لحظات من رحمة المرض

نوبات المرض مفاجئة.. ليست بالخادعة، لكنها مباغِتة.. تأتينا على غير موعد منتظَر على الإطلاق، هي حانية لكنها مؤلمة، هي مُضعِفة؛ لكنها معلِّمة، تعطي دروسًا في التوبة، لم نكن نفهمها إلا ونحن مرضى.

فوق كل هذا وفوق كل اعتبار وكل ظن، لا ينبغي أن يُنظَر للمرض على أنه سلاح فتّاك بالصحة، بالعكس فله جانبه الإيجابي جدًّا في أننا ونحن مرضى تتوقَّف بنا رحلة الحياة لنرتاح؛ لأن الرحلة في حد ذاتها تُتعِب ولديها كل الحق في أن تتعب، هذه الرحلة هي جسد الإنسان ورُوحه ومعنوياته وتفاعُله مع المحيط، وتَجاوبه مع الخير والشر، إذًا حينما تتوقَّف الرحلة هي إشارة حمراء أن الكل تعب في تَعاطيه وانسجامه مع نواميس الحياة، الجسم مُنهَك والرُّوح ملَّت، والقلب يَبلى كما يبلى الإيمان، فلا بد من تجديد في ظلام المرض، لكنه فيما بعد يحمل بشائر الخير، وأولاها استعادة الصحة والعافية أحسن من ذي قبل، فهل فعلاً فهِمنا معادلة المرض؟

في قطار الحياة مَرارة عيش نَستسيغها بنوع من التحدي والمقاومة، لكن صداها أصبح لا يصِل إلى العقول والقلوب، فينال منا التعب والملل واليأس، لكنه ليس يأسًا من الله بقدر ما هو يأس سببه قسوة الأحباب، لم يُشفِقوا على ضعفنا الذي آل بنا إلى لزوم الفراش، آهاتنا بلغت عَنان السماء من الألم والحسرة والندم، لكن لم ينفع نَدمٌ بعد سقوط الأقنعة، فأيَّ ندم نُصارِع وجوده بداخلنا؟ هو ندمٌ أننا أحببنا بصدق ليس إلا، هو ندمٌ أننا كنا ساذجين في تَعاطينا مع حقيقة الحياة، لكني أعتقد أن هذا الندم مؤقَّت، حتى إنه ليس حقيقيًّا، جاء في لحظة يأس؛ لأن المؤمن ليس له ما يندم عليه ما دام يُدير طاحونة الخير بيديه الكريمتين؛ لأنه شيء معتاد في مسيرته التي أرادها من الخير وللخير تنتمي، وباعتقادي أن رحمة المرض فوق كل اعتبار.

لذا؛ كانت هذه اللحظات رحيمةً بنا، ولو أنها متعِبة للقوى، كشَفت كل مستور، وكشفت كل ما في بئر مشاعر الحقد والغَيرة، لحظات المرض كانت كناقوس الخطر تدُق في كل أنحاء الكِيان الآدمي أنك يا بن آدم في خطر، أنك مهدَّد؛ ربما للزوال، ربما لعاهة، ربما، وربما هي في الغيبيات وليست في علمنا.

حتى وإن حبانا الله بقوة، يجب ألا ننسى أن لهذه القوة ضَعْفًا يَنال من جوهر لمعانها، فنَركَن للراحة رغمًا عن إرادتنا؛ لأن إرادة الله فوق إرادتنا، صحيح واجباتنا كثيرة، ومسؤولياتنا أكبر، خاصة مع الله، وأي تأخير منا في تلبية الواجب الربّاني يصبح تأخرًا غير محمود، هذا فِقهنا كبشر مؤمنين بأحقيَّة رسالة الله في الأرض، لكن الله أراده رحمة وراحة؛ لأنه لا يكلِّف النفس إلا وُسْعها، ثم الله أدرى لما سنؤول إليه من مفاجآت في هذه الدنيا التي نكافِح ونكابد على ألا نموت إلا موتة هنية، أو نعيش عيشة كريمة كرامة ساداتنا الأنبياء – عليهم السلام – لأن في الأمثل والأمثل امتدادًا لمسيرة الابتلاء في موروث القرآن الكريم.

لنحمد الله أن جعل من أقلامنا متنفَّسًا لما في صدورنا، وتعبيرًا لضعف ليس بالقاضي علينا؛ بل هو مُصقِل لمعدن الربانية فينا، لا نزكِّي أنفسنا، ولكن نزكي رحمة الله فينا.

