شبهة تشبيه القرآن شجرة الزقوم بـ (رؤوس الشياطين)

الحمد للهِ فائضِ الأنوار، وفاتح الأبصار، وكاشف الأسرار، ورافع الأستار، والصلاة على محمد نُور الأنوار، وسيد الأبرار، وحبيب الجبَّار، وبشير الغفار، ونذير القهار، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأخيار، وبعد:

فهنالك مجموعةٌ من الشبهات وجِّهت للقرآن الكريم قديمًا وحديثًا للطعن في مصدريته، ومن ثَم للطعن في الإسلام ذاته، ولكن هيهات؛ فالإسلام العظيم هو دينُ الله الحق، قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، فهيَّأ الله تعالى علماء أجلاء في القديم والحديث للرد على هؤلاء وتفنيد شبههم ودحضِها.

ومن هذه الشبه التي وجهت للقرآن الكريم:

شبهة تقول:

إن القرآن الكريم شبَّه شجرة الزقوم بـ (رؤؤس الشياطين)، وكلاهما مجهولٌ، فأين البلاغة في ذلك؟ وما فائدة هذا التشبيه؟

الجواب:

أولًا: قائل هذه الشبهة: بعض الملاحدة، ذكر ذلك الألوسي في تفسيره[1].

ثانيًا: للرد على هذه الشبهة نقول:

إن هذا التشبيه تشبيه تخييلي؛ أي لأمرٍ مركوز في الخيال، وبه يندفع ما يُقال: إنه تشبيه بما لا يُعرف؛ وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفًا في الخارج، بل يكفي كونه مركوزًا في الذهن والخيال، فشبَّه المحسوس بالمتخيل وإن كان غير مرئي؛ وذلك للدلالة على أنه غايةٌ في القبح، كما تقول في تشبيه مَن يستقبحونه: كأنه شيطان، وفي تشبيه مَن يستحسنونه: كأنه مَلَك، كما في قوله: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، ومنه قول امرئ القيس:

أيقتُلُني والمَشْرفيُّ مُضاجِعي ♦♦♦ ومسنونةٌ زُرقٌ كأَنْيابِ أَغْوالِ

الرد على الشبهة مفصلًا:

قال فخر الدين الرازي رحمه الله: “وأما تشبيه هذا الطلع بـ (رؤوس الشياطين)، ففيه سؤال؛ لأنه قيل: إنَّا ما رأينا رؤوس الشياطين، فكيف يمكن تشبيه شيء بها؟

وأجابوا عنه من وجوه:

الأول – وهو الصحيح -: أن الناس لَمَّا اعتقدوا في الملائكة كمالَ الفضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهايةَ القبح والتشويه في الصورة والسيرة، فكما حسُن التشبيه بالمَلَك عند إرادة تقرير الكمال والفضيلة في قوله: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، فكذلك وجب أن يحسُن التشبيه بـ (رؤوس الشياطين) في القبح وتشويه الخلقة.

والحاصل: أن هذا من باب التشبيه لا بالمحسوس بل بالمتخيل، كأنه قيل: إن أقبح الأشياء في الوهم والخيال هو (رؤوس الشياطين)، فهذه الشجرة تُشْبهها في قبح النظر وتشويه الصورة.

والذي يؤكد هذا: أن العقلاء إذا رأوا شيئًا شديد الاضطراب، منكرَ الصورة، قبيح الخلقة – قالوا: إنه شيطان، وإذا رأوا شيئًا حسَنَ الصورة والسيرة، قالوا: إنه مَلَك، وقال امرؤ القيس:

أيقتُلُني والمَشْرفيُّ مُضاجِعي ♦♦♦ ومسنونةٌ زُرقٌ كأَنْيابِ أَغْوالِ

والقول الثاني: أن الشياطين حياتٌ لها رؤوس وأعراف، وهي مِن أقبح الحيات، وبها يُضرب المثل في القبح، والعرب إذا رأت منظرًا قبيحًا قالت: كأنه شيطان الحماطة، والحماطة شجرة معينة.

والقول الثالث: أن رؤوس الشياطين نبتٌ معروف قبيح الرأس، والوجه الأول هو الجواب الحق”[2].

وقال الألوسي رحمه الله: “زعم الجُبَّائي أن الشياطين حين يدخُلون النار تُشوَّه صورهم جدًّا، وتستبشع أعضاؤهم، فالمراد: كأنه رؤوس الشياطين الذين في النار، وفيه أن التشبيه عليه أيضًا غير معروف في الخارج عند النزول”[3].

وقال محمد الأمين الأرمي رحمه الله: “شبَّه المحسوس بالمتخيل وإن كان غير مرئي؛ للدلالة على أنه غاية في القبح، وعلى العكس من هذا تراهم يُشبِّهون الصورة الحسنة بالملَك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خيرٌ محض لا شرَّ فيه، فارتسَمَ في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف عليه السلام: ﴿ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]”[4].

وقال القاسمي رحمه الله: “وهذا تشبيهٌ تخييلي؛ أي لأمرٍ مركوزٍ في الخيال، وبه يندفع ما يقال: إنه تشبيه بما لا يُعرف؛ وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفًا في الخارج، بل يكفي كونه مركوزًا في الذهن والخيال، ألا ترى امرأ القيس – وهو ملِك الشعراء – يقول: (ومسنونة زُرق كأَنْياب أغوالِ)، وهو لم يرَ الغول؟! والغول نوع من الشياطين؛ لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة، وإن كان قابلًا للتشكل”[5].

الغرض من هذا التشبيه:

هذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإيمان بالحياة في قوله تعالى: ﴿ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ [يس: 70].

والمقصود منه هنا: تقريب حال المشبه، فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف، ولا كون المشبه كذلك”[6].

وقال الألوسي رحمه الله: “وبهذا يُرَد على بعض الملاحدة؛ حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بما لا يعرف، وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفًا في الخارج، بل يكفي كونه مركوزًا في الذهن والخيال”[7].

——————————————————————————–

[1] انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لشهاب الدين الألوسي (12/ 93)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

[2] انظر: مفاتيح الغيب؛ لفخر الدين الرازي (26/ 337)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ.

[3] انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لشهاب الدين الألوسي (12/ 93)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

[4] انظر: تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن؛ لمحمد الأمين بن عبدالله الأرمي العلوي الهرري الشافعي (24/ 198)، الناشر: دار طوق النجاة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ – 2001م.

[5] انظر: محاسن التأويل؛ لجمال الدين القاسمي (8/ 211)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

[6] انظر: التحرير والتنوير؛ للطاهر بن عاشور (23/ 124)، الناشر: الدار التونسية للنشر، تونس، 1984 هـ.

[7] انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لشهاب الدين الألوسي (12/ 93)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.