خديجة بنت خويلد المفترى عليها

معاشر المؤمنين:

ما أجملَ الحديثَ حينما يكون عن الطُّهر والعفاف! وما أروع الكلمات إذا دارَتْ حول الحشمة والحياء! ولكن أجمل من ذلك وأروع أن نرى هذا الطُّهر والحياء يتجسَّد في نساء سامقات، سطَع نَجْمُهن في دنيا الناس، وبقي أثرُهن نبعًا ومعينًا، تستسقي منه الأُمَّة عَبْر دهورها.

نقف – إخوة الإيمان – مع اسم يتلألأ في تاريخ الإسلام، كما يتلألأ القمَرُ ليلة البدر في أفق السماء.

مع من؟!

مع رمز الوفاء، ودُرَّة الصفاء، وسيِّدة النِّساء.

مع امرأة لم تشبه النِّساء في نقصهن، ولم يشبهنها في كمالِها، مع أُمِّنا، أمِّ المؤمنين خديجة – رضي الله عنها.

هذا الاسم الذي تَنْفَهق الأرواحُ لسماعه؛ حبًّا لها، ووفاءً لِجَميلها، فمَن هي خديجة؟

مَن هي خديجة، التي يُخْتطَف اسْمُها اليوم لِيُجعل ستارًا لإفساد المرأة في مُجتمعنا؟!

إنَّها خديجة بنت خويلد بن أسد القرشيَّة، ذاع صيتُها وعُرِفت في المجتمع الجاهلي بالطَّاهرة، فجاء الإسلام، فزادها شرفًا إلى شرفها.

جَمَعت خديجة خِصال الخير دون نساء قومِها، فامتازت بِحِدَّة الذَّكاء وبالعفاف والسَّخاء، وكان لها من شرف حسَبِها ونسبها وأدبِها ما جعل كلَّ شريف من قومها يُمنِّي نفسه بالزواج منها، كيف وهي بعد ذلك كلِّه كثيرةُ المال، ذات حُسْن وجمال؟!

كانت أمُّنا قبل الإسلام تستأجر الرِّجال في جَلْب تجارتِها، فبلغها خبَرُ ذلك الفتى القرشيِّ محمَّد، الذي ذاع صيته في مكَّة بالصِّدق والأمانة، فعرضَتْ عليه أن يتَّجِر في مالِها، فوافق النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فخرج الصادق الأمين يستقدم البضائع من الشَّام، وكان معه في سفره هذا “مَيْسرة”، غلامٌ لِخديجة، فرأى هذا الغلامُ من حُسْنِ خلُقِ النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتعامله ما أعجبه، فحَفِظه ووعاه؛ لِيَزفَّ بعد ذلك إلى خديجة خبَرَ ما رآه.

فَرِحَت خديجة – رضي الله عنها – بِمَن ائتمنَتْه على تِجارتها، وازدادت فرحًا وارتياحًا أنَّها رأت أثرَ هذه التِّجارة في برَكةِ أرباحها، فرأَتْ أنَّ هذا الصادق الأمين هو الرَّجُل الذي كانت تنتظره، فأرسلت إلى النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – تعرض نفسها عليه، فكانت الموافَقةُ وتَمَّ الزواج، وذلك قبل بعثة النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بخمسة عشر عامًا.

تزوَّج الكريمُ من الكريمة، والطيِّبات للطيِّبين، والطَّيبون للطيبات.

نزل الرُّوح الأمين على سيِّد المرسلين في غار حراء، فحصَل للنبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مِن الخوف والْهَلع ما جعله يقول لزوجته – وفؤادُه يرجف -: ((والله لقد خَشِيتُ على نفسي))، فتأتي الكلمات منها كالبلسم الشافي على القلب المضطرب، فقالت مطَمْئِنَة ومثبِّتة: “أَبْشِر، كلاَّ والله، لا يُخْزيك الله أبدًا؛ إنَّك لَتَصِل الرَّحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضَّيف، وتُعين على نوائب الحق”، فكانت – رضي الله عنها – أول مؤمنٍ ومصدِّق بهذا الدين.

قال ابنُ الأثير: خديجة أوَّل خَلْقِ الله إسلامًا بإِجْماع المسلمين، لم يتقدَّم عليها رجلٌ ولا امرأة.

بدأ النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بدعوة قومه إلى هذا الدِّين الجديد، فطاشَتْ لهذه الدَّعوة عقولٌ وأحلام، وقلَّ النَّصير، وعزَّ المُعِين، فكان النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يحفظ لخديجة تصديقَها ونُصرتَها، وكان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يقول عنها بعد وفاتِها: ((لقد صدَّقَتْنِي حين كذَّبَني الناس، وآمنَتْ بي حين كفَر بي الناسُ)).

