الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

د.هشام عبد القادر عقدة

فشهر شعبان من الأشهر العظيمة الفاضلة، التي ينبغي لنا معرفة حقها وأحكامها، وما يتعلق بها، وما يشرع فيها وما لا يشرع. وإجمال ذلك في النقاط التالية:

لماذا سُمِّيَ شعبان بهذا الاسم؟

سمي بذلك لتشعبهم فيه، أي تفرقهم في طلب المياه، وقيل في الغارات، والجمع شعبانات وشعابين، كرمضان ورماضين(1). والعرب عندما سمت أسماء الشهور، نقلتها من الأزمنة التي كانوا فيها، بحسب ما اتفق لها من الأحوال والأحداث، وكانت تسمية (رمضان) في وقت شديد الحر فسمي بذلك لشدة الرّمض فيه –وهو شدة الحر– وسموا (شعبان) من (الشَّعب)، وهو التفرق، لتفرقهم فيه لطلب الماء قبل رمضان.

فضل شهر شعبان

وردت عدة أحاديث في فضل شهر شعبان، تفيد أن الأعمال ترفع فيه إلى الله تعالى، وأنه شهر يغفل عنه الناس مما يقتضي فضل العبادة في أوقات الغفلة، وأن الله يغفر لعباده في ليلة النصف منه إلا لمشرك أو مشاحن.

فمن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”(2).

وذكر ابن رجب رحمه الله عدة فوائد في الحديث منها:”أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولًا عنه. وفي قوله “يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان” إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقًا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.

وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:

منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه. ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء.

ومنها: أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس.

ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة، قد يُدفع به البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم)(3)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ” رواه مسلم(4).

وأما رفع الأعمال في شعبان، فهو الرفع السنوي، ولا ينفي الرفع أو العرض الأسبوعي يومي الاثنين والخميس، والرفع اليومي في صلاتي الصبح والعصر.

وأما حديث “رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي”؛ فهو حديث ضعيف(5).

وأما ليلة النصف من شعبان، فقد ورد فيها عدد من الأحاديث الضعيفة جدًا والموضوعة، تتضمن فضل قيام ليلها وصيام نهارها، وأداء صلاة مخصوصة، والدعاء بأدعية مخصوصة(6).

لكن وردت أحاديث أخرى، قبلها بعض العلماء، ليس فيها تخصيص بصلاة أو صيام أو دعاء، وإنما تذكر مغفرة الله لعباده في تلك الليلة إلا لمشرك أو مشاحن، منها ما رواه عدد من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يطلع الله تبارك وتعالى إلى عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن”.

قال الألباني رحمه الله: حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة، من طرق مختلفة يشد بعضها بعضًا، وهم: معاذ بن جبل، وأبو ثعلبة الخشني، وعبد الله بن عمرو، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبوبكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة(7).

  ما يستحب في هذا الشهر

جاءت السنة المطهرة باستحباب الإكثار من الصيام في هذا الشهر، كما في حديث أنس- السابق- رضي الله عنه، وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان”، وفي لفظ لمسلم عنها” كان يصوم حتى نقول قد صام.. قد صام.. ويفطر حتى نقول قد أفطر.. قد أفطر، ولم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا”(8).

قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان(9).

وقال الصنعاني رحمه الله: وفيه دليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره(10).

وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان؛ يصله برمضان.

قال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وحسنه الترمذي(11).

قال ابن رجب رحمه الله: “صيام شعبان أفضل من الأشهر الحرم، وأفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله و بعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعُد منه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم ” أفضل الصيام بعد رمضان المحرم”(12)، محمولًا على التطوع المطلق بالصيام. فأما قبل رمضان وبعده، فإنه يلتحق به في الفضل، كما أن قوله في تمام الحديث: “وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل”، إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق، دون السنن الرواتب، عند جمهور العلماء، خلافًا لبعض الشافعية. والله أعلم(13).

كما أن شهر شعبان مقدمة لشهر رمضان، ولذلك شرع فيه الصيام، ليحصل التأهب والاستعداد لاستقبال شهر رمضان، ولترويض النفس على طاعة الله(14).

والمقصود أن العبادة التي حث الشارع على الإكثار منها قي شهر شعبان هي الصوم.

هذا وقد روي عن السلف أنهم كانوا يلقبون شهر شعبان بشهر القراء. قال ابن رجب رحمه الله: ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء. وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن(15).

  هل يشرع صوم شعبان كاملًا؟

يستحب الإكثار من صوم شعبان لكن لا يصومه كله، لقول عائشة -السابق– رضي الله عنها: “ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان”، ولا يُعارض ذلك ما سبق من قولها: “كان يصومه كله”، وقول أم سلمة: “يصله برمضان”؛ لأن الجمع ممكن بحمل ذلك على المبالغة، والمراد التكثير، كما أن وصل شعبان برمضان جائز لمن وافق عادته، ولا يلزم منه صوم الشهر كاملًا. وقد أشار إلى ذلك ابن حجر رحمه الله، بعدما ذكر حديث عائشة رضي الله عنها(كان يصوم شعبان إلا قليلًا)، فقال: “وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره (أنه كان لا يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصله برمضان)، أي كان يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله، ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله أن الرواية الأولى مفسرة للثانية مخصصة لها، وأن المراد بالكل الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال”(16).

