للعاقلات فقط، 100 وقفة تربوية للمرأة مع رسول الله (2)

فضيلة الشيخ /جمال عبد الرحمن

11- العاقلة والثبات مع حسن التصرف عند فجيعة المأزق

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الجواب الكافي): “أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره[1]، وكان بابها يشبه باب حمام منجاب[2]، فمرت جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فأشار إلى بيته وقال لها: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار – وهي لم تعرف أنه خدعها – ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت..”[3].

 

سبحان الله! رغم أنها وقعت في ورطة عظمى،ومصيبة كبرى، لكنها بما تتمتع به من ذكاء وثبات، ورجاحة عقل، وهدوء أعصاب استطاعت بتوفيق الله أن تنجو من هذا المأزق المهين كما تخرج الشعرة من العجين، ولو أنها ارتبكت، وصاحت وبكت؛ لحاول الخبيث كتم فمها وأنفاسها، ثم قام بافتراسها، ليفعل بها ما يريد، وليقضي على الأخضر واليابس من عرضها وشرفها.

 

نسأل الله تعالى أن يعافي بنات المسلمين من مثل ذلك الخائن اللئيم.

 

12- العاقلة وتحصين فرجها عن الفاحشة:

 

ضرب الله تعالى مثلاً في الطهر والعفاف بواحدة من سيدات نساء العالمين، وهي مريم ابنة عمران، فقال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا.. ﴾ [التحريم: 12].

 

وعلى طريق مريم سارت عاقلات صالحات قانتات، نذكر منهن هذه الأمثلة:

هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مع النساء، وبايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقن ولا يزنين، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولتها المشهورة: وهل تزني الحرة[4]؟ وحقاً ما قالت، فإنها تعبر عما ينبغي أن يستقر في قلب كل حرة عاقلة، وأن الحرة حقاً ينبغي إلا تكون أسيرة لشهوتها ولا مطيعة لمن يقضي على عفتها.

 

وعن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبدالله بن أبي بن سلول جارية يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله:﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ… ﴾ إلى قوله: ﴿ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[5].

 

وهذه معاذة جارية عبدالله بن أبي بن سلول أيضاً، وكان عنده أسير، فكان ابن سلول يضربها لتمكن الأسير من نفسها، رجاء أن تحبل منه فيأخذ ابن سلول فداء عن الأسير وابنه، وهو العرض الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾. وكانت الجارية تأبى عليه، وكانت مسلمة، فأنـزل الله تعالى فيها الآية: ﴿ … وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. ﴾[6] [النور: 33]. والقصة رواها الطبراني والبزار[7] عن ابن عباس قال: كانت لعبدالله بن أُبي جارية تزني في الجاهلية، فلما حرم الزنى قالت: لا والله لا أزني أبداً، فنـزلت:﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ.. ﴾ الآية.

 

وفي القصة الأولى كنا نذكر قول هند:{هل تزني الحرة؟}. وفي غيرها رأينا الجاريات ترفض أيضاً الزنى!

 

إذن فمن هذه التي تقبل الزنى وتقدم عليه؟ لا شك أنها الوضيعة الحقيرة التي وضعت شرفها وعفتها تحت تصرف الزاني بها، وهي دون الحرة، وأقل من الجارية، فهي أقرب إلى الحيوانات، والعاقلة لا تفعل ذلك.

 

13- العاقلة والحياء

عن يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{إن الله تعالى حييٌّ ستير يحب الحياء والستر}[8]. وأعظم ما يجمل المرأة حياؤها، وإذا فقدت حياءها فقدت أنوثتها وعفتها وصارت عرضة لكل خلق سيء.

 

ومن النماذج المشرفة في الحياء ما روته عائشة – رضي الله عنها – قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة – رضي الله عنها – تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ﴿ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ… ﴾ الآية، قالت، عائشة: فوضعت فاطمة بنت عتبة يدها على رأسها حياء، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى منها[9]. فبمجرد أن سمعت فاطمة بنت عتبة نص البيعة: ﴿ وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ ﴾ وضعت يدها على رأسها وأخفت وجهها حياء، حتى أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى منها، فأين كثير من بنات زمننا من ذلك؟!

