قصة مريم في القرآن دروس وعبر [1]فضيلة الشيخ /عبدالله بن عبده نعمان العواضي

الانبياء عليهم الصلاة والسلام
الأثنين أكتوبر 2019

قصة مريم في القرآن

دروس وعبر [1]

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس، هناك نموذج فذٌّ من النساء الصالحات، وقدوةٌ هادية من الكوامل المؤمنات، ومثال مُشرق من النساء التقيات العابدات، الراضيات الصابرات.

هذه المرأة الصالحة أثنى الله تعالى عليها في القرآن الكريم، ومدحَها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة؛ فلذلك أثنى عليها المسلمون، وأنزلوها المنزلة التي أنزلها الله تعالى إياها من غير إفراط ولا تفريط.

أما أهل الغواية، وضُلَّال طريقِ الهداية فقد حادوا عن المنهج القويم فيها؛ فاليهودُ المغضوب عليهم رموها بالفاحشة، والنصارى الضالون غَلَوا فيها حتى جعلوها في مرتبة الإلهية، فتوجه إليها بعضهم بالعبادة؛ لأنها والدة الإله عيسى في زعمهم.

هذه المرأة الصالحة هي الصدِّيقة مريم ابنة عمران عليها السلام. يقول تعالى في الثناء عليها: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ [المائدة:75].

وقال: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران:42].وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة)[2].

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)[3].

أيها المسلمون، نعيش هذا اليوم – بعون الله – مع ما قصه الله تعالى في القرآن الكريم عن هذه المرأة التقية الصالحة لنأخذ الدروس والعبر من حياتها لحياتنا، ومن مواقفها لمواقفنا، ومن أحوالها لأحوالنا، ومن صلاحها لصلاح نسائنا؛ فقد أمر الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بذكر قصة مريم للناس فقال: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ [مريم:16].

أيها الأحباب الكرام، كانت مريم عليها السلام بنت عمران من بني إسرائيل من أسرة صالحة معروفة بالتقوى، قد جعلها الله تعالى من أفضل أهل زمانها صلاحًا وتقوى، وكان من خبر أمها العابدة التقية: حينما كانت حاملاً بها: أن نذرت لله تعالى هذا الجنين خادمًا لبيت المقدس بعد أن يولد ويكبر، على عادتهم في ذلك الزمان. ولكنها فوجئت عند وضعها أنها ليست ذكراً يصلح لخدمة بيت المقدس؛ إذ ليست الأنثى كالذكر في ذلك، فسمَّتها بعد ذلك بمريم، ودعت لها بالتحصين هي وذريتها من الشيطان الرجيم. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 33 – 36].

وفي هذه الآيات الكريمات: بيان فضل عمران أبي مريم وزوجته وبنته، وحرص أمها على شكر الله، والتقرب إليه بما يحب، وفيها مشروعية التسمية عند الولادة، وذلك قبلها وبعدها، وفيها استحباب الدعاء للمولود وذريته، وتعويذه من الشيطان الرجيم. عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين، يقول: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق)[4].

وفي الآيات كذلك: بيان أن للذكر أعمالاً تناسب فطرته، لا تصلح لها الأنثى، فإذا أقحمت المرأة نفسَها في أعمال لا تناسب فطرتها شَقِيتْ وتعبت.

أيها الإخوة الفضلاء، فلما ظهر حسن نية أم مريم، وصدق تقربها لله تعالى بما نذرت به استجاب الله دعاءها، وقَبِل نذرها، وأصلح ابنتها مريم، وجعلها في كفالة زوج خالتها نبي الله زكريا عليه السلام، حينما خرجت القرعة له بعد أن اختصم صلحاء بني إسرائيل كل يريد أن يكفلها ويربيها.

فقام زكريا عليه السلام بتربيتها تربية صالحة، ورعايتها رعاية تامة، وأسكنها في محراب عبادته، فكانت تأتيها كرامات من الله تعالى من الطعام في غير أوانه، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فنشأت نشأة صالحة نقية.

قال تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران:37].

وقال: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران:44].

فمن هاتين الآيتين الكريمتين ظهرت إجابةُ اللهِ دعوةَ أم مريم، فعصم اللهُ مريم وابنها عيسى عليهما السلام من تسلط الشيطان عليهما، وأصلحها صلاحًا تامًا.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان غير مريم وابنها ). ثم يقول أبو هريرة: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36][5].

وفي الآيتين: بيان عظم شأن نعمة الله على الإنسان بتربيته التربية الصالحة، وعلى أيدي مربين صالحين مخلصين، وأثر البيئة الصالحة في صلاح النساء والرجال.

