جارٍ، فألقوا بها، فرسَت أقلامهم جميعًا إلا قلم زكريا فقد طفا؛ ولذا فقد كفَلها زكريا عليه السلام، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44].

وكانت (مريم) تتردَّد ما بين المعبد في النهار ومنزل زكريا في الليل، حتى شبَّت وكبِرت وبلغت مبلغ النساء، وكان زكريا عليه السلام يتردد عليها في محرابها بالمعبد، وقال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].

وفي مثل هذا النبت الصالح نشأت (مريم) طاهرة متعبِّدة في بيت كله تقوى وصلاح، وكانت تقوم لله ليلها ونهارها عابدة متبتلة لربها في محراب مقدَّس على بقعة من الأرض الطاهرة المباركة.

وفي مريم قال تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]، وظلَّت الشابَّة الطاهرة مريم طوال سنوات عمرها حتى بلغت العشرين سنة في المعبد، تعكف على قراءة التوراة، وتصلِّي وتسبِّح لربها خاشعة مؤمنة، ومتفرِّغة للعبادة تدعو الله بالرحمة والمغفرة لعباده المؤمنين، وأن يرسل لبني إسرائيل من يخلِّصهم من الضلال والكفر والفساد، وهذه هي أمنيتها، فأكرِمْ بها نسلاً مباركًا من سلالة الأنبياء المكرمين من داود حتى إبراهيم عليهم السلام أجمعين.

وغادرت مريم المعبد عائدة إلى قريتها الناصرة التي تبعد حوالي خمسين ميلاً تقريبًا عن بيت المقدس؛ لتعيش مع أمها السيدة (حَنَّة) بعد أن وفَّت بنذرها، ولكونها قد أكملت أنوثتها؛ فقد أصبحت صالحة للزواج، ولكن العذراء لم يتغير من نظام حياتها شيء عما كان عليه الحال في المعبد، بل اختارت في بيتها حجرة شرقية تتعبد فيها؛ حيث تؤدي صلاتها وفروض عبادتها، وتحمل إليها الملائكة رزقها كما كانت في المعبد؛ فضلاً من الله وكرمًا منه عزَّ وجل.

قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ﴾ [مريم: 16، 17]، وقد كبِرَت الأم (حنة) وكانت تغمرها المحبة والسعادة في آخر عمرها، وكانت تحترم الأم تبتُّلها وانقطاعها التام للعبادة، وكثيرًا ما كانت ترى الأم (حنة) في المنام أن حجرة ابنتها يشعُّ منها نور وأن ملائكة السماء تملأ حجرة ابنتها (مريم)، وأيضًا لما كان يُخبرها به زكريا عليه السلام زوج شقيقتها؛ فقد كان يقول للأم: إنه يجد عند (مريم) طعامًا وفاكهة تُحضرها لها الملائكة: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 37].

وفي أحد الأيام ومريم العذراء تؤدِّي فروض صلاتها وعبادتها كما تعوَّدت دائمًا، فرأت إنسانًا وسيمًا جميل الخلق، ففزعت منه وظنَّته رجلاً يُريد بها سوءًا، وفي ذلك قال تعالى: ﴿ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 17، 18]، فقد جاء جبريل عليه السلام في صورة رجل وسيم جميل الخَلق حسن الصورة؛ حتى يكون مألوفًا ومقبولاً؛ إذ لو جاء في صورة الملائكة قد لا تقوى على مخاطبته، فلما قالت له: إنها تستعيذ بالله منه إن كان رجلاً تقيًّا؛ لأنه بذلك لا يضرها، وطمأنها بأن قال: ﴿ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19].

فهدأت نفس (مريم) الثائرة القلقة، ولكن جال في خاطرها أن تسأل عن سبب حضوره، فقال لها: ﴿ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾، اهتزت فيها مشاعر الطُّهر والكرامة والعفَّة، فقالت: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20]، ولم يشأ جبريل عليه السلام أن يُجادلها، بل جاءها من زاوية الإيمان بقدرة الله عز وجل؛ لأنه يعلم صدق نيَّتِها وطهارتها، فقال لها: ﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21].

وأدرك (مريم) عقلُها الواعي بما جاء في التوراة بأن المسيحَ سيُولَد من عذراء، ولمَ لا تكون هي العذراء صاحبة هذا الشرف الرفيع؟ وكانت تغمرها الفرحة وهي تتمنى وتسمع، فقال لها جبريل عليه السلام مبشرًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران:45 – 46].

وفي أعقاب ذلك مباشرة غاب عنها جبريل، وكانت مريم في نشوة من السعادة والبهجة والسرور، وحملت (مريم) العذراء البتول بالمسيح المبارك حملاً خفيفًا ولم يتعبها الحمل، وبعد بضعة شهور ولد يحيى بن زكريا وابن خالة (مريم) والذي قال عنه سبحانه وتعالى: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7]، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يفاجئ المخاض (مريم) في بيت لحم، فوضعَت حملَها، وفي ذلك قال تعالى: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 22، 23].

وقد قالت (مريم) البتول بهذا القول؛ تنفيسًا عن نفسها من الضيق الذي كانت فيه، وآلام الوضع التي فاجأتها بشكل عاجل في مثل هذا المكان غير المعدِّ لذلك، لم يكن قولها هذا يأسًا من رحمة الله، ولكن مجرد حالة ضيق بشرية نطَقَ لسانُها بما قالت؛ تخفيفًا عن ضيقها؛ ولهذا أنطق الله ابنَها عيسى عليه السلام؛ ليزيل عن قلبها تلك الغشاوة الطارئة، وليذكِّرَها بما قال جبريل عليه السلام قبل ذلك بتسعة أشهر: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 46]، وليريَها الله عز وجل معجزاتِه، فتقرَّ بها عينًا، وتحمد الله بما أنعم بوليدها السيد المسيح عليه السلام.

﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 24 – 26].

فتوجَّهت مريم حاملة ابنها إلى قومها بني إسرائيل، الذين رموها بالبغاء؛ قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27، 28].

لكنها أشارت إلى ابنها وهو في المهد ليدافعَ عنها بأمر الله عز وجل: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ﴾ [مريم: 29 – 32].

والله أعلم، وهو على كل شيء قدير.