وهذه فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم لما رأت جنائز النساء تحمل الواحدة منهن على النعش مكشوفاً وتغطى بثوب فيعرف رأسها وصدرها وحجمها، فاستقبحت فاطمة ذلك، فقالت لأسماء بنت عميس: إني استقبح ما يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب فيصفها – أي يظهر حجم أعضائها -، فقالت لها أسماء: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد – عيدان الجريد – رطبة، فحنتها – أي جعلتها محنية على شكل قوس – ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، إذا مت فغسليني أنت وعلي ولا يدخلن أحد عليَّ[10].

 

قال ابن عبدالبر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة.

 

إذا كان هذا حياء فاطمة رضي الله عنها عند الموت، تريد غطاء مرتفعاً من جريد تعرف به المرأة من الرجل ولا يعرف لها حجم وهي تحته فلا ينظر إليها بعد إذ علم أنها امرأة. فماذا نقول لمن تلبس الثياب المجمسة التي تظهر تفصيلات جسمها لتعرضه على البر والفاجر، أهي عاقلة؟! إن الحيية المحتشمة امرأة، والمتبرجة التي لا تستحي أيضاً امرأة، لكن كم من الفرق بين المرأتين؟!!

 

14- العاقلة ولزوم البيت وعدم التعرض للرجال

في قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع المرأتين في سورة القصص، قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23].

 

فامتنعت المرأتان عن سقي غنمهما ابتعاداً عن مخالطة الرجال على البئر، وكان بإمكانهما أن يسقيا قبل كثير من الناس، وذلك بالتعرف على بعض الرجال الذين يحبون مخالطة النساء، كما يحدث من كثيرات ممن تظن أنها صاحبة فهم وتصرف، لكنهما لعفتهما امتنعتا عن مجرد الوقوف عند الرجال على البئر، فاعتزلتا بالغنم حتى ينتهي الرعاة من السقي، ثم ذكرتا العلة من خروجهما أنهما مضطرتان بسبب كبر سن الوالد المقعد في البيت، ويوم أن علمت كل منهما بقوة موسى وأمانته سارعت إلى ترك الخروج، وقالت إحداهما: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾[القصص: 26]، لكن الرجل حريص؛ لا يستأجره فيختلط ببناته بلا محرم وهو كبير مقعد، فرأى أن زواجه بإحدى بناته حل للمشكلة من جذورها، بل وجعل المهر عملاً يساهم أيضاً في حل المشكلة:﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ… ﴾[القصص: 27]، يعني ثمان سنوات أو عشر من الخدمة تكون مهراً لابنته، فوافق موسى صلى الله عليه وسلم. إن العاقلة هي التي تعرف إن بيتها هو حصنها وصيانتها.

 

وعن عمرة رضي الله عنها أن الزبير كان شرط ألا يمنعها المسجد، وكانت امرأة خليقة، فكانت إذا تهيأت إلى الخروج للصلاة، قال لها: والله إنك لتخرجين وإني لكاره، فتقول: فامنعني فأجلس، فيقول: كيف وقد شرطت لك ألا أفعل؟ فاحتال لها على الطريق في الغلس، فلما مرت وضع يده على كفلها فاسترجعت، ثم انصرفت إلى منـزلها، فلما حان الوقت الذي كانت تخرج فيه إلى المسجد لم تخرج، فقال لها الزبير: ما لك لا تخرجين إلى الصلاة؟ قالت: فسد الناس، والله لا أخرج من منـزلي، فعلم أنها ستفي بما قالت، فقال: لا روع يا ابنة عمر، وأخبرها الخبر، فقتل عنها يوم الجمل، ثم خطبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد انقضاء عدتها من الزبير[11].