إذًا؛ تختلف الرؤى وتتنوَّع الآراء بشأن المرض، هناك من يراه نقمة؛ لأنه أفسد نواعم العيش الرغيد بكماليات الدنيا الزائلة والمنتهية بانتهاء الصلاحية الدنيوية، وهناك من يرى أنه مانِع في جمْع الذهب والفضة، حتى أصبح التنجيم شغل الأطباء لاستعادة العافية بعيدًا عن حكمة التطبيب بطب أصيل، هو البديل لطب مُفبرَك، وهناك من يراه مُعطِّلاً للتمتع بنشوة كرسي السلطة بتخمة بطون سلاطين الإنس والجان، حتى ظن الملوك أن في مزامير داود وصفةَ شفاء خارقة لخلطات السحر الساحرة، أو في اختيار كرسي سليمان ما تُخبِّئه كنوز تحت عظمة السلطة، وبتسخير الجن في غدوِّ الريح ورَواحها.

هي آراء تافهة وليست بالقيِّمة ولا بالنافعة، لكن عند الأتقياء هي لحظات مدفوعة الأجر في ثوب المغفرة والغفران، هي لحظات ركون للاستغفار والتسبيح، ففي الحياة محطات استغفار عظيمة عِظَم التوحيد والتسبيح بالواحد الأحد.

و لكي يطول عمر العطاء، يجب على هذا الجسد أن يتغذى بمناعة المقاومة بتقوى الله، فأمراض العصر فتَّاكة، بل قاتلة وفيروساتها محطِّمة للعقيدة ولأوثَق عُرى الإيمان، في هذه اللحظة يتبادر إلى ذهني الله – عز وجل- متى نتفكَّر بعمق في الله – عز وجل؟ أليس ونحن مرضى؟! متى نلجأ إليه؟ أليس في لحظات الضعف؟! أليس الله بكافٍ عبده؟! أليس الله برحيم بمريضه؟!

ألم نخالِف قاعدة اعرف ربك؟! بمعنى أن نعرف الله في كل الأوقات وفي كل الظروف، في الفرح وفي القرح، في الألم وفي الرخاء، في السعادة وفي الحزن، لكن هوى النفس يُزيِّن أعمالنا، ستقولون: إن هوى النفس موجود بل ملازِم للنفس الأمارة بالسوء، ولكن الله خلَق كل شيء بميزان الاعتدال وفي المرض يقظة من غَفْلة النسيان شئنا أم أبينا، فتن الدنيا أمواج عاتية تقذِف بنا في كل مكان، والسند الذي يعيننا على الصمود غير موجود، أنا لا أعني سنَدَ الله؛ لأنه سند قائم بوجود الربوبية، بل أعني سند الإخوان والأهل؛ لأنهم يَغيبون عنا حينما نفقِد توازُن العطاء بالمرض، هي موجودة في سُنَّة الأولين مع سيدنا أيوب – عليه السلام – حينما تَفرَّق عنه الأهل، ما عدا الزوجةَ الكريمة كرم الأتقياء، لا لشيء سوى أن الإيمان ليس مستقرًّا في قلوب ضعاف النفوس، بل أضحى قولاً دون عمل، وعْدًا دون التزام.

مؤسف جدًّا أن أكتب في الورع، ونحن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، والله عيبٌ أن أكتب فيما المفروض ألا أكتب فيه؛ لأنه مناقض لما تُكنُّه صدورنا من ولاء لأفضل الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم من يقرأ أسطري هم إخواني وأخواتي، هم من إسلامي وقرآني وعروبتي، فلمَ التناقض؟! ولمَ أضطر لكتابة ما فيه مفارقات فرضتْها عولمة الأخلاق؟

لكني أكتب لكل مريض في هذه اللحظة وهو يقرأ عن لحظات المرض، أدعو كل مريض ليُسبِّح بآهاته الله الأحد، فلا ييئس ولا يقنط من رَوح الله، حتى وإن يئس من رَوح البشر، شتان بين ذاك وذاك!

إذًا؛ ارفع عينيك إلى السماء، وترجَّى خالقك؛ ففي الترجي رحمة وسكينة.

لا تطلب رحمة من بشر الغرر؛ حتى لا يلدغك بسم الخور.

اترك مُعانَقة الأرجاء فيمن ليس فيهم رحمات وعِبر.

تذكر أنك اليوم مريض؛ لكنك في الغد ممرض مَن مارضك.