وفيهما كذلك: نسبة الإنسان الصالح نِعمَ الله عليه إلى ربه وحده، لا إلى صلاحه وتقواه، أو استحقاقه.

عباد الله، لقد نشأت مريم وشبَّت وبلغت مبلغ النساء، فأراد الله تعالى- وله الحكمة البالغة- أن يخلق منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام من غير أب؛ ليكون معجزة دالة على قدرته، ويعظ بها بني إسرائيل الذين غرقوا في الماديات، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون:50].

فلأمرٍ ما يعلمه الله تعالى خرجت مريم عليها السلام من محرابها، وتباعدت عن قومها، فاتخذت لها مكانًا للعبادة مما يلي الشرق عن قومها، فاستترت في ذلك المكان عن أعين الناس، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام ملكَ الوحيِ في صورة إنسان تام الخلق، فلما جاءها في ذلك المكان الخالي -وهي الطاهرة النقية العفيفة- خافت وفزعت، فاستجارت بالله الرحمن ليرحمها من شر إنسان لا تعرفه، وذكرَّته بالله وبتقواه؛ ليعصمه ذلك من قربانها بسوء.

فطمأنها جبريلُ عليه السلام بأنه لن يصيبها بشر، وبيَّن لها أنما هو رسول ملكي من عند الله تعالى إليها ليبشرها بمجيء غلام منها يكون بكلمة من الله، ويصير له جاه وشأن في الدنيا والآخرة، وطهارة من الذنوب.

فتعجبت مريم من حصول ذلك منها من غير نكاح أو سفاح، فذكر لها الملك أن الأمر كذلك من مجيء الولد في المنظور البشري، لكن عيسى له شأن آخر ينفرد به عن الناس بقدرة الله تعالى، حيث يُولَد من غير أب، وذلك على الله يسير.

وقد قدَّر الله وجودَ عيسى بذلك ليكون آية دالة على قدرة، ولا يمكن أن يتبدل هذا القضاء؛ لأنه قد سبق البتُّ فيه في اللوح المحفوظ.

قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 16 – 21].

 

وقال: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران:45].

أحبابي الكرام، في هذه الآيات الكريمات عظات ودروس متنوعات، ففيها: استحباب ذكر القِصص القرآنية بين الناس من أجل الاستفادة منها دينيًا ودنيويًا.

وفيها: مشروعية الخلوة للعبادة، واعتزال الناس إذا خاف الإنسان على نفسه شرهم، وأمن في عزلته على دينه ودنياه وعقله. وفيها: أن جبريل عليه السلام لما كان يجيء من السماء بالوحي وصفه الله بالروح؛ لأن بوحي السماء حياةَ الأرواح، فمن كان أكثر امتثالاً لوحي السماء كانت روحه أكثر حياة ورونقًا، فبذلك يسعد في الدنيا والآخرة. وفيها أيضًا: أن مجيء جبريل على صورة بشر لا على صورته الملائكية كان له حكمة؛ فإنه لو جاء على صورته لنفرت منه مريم خوفًا، ولما استطاعت الخطاب معه، وقد جاء كذلك تام الخلقة، حسن الصورة؛ حتى لا تستوحش من رؤيته، والاستمرار في خطابه. وفيها فضيلة عفة المرأة وحيائها وتقواها، وأن هذه الصفات تحرسها من معصية الله وسمعة السوء بين الناس، وفيها أيضًا: لجوء المسلم عند مخاوفه إلى ربه وحده؛ فهو الذي بيده الأمر كله، ويدفع الشر كله، فمن قوي لجوؤه إلى الله أمِنَ، وقرب فرجه. وفيها: أن الإنسان إذا كان من أهل التقوى حقًا فإن تقواه ستحول بينه وبين معصية الله، فمن أقدم على المعصية فمِن عدم تقواه أو من قلتها. وفيها أيضًا: أن قوة الإيمان تُعرَف عند الخلوة بالمعصية التي تشتهيها النفس، فمن راقب الله انتصر إيمانه على شهوته فلم يقرب من المعصية. وفيها كذلك: أن الحياة الدنيا قائمة على الأسباب، ولكن الاسباب قد تتخلف أمام قدرة الله إذ يجعل الله تعالى بعض الأشياء حاصلة من غير سبب معروف، وهذا يربي في المسلم قوة اليقين بالله، وكثرة التفاؤل بفرجه ورحمته عند الشدائد التي لا يجد أمام عينيه ولا في ذهنه سببًا لانقشاع ظلماتها. ولكن حينما يكون واثقًا بالله مؤمنًا بقدرته العظيمة فإنه لن يقف عند الأسباب المحسوسة، ولكنه سينظر بعين اليقين إلى رب العالمين. وفيها: فضيلة التسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما كتبه الله على الإنسان من أقداره، وإن كان فيها ما يكره فإن فيها العاقبة الحسنة، وحصول ما يحب.