 

15- العاقلة في الحج

كثير من النساء تتساهل في الحج في أمور عظيمة لا ينبغي التساهل فيها أمام الرجال، فيكشفن وجوههن ويختلطن بالرجال، ويتعللن بعلل لا تصلح دليلاً على التساهل، فمن قائلة: نحن في حج والقلوب صافية، ومن قائلة: ظروف الحج تختلف عن أي وقت، وغير ذلك، ونسأل: هل قلوب تلك النساء ومن حولهن من الرجال أصفى من قلوب نساء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن حولهن من الصحابة؟ والجواب: لا، فلماذا إذن قالت فاطمة بنت المنذر العفيفة التقية النقية – رضي الله عنها – وهي في الحج: “كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر، تعني جدتها”. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف “جمع خف”، وأن لها تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال[12].

 

وإذا كان الحج الآن يحضره ملايين من البشر، فلا تكاد تمشي المرأة إلا والرجال خلفها وأمامها وعن أيمانها وعن شمائلها، فهل يجوز لها أن تكشف وجهها؟ العاقلة تقول: لا.

 

16- العاقلة مبلغة للنساء حديث النبي

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو أية))[13]. وها هي امرأة ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وعلى ألا يعصين في معروف، توضح للمسلمات شيئاً مما أخذ عليهن من المعروف الذي لا تعصي فيه المرأة فتقول: “ألا نخمش وجهاً[14]، ولا ندعو ويلاً[15] على الميت، ولا نشق جيباً، وألا ننشر شعراً”[16].

 

أنها تقول ذلك لأن كثيراً من النساء إذا أصابتها مصيبة لطمت الخدود وشقت الجيوب، ودعت بدعوى الجاهلية، والأمثلة من المسلمات المبلغات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، لكن يكفي أن تعلم المبلغة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن ينضر الله وجهها يوم تنضر الوجوه، فقال: “نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”[17].

 

17- العاقلة وتجنبها الفتنة، وصمودها عند وقوعها

هذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط – رضي الله عنها – أسلمت بمكة وبايعت ولم يتهيأ لها هجرة إلى سنة سبع، وكان خروجها – إلى المدينة – زمن صلح الحديبية، فخرج في إثرها – خلفها – أخواها الوليد وعمارة، فما زالا حتى قدما المدينة، فقالا: يا محمد {فِ}[18] لنا بشرطنا – وكان من الشروط في صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه مسلماً إلى الكفار – فقالت أم كلثوم: أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنونني عن ديني ولا صبر لي، وحال النساء في الضعف ما قد علمت؟ فأنزل الله تعالى – الرحيم -: ﴿ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. ﴾[الممتحنة: 10]، فكان صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء، فيقول: “آلله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام؟ ما خرجتن لزوج ولا مال؟” فإذا قلن ذلك لم يرجعهن إلى الكفار[19].

 

فأم كلثوم خشيت من الكفار أن يفتنوها في دينها، وأكدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشيتها بضعف النساء المعلوم، فأيد الله تعالى رأيها ورحم حالها وبارك فعالها وأنـزل الفرج:﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّا ﴾.

 

لكن إذا وقعت الفتنة فما على المسلمة إلا الصبر والاستعانة بالله العظيم.

فها هي سمية أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في قُبُلها بحربة، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، فكانوا يعذبونها وهي تأبى غير الإسلام، حتى قتلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه ياسر وهم يعذبون بالأبطح – مكان في أعلى مكة – في رمضاء مكة – حرها الشديد – فيقول:{صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة}[20].

 

سمية لا تبالي حين تلقى
عذاب النكر يوماً أو تهونا
وتأبى أن تردد ما أرادوا
وكانت في عداد الصابرين

 

18- العاقلة غير ناظرة إلى الرجال ولا تختلط بهم

لا يجوز جلوس الرجال والنساء واجتماعهم في مجلس واحد مختلطين ينظر بعضهم إلى بعض.

قالت أم سلمة – رضي الله عنها -: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “احتجبا منه”. فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟”[21].

 

قال ابن حجر: وفيه دليل على أن النساء محرم عليهن النظر إلى الرجال إلا أن يكونوا لهن بمحرم، سواء أكانوا مكفوفين أو بصراء.

 

قلت: وهذا لا يتعارض مع أمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، لما قاله القرطبي: قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم؛ لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك؛ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى فرخص لها ذلك، والله أعلم[22].

