الشيخ /السيد مراد سلامة
الشيخ /السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّةً وسببًا موصِّلًا إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره، هدى إلى خير طريق وأقوم سُنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه إلينا فضلًا منه ومِنَّة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمرُّ سريعًا، وتنقضي جميعًا، إنها الأيام التي خلقها وأوجدها، وخصَّ بعضَها بمزيدٍ من الفضل، ما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله ورحمته مَنْ يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم.

مرحبًا أهلًا وسهلًا بالصيام
يا حبيبًا زارَنا في كلِّ عام
قد لقيناك بحُبٍّ مفعم
كلُّ حُبٍّ في سوى المولى حرام
فاغفر – اللهم ربي – ذنبنا
ثم زِدْنا من عَطاياكَ الجِسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا
قلق أسهرنا جنْح الظلام

 

ثم أما بعد:

اعلم علمني الله وإياك: أن هناك حكمًا عليَّة، وغايات سنيَّة، من أجلها فرض الله علينا الصيام، وإليك بعض هذه الأهداف والنيَّات التي ينبغي للمسلم أن يجعلها نصب عينيه:

أولًا: تصوم رمضان؛ لأنك مسلم، آمنْتَ بالله ربًّا، وبالإسلامدينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولًا: والمسلم من استسلم لما شرع الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52]، والمسلم من اجتمعت فيه خمس دعائم كما في الحديث، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وأقام الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) [1].

 

يقول ابن بطال رحمه الله، قال المهلب: فهذه الخمس هي دعائم الإسلام التي بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يعصم الدم والمال، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلَّا بحقِّها، وحسابهم على الله))، وبهذا احتجَّ الصِّدِّيق حين قاتل أهل الرِّدَّة حين مَنْعِهِم الزكاة، وقال: “واللهِ لأُقاتلنَّ مَنْ فرَّقَ بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال”، واتَّبَعه على ذلك جميعُ الصحابة[2].

 

ثانيًا: لأن الله يحبُّ الصوم والصائمين: فنصومه تزلُّفًا وتقرُّبًا إلى الله سبحانه وتعالى: فقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يحبُّ الصوم؛ عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ[3].

 

فهذا الحديث من أعظم الدوافع التي تدفع المسلم إلى المبادرة إلى صيام ذلك الشهر، فالمحبُّ يُحِبُّ ما يُحِبُّ حبيبُه.

 

ثالثًا: ونصوم رمضان؛ لأن الصوم جُنَّة ووقاية من الوقوع في الذنوب والمعاصي:

إخوة الإيمان، ومن الأهداف الرمضانية التي يجد الصائم أثرها في حياته اليومية أن الصوم جنة ووقاية من الوقوع في الذنوب والمعاصي؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا))[4].

 

يقول ابن حجر رحمه الله: “وَأَمَّا صَاحِب “النِّهَايَة” فَقَالَ: مَعْنَى كَوْنه جُنَّة؛ أَيْ: يَقِي صَاحِبه مَا يُؤْذِيه مِنْ الشَّهَوَات، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جُنَّة؛ أَيْ: سُتْرَة؛ يَعْنِي: بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّته، فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدهُ، وَينقص ثَوَابَه، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ: ((فَإِذَا كَانَ يَوْم صَوْم أَحَدكُمْ فَلَا يَرْفُث…)) إِلَخْ.

فإذا أردت أخي المسلم أن يغفر الله لك الذنوب، ويسترك ولا يفضحك، فعليك بالصوم، فإنه يُباعد بين المرء وذنوبه، ويغسله كما يغسل البدن بالماء والثلج والبرد، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائر))[5].

 

رابعًا: ونصوم رمضان حتى ننال الأجر يوم القيامة بغير حساب: ومن النوايا التي ينبغي للمسلم والمسلمة استحضارها أن ينال المسلم أجره بغير حساب، فأجر الصائم على الله تعالى؛ عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّة، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ))[6].

 

خامسًا: ونصوم رمضان حتى ندخُل من باب الريَّان:

واعلم أن من الأسباب الدافعة إلى صيام شهر رمضان أن ندخل الجنة من باب قد خصَّه الله تعالى بالصائمين، لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، والجزاء من جنس العمل؛ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))[7].

 

الريَّان: اسم الباب وحده يبعث على الراحة، فانظر يا أخي كيف قابل الله ظمأهم وعطشهم بباب اسمه يبعث على الراحة فما ظنُّك بالداخل وريِّه، فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل! طوبى لمن جوَّع نفسه ليوم الشبع الأكبر! طوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره! فمتى اشتدَّ عطشُك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل يوم القيامة.

 

سادسًا: الصيام والقرآن يشفعان للعبد:

ومن النيَّات التي يجب عليك أخي المسلم أن تستحضرها أن يشفع لك الصيام يوم القيامة بين يدي الله تعالى؛ عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍوأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ: الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ فَيُشَفَّعَانِ))[8].

نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

أما بعد:

سابعًا: ونصوم رمضان حتى نفرح في الدنيا والآخرة:

إخوة الإسلام، إن الصوم سببٌ للسعادة في الدارين، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه)) [9].

 

أما فرحته عند فطره فهي نموذج للسعادة واللذة التي يجدها المؤمن في الدنيا؛ بسبب طاعته وتقواه لمولاه سبحانه وتعالى، وهي السعادة الحقيقية.

 

وفرحته عند فطره تأتي من جهتين: الأولى: أن الله تعالى أباح له الأكل والشرب في تلك اللحظة، والنفس بلا شك مجبولة على حُبِّ الأكل والشرب؛ ولذلك تعبَّدْنا اللهَ تبارك وتعالى بالإمساك عنهما، والثانية: سرور بما وفَّقَه الله تعالى إليه من إتمام صيام ذلك اليوم، وإكمال تلك العبادة، وهذا أسمى وأعلى من فرحه بإباحة الطعام له.

 

يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.

 

ثامنًا: ونصوم رمضان حتى تكون رائحة الفم أطيب عند الله من ريح المسك:

اعلموا أيها الأحباب أن خُلُوفَ فمِ الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، وخُلُوف فَمِه هو: الرائحة التي تنبعث من المعدة – عند خلوِّها من الطعام – عن طريق الفم، وهي رائحة مكروهة عند الخلق؛ لكنها محبوبة عند الخالق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق عليه -: ((والذي نفس محمد بيده؛ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله مـن ريـح المسك))[10].

 

قال أبو حاتم: شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا؛ فرقًا بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طِيبُ خُلُوفهم أطيب من ريح المسك؛ ليُعرفوا بين ذلك الجَمْع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم.

 

الدعاء.


[1] صحيح البخاري، (ج 1/ص11).

[2] شرح البخاري لابن بطال، (ج 1/ ص33).

[3] صحيح البخاري، ج 6/ص 474.

[4] صحيح البخاري، ج 6 /ص 457.

[5] صحيح مسلم، ج 2/ ص23.

[6] صحيح البخاري، ج6، ص 474، صحيح البخاري ج6، ص 461.

[7] رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.

[8] رواه أحمد في “مسنده”، والطبراني في “الكبير”، ورجاله محتج بهم في الصحيح، و

[9] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[10] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.