وقفَتِ المرأة الصالحة مع زوجها في دعوته ورسالته، وهَمِّه ومعاناته، تدفع من مالها لِنُصرته، ومن عطفها لمواساته وتسليته، كم مرَّت بالنبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – من مواقفِ تصلُّبٍ ومعاندة ومُحادَّة، كادت نفسه تذهب معها حسرات على هذا الإعراض، حتى قال له ربُّه: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8] ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، فكانت خديجة – رضي الله عنها – نسمة نديَّة، تُخفِّف من آلامه وحسراته.

قال ابن إسحاق: كان النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لا يسمع شيئًا مما يكرهه من ردٍّ عليه، وتكذيبٍ له، إلا فرَّج الله عنه بِها إذا رجع إليها، تثبِّته وتُخفِّف عنه، وتصدِّقه وتهوِّن عليه أمر الناس، فرَضِي الله تعالى عنها.

عاش المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكَّة حياة الاضطهاد، وقرَّر قومُه مُحاصرته في شِعْب أبي طالب، فاختارت المرأة الصالحة الوفيَّة، أن تنحاز إلى الشِّعب مع زوجها، مع أنَّها ليست من بني هاشمٍ ولا بني المطَّلِب، وإنَّما اختارت حياة الجوع والمسغبة ثلاث سنوات؛ نُصْرة وتأييدًا لزوجها.

وظلَّت أمُّ المؤمنين وفيَّة لزوجها، بفِعالِها وأقوالها، حتَّى ملكَتْ على النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قلبه ووجدانه، فكان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يقول عنها: ((لقد رُزِقْتُ حُبَّها)).

ولذا لم يتزوَّج عليها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – حتى توُفِّيَت؛ إكرامًا ووفاء، وازداد مقامُ أمِّ المؤمنين إلى مقامها؛ أنَّها الأمُّ لبنات النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فكانت – رضي الله عنها – مدرسة في التربية والتوجيه والتعليم، فخرجتْ من بيت النبوة بنات، كُنَّ مضْرِبَ المثل في العفَّة والحياء والوقار.

إخوة الإيمان:

انشقَّت السَّماء، ونزل الرُّوح الأمين على سيِّد المرسلين، برسالة من ربِّ العالمين، بشأن أُمِّ المؤمنين، فقال جبريل – عليه السَّلام -: ((يا رسول الله، أقْرِئ خديجة السَّلام من ربِّها ومنِّي، وبَشِّرْها ببيت في الجنة من قصَب، لا صخب فيه ولا نصَب)).

نعم، لقد استحقَّت من ربِّها هذا البيتَ الذي لا صخب فيه ولا ضجيج، مقابل ما تَحملتْه من صخب المشركين واستهزائهم وإيذائهم لِمَقام زوجها ومقامها، ولا نصَب فيه أيضًا؛ أيْ: فيه الراحة التامَّة؛ جزاء ما تعبت في أيامها الخالية، فعوَّضها ربُّها سبحانه من جزاء صنيعها.

إخوة الإيمان:

ولِصَلابة الإيمان، وكمال الخلُق، ورجاحة العَقْل؛ استحقَّت خديجةُ – رضي الله عنها – وسام الأفضليَّة بين النِّساء في الدُّنيا والآخرة، فقال – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)).

عباد الله:

وفي السَّنَة العاشرة بعد البعثة، كان النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – على موعد مع خَطْب اهتزَّ منه فؤادُه، واعتصر له قلبه، إنه مَشْهد توديع هذه المرأة الصالحة الطاهرة النَّاصرة، وودَّعَت دنياها، بعد أن قضت ربع قرْنٍ مع هذا الزَّوج الكريم والنبِيِّ العظيم، فلا تسَلْ عن مراراتِ الأحزان، وحسرات الآلام، التي عاشها النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم!

لقد فقد العضيد والنصير، الذي كان يخفِّف من أحزانه، ويَمْسح عنه غمومه.

فقدَ قطعةً من حياته، ورُكنًا من أركانه، فجثم الحزن على قلب النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وغار في صدْرِه، حتَّى سُمِّي ذلك العام بعام الحزن؛ لأنَّ الحزن بدا على مُحيَّا رسول الْهُدى على فراق زوجته وعمِّه.