  حكم تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام، ويومها بصيام

والكلام هنا عن التخصيص لا من اعتاد صيام البيض، أو وافقت عادته، وكذا من اعتاد قيام الليل، أما تخصيصها دون غيرها بالقيام، ونهارها بالصيام، فهو بدعة، لما سبق من كون الأحاديث الواردة في ذلك من الأحاديث الواهية والموضوعة، ولم يكن أمره صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ذلك، فمن أحدث في أمره ما ليس منه فهو مردود عليه.

فلا نترك هديه صلى الله عليه وسلم لفعل بعض التابعين ممن روي عنهم إحياء هذه الليلة. قال ابن رجب رحمه الله: وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام – كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم – يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد البصرة وغيرهم. وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم. وقالوا: ذلك كله بدعة(17).

  حكم الصوم في النصف الثاني من شعبان

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا انتصف شعبان فلا تصوموا”(18)، وهذا في حق من لم تكن له عادة في الصوم، فيكره له الصوم بعد انتصاف شعبان، أما من كان له عادة كصوم الاثنين والخميس، أو صوم يوم وإفطار يوم، أو وصَل النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول فالصوم في حقه مشروع، وبذلك يتم الجمع بين هذا الحديث، وما سبق من الأحاديث الدالة على استحباب صوم أكثر شعبان. قال الترمذي رحمه الله: معنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرًا، فإذا بقي من شعبان أخذ في الصوم لحال شهر رمضان(19).

  حكم صوم يوم الشك وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم”(20)، وقال: “لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه”(21). والنهي في الحديثين للتحريم إلا أن يوافق صومه عادة له(22)، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لرجل: “هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا”؟ يعني بالشهر شعبان، والسرر آخر الشهر لاستسرار -أي اختفاء- القمر فيه، قال الرجل: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: “فإذا أفطرت فصم يومين”(23)، أي إذا أفطرت بعد رمضان فاقض يومين، فهذا يدل على أن الرجل كان له عادة فأراد صلى الله عليه وسلم أن يحافظ على عادته، ولهذا أرشده إلى قضاء يومين(24).

ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يُرَ الهلال بسبب الغيم أو نحوه، وسمي يوم الشك لأنه يحتمل أن يكون يوم الثلاثين من شعبان، ويحتمل أن يكون اليوم الأول من رمضان.

ما الليلة المقصودة بقوله تعالى: “فيها يفرق كل أمر حكيم”؟

يعتقد البعض أن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان، يُقدر فيها ما يكون في العام، ويعدون ذلك في فضائل شعبان، وهو اعتقاد باطل مخالف لدلالة القرآن، فسياق الآية في سورة الدخان  {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم}، والقرآن أنزل في ليلة القدر في رمضان، كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وهي في رمضان كما قال تعالى:   {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة 185].

  هل هناك علاقة بين فضل شهر شعبان وتحويل القبلة؟

ارتبط فضل شهر شعبان عند البعض بتحويل القبلة لما روي أنه كان في النصف من شعبان، وذلك مردود من وجهين:

الأول : إنه لا يثبت تاريخ متفق عليه لتحويل القبلة، وإنما هي روايات مختلفة، منها ما يجعله في النصف من شعبان، ومنها ما يجعله في جمادى الآخرة، ومنها ما يجعله في نصف رجب وهو ما صححه ابن حجر رحمه الله، وقال: وبه جزم الجمهور “أن التحويل كان في نصف شهر رجب من السنة الثانية للهجرة”(25).

الثاني: لو كان فضل شعبان راجعًا لتحويل القبلة فيه، لقال الرسول صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن كثرة صومه في شعبان – “ذلك شهر حولت فيه القبلة”، ولكنه قالك “ذلك شهر يغفل الناس عنه..إلخ الحديث.

هذا ما تيسر لي جمعه فيما يتعلق بهذا الشهر الفاضل، أسأل الله تعالى أن يعيننا فيه على الصوم والطاعة، وأن ينجينا من العصيان والغفلة. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_______________

(1) لسان العرب(4/2271).

(2) حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، رقم(2356).

(3) لطائف المعارف لابن رجب(ص 191-193) باختصار.

(4) صحيح مسلم(2948).

(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة(4400).

(6) انظر لطائف المعارف(ص 187)بتحقيق خالد بن محمد بن عثمان، الفوائد المجموعة للشوكاني(ص 15)، موقع طريق الإسلام-موسوعة الفتاوى-توجيهات تتعلق بشهر شعبان لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.

(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/135)، رقم (1144).

(8) صحيح البخاري(1969، 1970)، صحيح مسلم(1156).

(9) فتح الباري(4/253).

(10) سبل السلام(2/342).

(11) صحيح سنن أبي داود – الأم (7/100)، رقم (2024).

(12) رواه مسلم(3/169).

(13) لطائف المعارف( ص 176-177) باختصار.

(14) انظر لطائف المعارف(ص 184).

(15) السابق.

(16) فتح الباري(4/214).

(17) لطائف المعارف(ص 189).

(18) صحيح سنن الترمذي(590).

(19) السابق.

(20) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي(إرواء الغليل 4/125 رقم 961).

(21) صحيح البخاري(1914)، وصحيح مسلم(1082).

(22) انظر المجموع للنووي(6/400)،فتح الباري( 4/120)،شرح رياض الصالحين لابن عثيمين(3/394).

(23) صحيح البخاري(1983)، صحيح مسلم(1161).

(24) انظر فتح الباري(4/231).

(25) فتح الباري(1/120).

—–

* المصدر: مجلة البيان.