أيها المسلمون، لقد سلَّمت مريم الصدِّيقة أمرها لقدر الله وهي ستعلم ما ستلقى من سفهاء قومها من التهم والطعون، غير أنها لما علمت أنه أمر الله تعالى اطمأنت ورضيت. فنفخ جبريل في جيب قميصها حتى وصلت النفخة إلى رحمها فحصل الحمل بسبب ذلك، فخرجت إلى مكان بعيد؛ خشية من تعيير قومها لها بالحمل من غير زوج. فحملت بعيسى عليه السلام كما تحمل النساء وهي في ذلك المكان البعيد، واستمرت على حملها حتى حان وقت ولادتها فألجأتها آلام الطلق إلى نخلة استندت عليها عند ولادتها في مكان مرتفع. ولما كانت في تلك الحال أضحت تعاني أنواعًا من الكروب: كرب الولادة، وكرب قلة الخبرة فيها، لكونها عذراء وليس بجانبها أحد، والكربة الكبيرة هي ماذا ستقول لقومها إذا رجعت إليهم بوليد وهي ليست بذات زوج، وقد عُرفت بينهم بالعفة والعبادة، وهذا الكرب الأخير هو الذي تمنت بسببه الموت قبل أن يكون عندها حمل، ولم تتمن الموت بعد حصوله؛ لأنه لو تحقق ذلك لما نفى عنها التهمة، كما تمنت كذلك أن لا تكون شيئًا يُعرف أو يذكر أو يهتم به؛ لزهد أهله فيه، وهذا الذي تمنته دفع إليه الخوف من العار والفضيحة. وبينهما هي في صراع نفسي وجسدي شديدين إذ سمعت صوت وليدها بين رجليها يطمئنها، ويسكن من روعها، وينتشلها من بين أحزانها، ويسكب في أذنيها كلماتِ السرور والتطمين، والتفاؤل والرضا فيقول لها: لا تستمري في الحزن؛ فإنه سيذهب، ولكن التفتي الآن إلى ينفعك وهو الطعام والشراب، فقد جعل الله تحتك-إكرامًا لك- جدولاً جاريًا، وفوقك رطبًا طريًا، فما عليك إلا أن تشربي من الماء، وتهزي جذع النخلة تساقط عليك تمراً رطبًا غضًا جُنيَ من ساعته. فكلي من الرطب واشربي من الماء، وطيبي نفسًا بهذا المولود، فإن جاءت ساعة العودة إلى القوم فأمسكي عن الكلام نذراً لله، وأحيلي التكلم إلي فأنا سأجيب عنك.

قال تعالى: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴾ [مريم: 22 – 26].

أيها الأحباب الكرام، يتجلى لنا من هذه الآيات الكريمات: بيان فضل الأم، وشدة ما تعاني في حملها وولادتها وتربية ولدها، فيا ويل أهل العقوق إذا جاء يوم استيفاء الحقوق، وفيها أيضًا: جواز تمني الموت للخوف على الدين، أما النهي عن تمني الموت فهو في حق من تمناه لمرض أو فقر أو نحو ذلك من مصائب الدنيا. وفيها كذلك: أن المنازل العالية عند الله لا تُنال إلا بعد مقاساة صروف البلاء، وتحمل شدة المصائب. وفيها: أن الشدائد إذا تناهت واشتدت آذنت بقرب فرج كبير. وفيها: أن المنح العظيمة قد تخرج من أرحام المحن الجسيمة؛ فمريم عليها السلام وهي مطوَّقة بتلك الكرب العظام يكرمها الله بطعام وشراب على غير العادة، ويكرمها بإنطاق وليدها ساعة ولادتها به، وهذا أمر خارق للعادة، فتسمع طمأنته لها فتنسى بذلك تلك الكربات كحال تلك المرأة المؤمنة التي أُمر بإلقائها في النار مع وليدها لإيمانها فقال لها وليدها في تلك الساعة الحرجة: (يا أمه، اصبري؛ فإنك على الحق)[6].