وظلَّ اسم خديجة ورَسْمُها في سُوَيداء قلب النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – تتحرك بين جنبَيْه لواعجُ الشَّوق والحنين على أيامها وزمانِها، وكان – عليه الصَّلاة والسَّلام – كثيرًا ما يذكرها، ويذكر فضلها ونصرتَها، ويُعقب هذا الثَّناءَ بالاستغفار لها.

امرأة عجوز، تَدْخل بيت النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فهشَّ لها المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبشَّ، وبالَغَ في إكرامها وحفاوتها، فتعجَّبَت عائشةُ – رضي الله عنها – من هذه الحفاوة، وزال عنها هذا التعجُّب حين عرفَتْ أن هذه المرأة صدِيقةٌ لخديجة.

كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يتعاهد صديقات خديجة بالْهَدايا، رآه أهلُه مرارًا يذبح الشَّاة ثُمَّ يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها إلى صديقات خديجة.

كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يَرِقُّ قلبُه رقَّة شديدة حين يرى أثرًا أو شيئًا من متاع خديجة، حتى إنه لَيُرَى أثر هذا التأثُّر على مُحيَّاه، واستمِع لِهذا المشهد الذي تقف له النُّفوس خاشعة، مترضِّيَة على أم المؤمنين.

وقعَتْ غزوة بدر، وأُسِر أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت محمَّد مع مَن أُسِر، وكان الحُكْم في الأسرى أن يُطْلَق سراحُ كلِّ مَن فداه أقاربه وعشيرته، فرقَّت زينب لحال زوجها مأسورًا، فسعَتْ إلى خلاصه، فأرسلت مع عمرو بن الربيع، أخي زوجها، قلادةً لها، هذه القلادة يعرفها النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ويعرف مهديتها وصاحبتها، والمناسبةَ التي أُهْديت فيها:

إنَّها القلادة التي زفَّتْها أمُّ المؤمنين خديجة لبنتها زينب ليلةَ عرسها، والَّتِي احتفظت بها زينب ولم تفرِّط فيها؛ تذكارًا لهذه المناسبة.

جاء عمرو بن الربيع، ونثر قلادة زينب بنت محمد بين يدي محمَّد لفِكاك أسيرها، فلمَّا رأى النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذه القلادة، تذكَّر مُهْدِيتَها وصاحبتها، ورقَّ لحال ابنته فالتفَتَ إلى أصحابه مُشاورًا، وقال بصوت قد هدَّه الحزنُ والتأثُّر: ((إن رأيْتُم أن تُطْلِقوا لها أسيرها وتردُّوا عليها الذي لَها))؛ يعني: قلادتَها، فبادر الصَّحابة إلى فكاك الأسير، وردُّوا إلى زينب متاعها.

تلك – عباد الله – إضاءاتٌ سريعة، وإلْماحات خاطفة من سيرة سيِّدة النِّساء، فرضي الله تعالى عن خديجة وأرضاها، وأعلى في جنَّة الفردوس مأواها.

أقول ما قد سَمِعتم، وأستغفر الله من كل ذنب.

الخطبة الثانية
أمَّا بعد، فيا إخوة الإيمان:

هذه هي أمُّكم الطاهرة الحصينة الرزينة، وهذا جانبٌ من سيرتِها ومكانتها وبَصْمتها، تقلَّدَت الفضائل، وتسوَّرَت المآثر، وحازَتْ مكانة لا تُسامى، لا لِتَجارتِها قبل الإسلام؛ وإنَّما بإيمانِها وصلاحها، وصِدْقِها ونصرتها، وعفافها وحشمتها.

هذه الحصَّان الرزان، تُدنس سيرتُها، وتشوَّه صورتُها، من لفيف من الجاهلين والجاهلات، جعلوا من اسْمِها عنوانًا لمؤتَمرِهم قبل أيام، والذي كان ظاهِرُه “دورَ مشاركة المرأة في التنمية الوطنيَّة”.

وسَمِعنا البيانات والندوات، ورأينا الصُّور والمقابلات، فتأكَّدْنا وتيقنَّا أن مُحاولات إفساد المرأة في مُجتمعنا ليس مؤامرةً، بل هو واقع قد تقدَّم خطوات.

وهاكم شيئًا من التنمية المنتظرة، والمشارَكة المرتقَبة للمرأة التي يُبَشِّر بها هؤلاء:

• الدعوة إلى الاختلاط، وتكريسُه وتطبيعُه في المجتمع.

• الدعوة إلى نَزْع الحجاب، بل تَجاوزوا كشْفَ الوجوه، ومَلْأَها بأدوات الزِّينة، إلى إظهار الشُّعور والنحور والسِّيقان، وهذا مُحرَّم بإجماع العلماء.

