لماذا نصح نوح عليه السلام قومه بالاستغفار؟

جاء في سورة نوح قول الله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12].

وقوله: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، يقول: فقلتُ لهم: سلوا ربَّكم غفرانَ ذنوبِكم، وأخلِصوا له العبادةَ، وتوبوا إليه من كُفركم وعبادة ما سواه من الآلهة ووحِّدوه، يَغفر لكم، إنَّه كان غفَّارًا لذنوب مَن أناب إليه، وتاب إليه من ذنوبه.

وقوله: ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 11]، يقول: يسقيكم ربُّكم إن تُبتم ووحَّدتُموه وأخلصتم له العبادةَ الغيثَ، فيرسل به السماءَ عليكم مدرارًا متتابعًا، وروى الطبريُّ عن الشعبيِّ، قال: خرج عمر بن الخطاب يَستسقي، فما زاد على الاستغفار، ثمَّ رجع فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما رأيناك استسقيتَ؟ فقال: لقد طلبتُ المطرَ بمجاديح السماء التي يُستنزل بها المطر، ثم قرأ: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10 – 11]، وقرأ الآيةَ التي في سورة هود حتى بلغ: ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52].

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 12 – 14].

وقوله: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [نوح: 12]، يقول: ويعطِكم مع ذلك ربُّكم أموالًا وبنين، فيكثرها عندكم ويزيد فيما عندكم منها، ﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ﴾ [نوح: 12] يقول: يَرزقكم بساتين، ﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12]؛ تسقون منها جنَّاتكم ومزارعكم؛ وقال ذلك لهم نوح؛ لأنَّهم كانوا فيما ذُكر قومًا يحبُّون الأموالَ والأولاد[1].

وقال ابن كثير: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10 – 11]؛ أي: مُتواصلة الأمطار؛ ولهذا تُستحبُّ قراءةُ هذه السُّورة في صلاة الاستِسقاء لأجل هذه الآية، وقال ابنُ عباس وغيرُه: يَتبعُ بعضه بعضًا، وقوله تعالى: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12]؛ أي: إذا تُبتُم إلى الله، واستغفرتُموه وأطَعتموه، كَثر الرِّزقُ عليكم، وأنبَت لكم الزَّرعَ، وأسقاكم من بركات السَّماء، وأدرَّ لكم الضَّرعَ وأمدَّكم بأموالٍ وبنين؛ أي: أعطاكم الأموالَ والأولاد، وجعل لكم جنَّاتٍ فيها أنواع الثِّمار، وخلَّلها بالأنهار الجارية بينها[2].

إذًا، الاستغفار سنَّة وارِدة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّنا نجد منهجَ الاستغفار واردًا في سنَّة النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن الزُّهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن، قال: قال أبو هريرة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إنِّي لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّةً))[3].

وروى البخاري: حدثنا أبو معمرٍ، حدثنا عبدالوارث، حدثنا الحسينُ، حدثنا عبدالله بن بُريدة، قال: حدثني بشيرُ بن كعبٍ العدويُّ، قال: حدثني شدَّادُ بن أوسٍ رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلَّا أنت، خلَقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنِعمتك عليَّ، وأبوءُ لك بذنبي فاغفر لي؛ فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوب إلَّا أنت))، قال: ((ومن قالها من النَّهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمسي، فهو من أهل الجنَّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها، فمات قبل أن يُصبِح، فهو من أهل الجنَّة))[4].

وفي صحيح مسلم: حدثنا داودُ بن رُشَيدٍ، حدثنا الوليدُ، عن الأوزاعيِّ، عن أبي عمَّارٍ – اسمُه شدَّاد بن عبدالله – عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا وقال: ((اللهمَّ أنت السلامُ ومنك السلامُ، تباركتَ ذا الجلال والإكرام))، قال الوليدُ: فقلتُ للأوزاعيِّ: “كيف الاستغفارُ؟ قال: تقولُ: أستغفرُ الله، أستغفرُ الله”[5].

وعن أبي بُردة، عن الأغرِّ المُزني، وكانت له صُحبةٌ، أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّه ليُغانُ على قلبي، وإنِّي لأستغفرُ اللهَ في اليوم مائة مرَّةٍ))[6].

وعن أبي بُردة، قال: سمعتُ الأغرَّ – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يُحدِّث ابن عمر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها الناسُ، تُوبوا إلى الله، فإنِّي أتوبُ في اليوم إليه مائة مرَّة))[7].

إذًا، نتعلَّم من الأنبياء؛ من نوحٍ عليه السلام إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (منهجَ الاستغفار)؛ قربةً إلى الله تعالى، وطلبًا لمرضاته سبحانه، ووسيلة لتَكفير الذنوب والخطايا، ولجَلب الرِّزق، وتفريج الهموم والكروب، وخضوعًا وتذلُّلًا للخالق جلَّ شأنه، وكل ذلك وغيره يُستفاد من نصيحة نوح عليه السلام إلى قومه في الاستغفار.

——————————————————————————–

[1] محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): “جامع البيان في تأويل القرآن”، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ – 2000م، 23/ 633.
[2] أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثمَّ الدمشقي (المتوفى: 774هـ): “تفسير القرآن العظيم”، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية – بيروت – 1419 هـ، 8/ 249.
[3] محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه”، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي)، الطبعة: الأولى، 1422هـ، 8/ 67.
[4] صحيح البخاري 8/ 67.
[5] مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ): “المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، بدون تاريخ، 1/ 414.
[6] صحيح مسلم 4 / 2075.
[7] صحيح مسلم 4 / 2075.