علمتني الأيام (1)

الحياة كنز العظة، ومخزن العِبَر، سواء في الماضي؛ حيث أعماقُ التاريخ السحيق، أو في الحاضر؛ حيث التجارب أكثر واقعيةً، وألصق معايشة.

وحظُّ كافة البشر من دروس الحياة يكاد يكون متساويًا، إلا أن الاختلافَ بينهم بحسب إعمال الفكر في استخلاص الفوائد؛ لصَقْل مواهبنا الذاتية، وتدعيم خبراتنا الشخصية، فحظُّ الناسِ من الاستفادة من وقائع الأيام بقدر حظِّهم من تدبُّرِها وتحليلها، واستخراج عصارة تجاربها؛ لتكون وقودًا للأحداث والمواقف المستقبلة، أما مَن تمرُّ عليه صروف الأيام وهو غفلان، فهذا من أهل الهوان والخِذْلان، بل هو من العُميان؛ وقد قال الرحمن: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

علَّمتني الأيام: أن ظهورَ القُبح ممن كنت تظنُّهم أهلاً لذلك إنما هو انتصارٌ لرَجاحة عقلك، وبُعْدِ نظرك، وجودة حُكْمِك على الخَلق، وما ظهر منهم إنما هو رسالة ربّانية بأنهم لا ينفعون وقت شدائدك وملمَّاتك، فلا تعوِّل عليهم كثيرًا.

علَّمتني الأيام: ألا أجاهرَ بالعداوة أحدًا، فلأن أكسِبَ صديقًا خيرٌ لي من اكتسابِ عدو، ومن يدري؛ لعل الأيام تطول بي فأرى أني كنتُ مخطئًا في تلك العداوة، أو أحتاج – يومًا ما – إلى هذا الذي خسِرته جرّاء اندفاعي؟! وحينها لا ينفع الندم!

علَّمتني الأيام: أن كل معصية إنما هي خصمٌ من رصيد راحتك وسكينتك وسعادتك في الدنيا والآخرة، وصدق إمامُ التابعين سعيدُ بن المسيب حيث يقول عن ذلك: “ما أكرمتِ العبادُ أنفسَها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسَها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرةً من الله – عز وجل – أن يرى عدوَّه يعمل بمعصية الله”.

علَّمتني الأيام: ألا أتحدثَ عن إنجازاتي الشخصية، بل أدَعُ الآخرين يتحدَّثون عنها، وما أصدقَ الإمامَ مالكًا حين قال: “إذا مدَحَ الرجلُ نفسَه ذهب بهاؤُه”!

علمتني الأيام: أن أفرَّ من الفاشلين فراري من الأسد؛ فالفاشل كالذي يغرق في البحر، يتشبث بقوة بِمَن يُنقذه، حتى ولو كبَّل سواعده وأدَّى ذلك لغرقِهما معًا، والطبع لصٌّ كما يقولون.

علمتني الأيام: أن انتقاءَ الكلمات واختيار الألفاظ مِن شِيَم العقلاء، وسلوك النُّجَباء، الذين ينتقون الكلام كما تُنتَقى أطايبُ الثمر، إن التسرُّع في إطلاق لفظٍ غير مسؤول يمكن – وبسهولة – أن يغيِّر نفسيةَ المتلقِّي، وتخسره وأنت لا تدري، فتجده صَعْبَ المِراس، سيئ التواصل، يتصيد لك الأخطاءَ، حتى ولو دقَّت أو صغرت، وكما قال الشاعر:

وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدي المساويا

علمتني الأيام: أن الناس مُولَعون دائمًا بالغرائب والمبالغات والتشدد، وقد يكون هذا جليًّا في الوصفات الشَّعبية العُشْبية؛ حيث يبالغون في قدرة عُشب معيَّن، أو عطار مخصوص على تحقيق الشفاء وبلوغ المراد، هذا فضلاً عن المبالغة في وصف الأحداث؛ لإضفاء المزيد من الإثارة، والظهور بمظهر المثقف العميق، أو المحلل البعيد الرؤية المتابع للأحداث، وقليل ما هم الذين يُلزمون أنفسَهم بالتحرِّي والتثبُّت قبل نقل الأخبار، فإذا رأيت أمثال هؤلاء، فعَضَّ عليهم بالنواجذ؛ لأن مجاورة الأُمَناء سِمةُ الفضلاء.

علمتني الأيام: أن اكتسابَ الآخرين لا يكون إلا بنُكْران الذات، والاهتمام بهم، والانخراط في مشاكلهم، والاستماع لشكواهم وخوالج صدورهم، والسعي في قضاء حوائجهم، إنك إذا منحتَ نفسَك للآخرين ملَكْتَ قلوبهم.

علمتني الأيام: أن من الناس مَن لا يؤثِّر فيهم الجميل، ولا تملِكُهم بالإحسان؛ بل وقد يقابلون أياديَك بالجحود، ولا يعرفون غيرَ لغة الشكوى ومفردات التسخط، وهؤلاء حُمَّى الأرواح ومنبع الأسقام، ومن لا يشكر الناسَ لا يشكر اللهَ تعالى.

علمتني الأيام: أن الإنجازاتِ من أجمل أطايب الدنيا، وأنها الوحيدة التي تهوِّن انفلاتَ لحظات العمر من بين أيدينا، فما أجمل أن تضع رأسَك على الوسادة آخر اليوم وترصد إنجازاتك بين عملٍ مثمر يصون عِرْضَك عن ذل السؤال، وصلاةٍ أديتَها، وصدقة أخرجتها، ورحِمٍ وصلتها، وحاجة لضعيف قضيتها، إن برد الحسنات يقع على القلب المكلوم فيطفئ لهيبَ عِلَّتِه، ويزرع بين جنبات الصدر سكينةً طيبة الإحساس؛ فاحزم أمرك، ورتِّب أوراقك، وتعامل مع أحداث الحياة بإيجابية، تدخل إلى السعادة في الدنيا من أعظم أبوابها، ألا وهو باب: “الرضا عن النفس”.