• الترويج للأقوال الضعيفة في التُّراث؛ للزَّعم أن منطلقاتِهم إسلامية.

• اتِّهامُ الصحابيات بالتقصير، وعدم المطالبة بالحقوق.

• تَجْهيل العلماء ووصفهم بالتشدُّد والتَّزمُّت.

• السخرية من أحكام الدِّين وتشريعاته، ووَضْع رسومات، وتعليقها، وتوزيعها؛ للتندُّر بِها، كالمَحْرَم والقوامة، والحجاب والقرار في البيوت.

بل أعلنَ أَحدُهم بِجرأةٍ أنَّ العمل على توظيف المرأة لن يَقِف إلاَّ عند حدِّ التحام أجساد الرِّجال بالنساء! ولَيْته حدَّثَنا عن هذه الوظائف التي تلتحم حينَها الأجساد!

لَم نسمع منهم إشادةً بكلمة واحدة للمرأة المربِّية، الْمَرأة التي تخدم المجتمع بتربية الأجيال تربيةً صالحة، فهذه ليست امرأة منتِجة، بل هي عاطلة باطلة، عائقٌ من عوائق التَّنمية.

يَحْدُث هذا كلُّه في منتدى اسْمُه خديجة بنت خويلد، فحُقَّ لِسَواد المجتمع ولصوت الحقِّ أن يتساءل: هل كانت أمُّنا أمُّ المؤمنين داعيةً إلى السُّفور وإظهارِ الشعور والنُّحور والتمرُّد على أحكام الدين؟

هل كانت أمُّنا خديجةُ تَغْشى الرِّجال في منتدياتهم وتصافِحُهم، وتبادِلُهم الضحكات والابتسامات؟ وهل كانت أمُّنا أيضًا تَحْضر حفلات الغناء، وتَجْلس إلى جانب الرِّجال تتمايل مع أنعام الموسيقا؟!

وحُقَّ لنا أن نتساءل:

هل كانت خديجةُ زوجةُ محمَّد تُراسِل نساءَ فارس والرُّوم، وتستضيفهنَّ، وتطلب من الصحابيات الاستفادة من تجارِبهن؟

وحُقَّ لنا أن نتساءل أيضًا:

هل كانت النصيرةُ العضيدةُ تتهكَّم بأقوال رَسولِها، وتعترض على أحكام دينها، وتُعْلن التمرُّد عليها بفِعْلِها قبل قولِها؟

وحُقَّ لنا أن نستفهم أيضًا:

هل خديجة دعَتْ إلى مسابقة الرِّجال إلى المناصب، ونادَتْ نساءَ زمانِها بالثَّورة على القوامة؛ لأنَّها تدخُّل في الحُرِّية، وتكريس لِسُلطة الرجل كما يردِّدون؟

ثُمَّ لماذا لم تسافر خديجة وَحْدَها، ولمصلحة مالِها، وإنَّما كانت تستأجر الرِّجال في تِجارتها؟ هذا قبل إسلامها، وأمَّا بعد إسلامها فلم تَنْقل لنا كتبُ السِّيرة ودواوينُ السُّنة شيئًا عن تِجارتها بعد ذلك، وإنَّما ستقرأ في سيرتها بعد إسلامها المرأةَ العربية، الناصرة لدينها، القارَّةَ في بيتها، المتمسِّكة بحقِّ زوجها.

عباد الله:

إن كلَّ صاحب دعوة باطلة يلْبِس دعوتَه لبوس الإصلاح.

والتطوير والتنمية والإصلاح ليست دعوى للمفاخرة والتَّكاثر.

الإصلاحُ الحقيقي لا يكون عَبْر بوابة الفساد، فالله لا يُحِبُّ الفساد، لقد أفسد المنافقون في عهد النُّبوة ورفعوا شعارات الإصلاح، بل أقسموا أَيْمانًا: إنْ أردنا إلاَّ الحسنى، والله يشهد إنَّهم لكاذبون.

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11 – 12].

فكلُّنا مع التنمية، وإيجاد فُرَص عمل للمرأة، إذا احتاجَتْ، ولكنَّه عملٌ يتناسب مع طبيعتها وأنوثتها، لا أن يُزَجَّ بِها في مَجامع الرجال؛ لفتنهم وفَتْنها.

((ما تركْتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرِّجال من النساء))؛ حديثٌ مُحمَّدي، لا تُغَيِّره الأيامُ، ولا الأزمان، ولا الأموال.

وبعدُ إخوةَ الإيمان:

فلم ولن يستطيع الانْحِراف أن ينتصر عَبْر اسْمِه الصريح، ووجْهِه الكالح، وإنَّما سيَنْجح ويتقدَّم خطوة – وربَّما خطوات – إذا تلبَّس بلبوس الدِّين؛ ليغترَّ به من يغتَرُّ من أهل الجهل والهوى.

لقد علَّمَنا الزَّمانُ أنَّ دهاقنة الإفساد ما استطاعوا أن يُمَرِّروا أفكارهم في المجتمعات المحافِظة، حتَّى اعتمدوا على الخطاب الدِّيني، فشَرْعَنوا لأهوائهم من التُّراث، وزعموا أنَّ منطلقاتِهم شرعية، وأنَّهم يُمثِّلون روح الإسلام، حتَّى إذا تَمكَّنَت هذه المرحلة واستقرَّت، جاءَتْها المراحل الأخرى في الانحراف.

في أرض الكنانة أَلَّفَ “قاسم أمين” كتابه “تَحْرير المرأة”، زعَمَ تَحْريرها من العادات والتقاليد، وملأ كتابه بالنُّصوص التي يزعم أنَّها تؤيِّد نَزْعَ الحجاب، والاختلاط والسَّفَر بلا مَحْرَم.

ثم ماذا؟ هل انتهى مشروعُه عند هذا؟ كلاَّ!

بعد سنين عدَّة تَجاوز “قاسم أمين” هذا الطَّرح المتَّكِئ على النُّصوص إلى الطرح العلمانِيِّ الْمُنابذ للشَّرع والشريعة، فألَّف كتابه “المرأة الجديدة”، وهي المرأة التي خلعَتْ جلبابَها كُلِّيَّة، وأظهرت نَحْرَها وشعرها، المرأة المنفتحة على ثقافات الآخَرين، المتأثِّرة بالمرأة الأوربِّية.

عباد الله:

خطوات هذا الإفساد نَراها – وللأسف – تتكرَّر وتتسارع، فيا ليت شِعْري أأَيْقاظٌ قومي أم نيام؟ إلى متَى نضع رؤوسنا في التُّراب؟ ونظنُّ أن سَيْل الإفساد لن يَجْرفنا؟!

يا أهل هذه البلاد:

استَمِعوا لهذه النَّصيحة المؤثِّرة الصادقة، من الشيخ الأديب الشاميِّ “علي الطنطاوي” – أعلى الله في الجنة نزُلَه – حيث قال: “سَيْل الفساد، المتمثِّل في العنصر الاجتماعي، مرَّ على مصر من خَمْسين سنة، وعلى الشام من خَمْس وعشرين أو ثلاثين، وقد وصل إليكم الآن – يعني: المملكة – فلا تقولوا: نَحْن في منجاة منه، ولا تقولوا: نأوي إلى جبل يعصمنا من الماء، ولا تغترُّوا بِما أنتم عليه من بقايا الخير الذي لا يزال كثيرًا فيكم، ولا بالحجاب الذي لا يزال الغالِبَ على نسائكم، فلقد كُنَّا في الشَّام مِثْلَكم – إي والله – وكنَّا نَحْسب أننا في مأمَنٍ من هذا السَّيل، لقد أضربَتْ متاجر دمشق من ثلاثين سنة أو أكثر قليلاً، وأُغْلِقت كلها، وخرجت مظاهراتُ الغضب والاحتجاج؛ لأنَّ مديرة المدرسة الثانوية، مشَتْ سافِرَةً – إي والله – فاذهبوا الآن فانظروا حالَ الشام”؛ اهـ.

وأخيرًا – عبادَ الله -:

فواجبٌ على كلٍّ منَّا منابذةُ هؤلاء بالنَّكير، وإعلان وإعلاء صوت الحق، كلٌّ بحسب مكانته ومقدرته وقوَّتِه، وألاَّ نَهنَ أمام ضغط الواقع، وارتفاع صوت الباطل وانتفاخِه؛ فَنُصرة الحقِّ سبيلٌ مرٌّ، يحتاج إلى صبر ومصابرة، واستمساكٍ وتواصُل وتواصٍ، ومن أعجزَتْه هِمَّتُه، وأقعدَتْه نفْسُه عن الإنكار، فلْيُمسك لسانه، ولا يثبِّط إخوانَه، فهي صدَقة يتصدَّق بها على نفسه.

يَا لَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَقِّ مُقْتَنِعًا يُخْلِ الطَّرِيقَ وَلاَ يُوهِنْ مَنِ اقْتَنَعَا

——————————————————————————–