وفي الآيات أيضًا: العمل بالأسباب المشروعة لجلب خير أو دفع شر، ومنه جلب الرزق؛ فقد أمر الله مريم بهز جذع النخلة لإسقاط الرطب مع أنه لو أراد لأعطاها ذلك من غير هز. وفيها: أن التعبد لله بالصمت عن الكلام كان مشروعًا في الأمم قبلنا، أما في أمتنا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مره فليتكلم وليستظل، وليقعد وليتم صومه )[7].

وفيها: أن من حكم امتناع مريم عن الكلام: أن تحيل الكلام على وليدها ليكون ذلك أنفى لتهمتها، وأقوى لحجتها حينما يتكلم وهو مازال وليداً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون، فبعد أن ولدت مريم بعيسى عليه السلام رجعت إلى قومها ووليدها في حضنها، والناس يعرفون عن أسرتها الصلاح والعفة، ويعرفون عنها الطهارة والعبادة، وهي ليست ذات زواج، فلما رأوا ذلك الوليد معها، وعرفوا أنه ابنها أنكروا ذلك عليها، ووصفوها بالفاحشة بطريق غير مباشر، فقالوا لها: يا مريم، لقد جئت بشيء شنيع عجيب عظيم لا يليق بمثلك، فأنت أخت الرجل الصالح هارون، أو شبيهة الرجل الصالح هارون في عبادته، ولم يكن أبوك وأمك من أهل البغاء فكيف جئت أنت على خلاف ما هم عليه؟!

فأشارت إلى مولودها ليسألوه، وهو سيتولى الجواب عنها، ولما جرت العادة أن الطفل في مهده لا يتكلم استهجنوا كلامها، وتعجبوا قائلين: كيف نكلم طفلاً مازال في مهده رضيعًا.

فما انتهوا من كلمتهم الأخيرة إلا وصعقتهم المفاجأة بكلام عيسى مبرئً أمه مما اتهموها به، مبينًا أنه خلق بقدرة الله عبداً لله، وأنه سيعطى عندما يكبر كتابًا من السماء لهداية قومه، وسيكون نبيًا لهم. وأخبرهم بأن الله سيجعله عظيم النفع والخير في حياته أينما وجد، وأعلمهم أن الله أوصاه بالمحافظة على الصلاة، وأداء الزكاة عند قدرته على ذلك مدة بقائه حيًا، وأوصاه كذلك ببر والدته التي تحملت هذا العناء وصبرت لأمر الله، وبين لهم أن الله تعالى لم يجعله متكبراً مغروراً غليظًا ولا شقيًا ولا عصيًا. وختم لهم الجواب بأن الله تعالى قد أكرمه بالسلامة والأمان عند ولادته، وعند موته وعند بعثه.

قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 27 – 33].

أيها الإخوة الفضلاء، ختمت الآيات الكريمات من قصة العفيفة الصديقة مريم عليها السلام بدروس نافعة، فمنها: أنه قد طبع كثير من الناس على تقديم سوء الظن على حسنه، وقلة التثبت في الأمور قبل إصدار الأحكام، ومنها: أن عيون الناس وألسنتهم لا ترحم صالحًا زل، أو اتهم بتهمة هو منها بريء. ومنها: أن القذف بالفاحشة بطريق التلميح إذا كان يفهم منه معنى القذف فهمًا واضحًا فإن صاحبه يحد حد القذف، ومنها: أن أول كلمة نطق بها عيسى بين بني إسرائيل هي رد على النصارى الذين اتخذوا عيسى إلهًا عبدوه مع الله تعالى، فقال: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ﴾ [مريم: 30]، وليس إلهًا، وفيها: أهمية الصلاة والزكاة، وبر الوالدين، وفيها: أن الله تعالى أكرم عيسى بالأمان في أخوف ثلاثة مواطن، قال سفيان بن عيينة: ” أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم”[8].


[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في 25/ 6/ 1438هـ، 24/ 3/ 2017م.

[2] متفق عليه.

[3] متفق عليه.

[4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح.

[5] متفق عليه.

[6] رواه مسلم.

[7] رواه البخاري.

[8] تفسير ابن كثير (5/ 217).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/117955/#ixzz62KFPkj6Z

موضاعات عن السيدة مريم تبنة عمران  عليها السلام

(1)

نبيل العوضي:قصة مريم بنت عمران

(2)

الشيخ الشعراوى(من هو عمران)

هدية الموقع لك انت

هل السلفيون يضحكون؟ ابتسم مع الشيخ الحويني


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


مواضيع ذات صله


القائمة البريدية

إشترك في قائمنا البريدية ليصلك كل ما هو جديد من المقالات

[mailpoet_form id="1"]

جميع الحقوق محفوظه لموقع هدايه الحيارى