 

لكن يجوز أن تنظر المرأة المسلمة إلى الرجال للحاجة وهم يمشون في الطرقات، أو أثناء البيع والشراء، أو يلعبون ألعاباً غير محرمة، بشرط ألا يظهر من الرجال شيء من عوراتهم من الركبة إلى السرة، كمن يلعب مظهراً فخذيه، وبشرط ألا يترتب على هذا النظر فتنة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون في حرابهم في المسجد يوم العيد، وعائشة – رضي الله عنها – تنظر من ورائه وهو يسترها منهم، حتى ملَّت ورجعت.

 

فالعاقلة المنصفة تعرف أن عائشة كانت مختفية مستترة خلف جسم النبي صلى الله عليه وسلم، فتراهم من حيث لا يرونها.

 

وعلى هذا فالنظر إلى الرجال مشترط بشرطين:

الأول: ألا يترتب عليه فتنة.

الثاني: ألا يكون في مجلس واحد مواجهة كمجلس ابن أم مكتوم.

وفي الجملة فإن الله تعالى أمر الفريقين – الرجال والنساء – بتقوى الله وغض البصر؛ لأنه كما قال جل وعلا: ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].

 

19- العاقلة والحجاب

عن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: “إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك”. فقالت: أصبر، قالت: وإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها[23].

 

وعند البزار عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: إني أخاف الخبيث – أي الشيطان -ـ أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها[24]. يعني أنها بربها تستغيث من كيد ذلك الخبيث.

 

انظري أيتها المسلمة إلى إصرار تلك المرأة على أن تتستر ولا ينكشف منها شيء، وتخشى أن يجردها ويكشفها الشيطان الخبيث إذا صرعها، رغم أنها سوداء، ربما لا يشتهيها أحد، وهي معذورة، وفي ذلك عبرة لمن تقول: أنا لن أتحجب لأنني لست جميلة، ومن تقول: إن أرجلها مثل الكسرة البالية! لكن الناظر إلى حال تلك المرأة السوداء الصابرة المحتسبة يجد أن هذه المرأة أفزعها انكشافها أكثر مما أفزعها الصرع والجن الذي يصرعها، فصبرت على الصرع ولم تصبر على أن تتكشف. ولو أصاب جن امرأةً في زماننا لذهبت إلى السحرة والكهان وارتكبت شتى المخالفات في سبيل تحصيل الشفاء، إلا من رحمها الله، فأيتهما العاقلة؟

 

وهذه فتاة فرنسية (فاطمة عشبون) في حديث مع صحيفة (الفيجارو الفرنسية) تقول للصحيفة: أنا لن أخلع الحجاب مهما كلف الأمر. وتقول: لن أخضع لأي ضغط لخلع الحجاب ولو كان هذا الضغط من والدي[25]. وتقول: وإذا ما حاولوا دون عودتي إلى المدرسة فسأبقى في المنزل.

 

نعم:﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].

 

تلك الكلمات الناصعة المذهبة التي ستظل خالدة في سمع الزمان وسمع الدنيا، سطرتها فاطمة عشبون، تلك الفتاة المثالية التي آمنت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وعرفت قوله صلى الله عليه وسلم:{ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء}[26]. ولذلك فهي تقول: لن أخلع الحجاب مهما كلف الأمر، في حين أننا في المقابل نرى من المسلمات من انهزمت في دينها فصارت تقول: لن ألبس الخمار مهما كلف الأمر!! بعكس فاطمة عشبون التي تعيش في مجتمع فرنسي غير مسلم، أما بناتنا ونساؤنا فالمجتمع لا يمنعهن من ذلك، فأيتهما أعقل؟!

 

ويوم يكون خروج المرأة مؤدياً إلى مخالفات شرعية كخلع الحجاب، فإن العودة إلى المنزل حينئذ هي التصرف الشرعي الصحيح، وهكذا فعلت وقالت فاطمة: {وإذا ما حاولوا دون عودتي إلى المدرسة فسأبقى في المنزل}.

 

بارك الله فيك يا فاطمة، وأكثر من أمثالك، ونصرك على القوم الظالمين، ويا ليتك يا ابنتي، يا صغيرة السن، يا طالبة المدرسة تكوني عبرة ومثلاً ودرساً لكثير من أخواتنا الجامعيات حاملات الشهادات، أنا أشهد لك يا فاطمة أنك تحملين أغلى وأعز شهادة في الوجود وهي شهادة ألا إله إلا الله، وعرفت معناها وعملت بمقتضاها، كما أشهد أن كثيرات غيرك يحملن شهادات الدنيا العالية – كما يسمونها – لكنهن ينطبق عليهم قول الله جل وعلا: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾[الروم: 7].

 

20- العاقلة ومصافحة الرجال

أخرج الطبراني عن عقيلة بنت عتيك بن الحارث قالت:{جئت أنا وأمي بريرة بنت الحارث العتوارية في نساء من المهاجرات فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ضارب عليه قبة – خيمة – بالأبطح – وهو مكان بأعلى مكة – فأخذ علينا ألا نشرك بالله ولا نسرق… الحديث، وفيه: فبسطنا[27] أيدينا – لمصافحته – فقال:{إني لا أمس أيدي النساء}. فاستغفَر لنا فكانت تلك بيعتنا}.

 

واستغفاره لهن كان تحقيقاً لقول الله جل وعلا: ﴿ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[الممتحنة: 12].

 

فكيف يصافحهن صلى الله عليه وسلم وهو القائل:{لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} [28].

 

وعند البخاري ومسلم وغيرهما قالت عائشة:{والله ما مست يد رسول الله يد امرأة}.

 


[1] بإزاء داره: باتجاهها أو بجوارها.

[2] حمام منجاب: حمام كان مخصصاً للنساء.

[3] الجواب الكافي لابن القيم ص 189.

[4] الهيتمي في مجمع الزوائد (6/37)، والإصابة (8/155) (ح 11856)، وابن سعد بسند صحيح مرسل عن الشعبي، قاله ابن حجر في الإصابة.

[5] صحيح مسلم (ج4. ص 2340).

[6] الإصابة لابن حجر (ص 120).

[7] مجمع الزوائد (7/82) وقال: رجال الطبراني رجال الصحيح.

[8] (صحيح) أخرجه أحمد والنسائي والدرامي، وانظر صحيح الجامع (ح 1756).

[9] أخرجه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (6/37).

[10] سير أعلام النبلاء (2/128، 129)، والاستيعاب لابن عبد البر (4/1897).

[11] الاستيعاب (4/1879).

[12] صحيح البخاري، كتاب الحج (ح 1545)، باب: ما يلبس المحرم من الثياب.

[13] صحيح البخاري (3/1275).

[14] أي عند المصيبة.

[15] وهي النياحة، نشق جيباً: أي ثوباً.

[16] صحيح أبي داود ح 2685، وقال الألباني: صحيح.

[17] صحيح ابن حبان ج 2، ح 680، وانظر صحيح الجامع رقم (6765).

[18] أي: أوف لنا.

[19] سير أعلام النبلاء (2/276)، طبقات ابن سعد (8/230)، صفوة الصفوة (2/57). وأخرج البخاري في صحيحه 5/228، 229 قريباً من هذا.

[20] الطبقات الكبرى لابن سعد (4/136)، والإصابة 4/575، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/263)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

[21] فتح الباري (ج 12، ص 37)، صحيح ابن حبان (ج 12، ح 5575).

[22] تفسير القرطبي (12/228).

[23] مسلم (ج 4، ح 2576)، والبخاري (ج 5 ح 5328)، والبزار عن ابن عباس.

[24] فتح الباري (10/115).

[25] هي ليست عاقة لوالدها في ذلك كما يظن البعض، بل إنها بذلك تفهم جيداً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). (صحيح): انظر صحيح الجامع (ح 7520).

[26] البخاري (5/4808)، ومسلم (4/2740).

[27] الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 27).

[28] الطبراني (20/212)،  وهو في صحيح الجامع (4921). وكذا البيهقي عن معقل بن يسار، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات.