دعوة غير المسلمين إلى الإسلام  بين الأمس واليوم

مع مَطلَع كلِّ عام هجري يُفتَرَض أن يكون هناك وقفة محاسبة على مستوى الفرد والمجتمع، والذين يَنشُدون الكمالَ يُدرِكون أهميَّة وضرورة هذه الوقفة، وقدرٌ كبيرٌ من ذلك علَّمنا إيَّاه الشرعُ المطهَّر؛ قال – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

 

وقال عمر – رضِي الله عنه -: “حاسِبُوا أنفُسَكم قبلَ أن تُحاسَبوا”، ولا تكون محاسبةٌ من دون نظرٍ فيما قدَّمَه المرء بالأمس، وتخطيطٍ لما سيُقدِّمه غدًا، ودعوةُ غير المسلمين اليومَ تفتَقِر كثيرًا إلى التَّخطِيط الذي يُيسِّر وصولها إلى كلِّ أحدٍ بأيسر طريق وأسهله، وبأساليبَ أكثر إقناعًا وتأثيرًا؛ لأنَّ وصول الدعوة إلى المدعوِّين ليس نهاية المَطاف، بل لا بُدَّ أن تصل واضحةً بيِّنة، وبلغةٍ مقنعة ومؤثِّرة، تُجِيب عن كلِّ سؤال، وتُزِيل كلَّ شبهةٍ في أذهان المدعوِّين، ومن هنا فإنَّ التركيز في دعوة غير المسلمين على نشر الدعوة من دون تَبلِيغها، وإيصالها من دون تَفصِيلها، لا يجعلها تَروِي غليلاً، ولا تَشفِي عَلِيلاً، ولا يُسهِم في اهتِداء غير المسلِمين، ولو قارنَّا بين أسلوب الدعوة في صدر الإسلام وما بعده، وأسلوب الدعوة في العصر الحاضر – لأدركنا أنَّ كثيرًا من الأمراض والعِلَل تعتَرِي الدعوة في الوسائل والأساليب والمناهج، فغيرُ المسلمين الذين يَعِيشون في بِلاد المسلمين لم يلقوا عنايةً صحيحةً في هذا العصر، فقد أهملتْ دعوتهم في معظم بلدان المسلمين، وأضحى اليأسُ من هدايتهم صارِفًا للمسلمين عن دعوتهم؛ ولذلك كان من المتطلَّبات الرئيسة في دعوتهم إيجاد الهَمِّ الدعوي عند المسلمين؛ من خِلال تعظيم قدْر الدعوة، وبيان فضْلها، وبيان الآثار العديدة على المجتمع المسلم من ترْك دعوتهم، ولقد حفظ التاريخ لعُلَماء الإسلام ما قاموا به في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وكانوا سببًا في هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وألَّفوا الكتب العديدة في إبطال عقائدهم، وردِّ شبهاتهم، وفي بَيان مَحاسِن الإسلام بأساليب متنوِّعة، وحُجَج مُقنِعة، لا يُوجَد لها مثيلٌ في العصر الحاضر، فمن ذلك ما ألَّفه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه “الجواب الصحيح لِمَن بدَّل دينَ المسيح”، وكذلك ما ألَّفه تلميذُه ابن القيِّم في كتابه “هداية الحَيارَى في أجوبة اليهود والنصارى”، وهذان الكِتابان دليلٌ واضحٌ على عنايةٍ كبيرةٍ من هذين العالِمين بدعوة غير المسلمين على وجه الخُصُوص، ومَن يقرأهما يُدرِك حاجَةَ الدعوة اليومَ إلى أمثال هذه المؤلَّفات، ومن المعلوم أنَّ هذَيْن العالِمَيْن من عُلَماء القرنين السابع والثامن الهجريَّين، حين كانت الدعوة النصرانيَّة مضمحلَّة، ودُعاتها قلَّة بخِلاف حالها اليوم؛ فالنصارى يسعَوْن إلى نشر عقائدهم بكلِّ طريقة، ودُعاتهم ينتَشِرون في كلِّ دولة.

 

ولذا فلا ينبَغِي للدعوة أن تبقى حبيسةَ هذه الكتب قراءةً أو ترجمةً؛ بل لا بُدَّ أن يتصدَّى العُلَماء والدُّعاة لدعوة غيرِ المسلمين من الواقع الذي يَعِيشونه اليوم؛ لأنَّ عقائد غير المسلمين تتعرَّض للتحريف والتبديل من عصرٍ إلى آخَر، ومن جيلٍ إلى جيلٍ، ثم إنَّ مَظاهِر الاهتِمام بدعوة غيرِ المسلمين قديمًا لم تقف عند حدِّ التأليف؛ بل تعدَّتها إلى صُوَرٍ عمليَّة؛ فالمدعوُّ ينال حظَّه من الرِّعاية قبلَ الإسلام وبعدَه، وكانت العِناية بالمسلم الجديد على وجه الخصوص كبيرةً؛ لما لها من أثرٍ في ثباته على الإسلام، وكان من هدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الرجل إذا أسلم علَّمَه الصلاة، فليس بعد الشهادتين أعظم منها، وهي صِلَةٌ للعبد بربِّه، وهي سببٌ في صِلَتِه بالمجتمع المسلم وارتباطه به، وصور الرِّعاية للمسلم الجديد والاهتمام به في تاريخ الإسلام تأخُذُ أشكالاً شتَّى، وأَسُوق هنا مثالاً للرعاية التي يَلقاها غيرُ المسلم بعد إسلامه؛ ففي “زهر الآداب” للقيرواني: أنَّ ابن مكرم كتب رسالةً إلى نصرانيٍّ أسلم، جاء فيها: “أمَّا بعدُ: فالحمد لله الذي وفَّقك لشكره، وعرَّفك هدايته، وطهَّر من الارتياب قلبَك، وما زالت مخايلك ممثلة لنا حقيقة ما وهب الله فيك، حتى كأنَّك لم تزل بالإسلام موسومًا، وإنْ كنت على غيره مُقِيمًا، وكُنَّا مُؤمِّلين لما صرت إليه، مُشفِقين ممَّا كنت عليه، حتى إذ كاد إشفاقُنا أنْ يستَعلِي رجاءَنا، أتَت السعادة بما لم تزل الأنفس تعد منك، فأسأل اللهَ الذي أضاء لك سبيلَ رشدِك أن يوفِّقك لصالح العمل، وأنْ يُؤتِيَك في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، ويقيك عذاب النار”.

 

إنَّ مثل هذه الكلمات الحانِيَة، المفعمة بالعاطفة الحيَّة، والآمالِ العريضة، هي ما ينبَغِي أن يكون حال كلِّ مسلمٍ مع المسلم الجديد، الذي هو أحد الروافد المهمَّة في دعوة غيرِ المسلمين، وإنَّ على المجتمع المسلم أنْ يَحرِص على غرْس المحبَّة في نُفُوس المسلِمين الجُدُد، واحتِضانهم، وتعليمهم، والدُّعاء لهم، أمَّا نظرات الشكِّ والرَّيب والاستِعلاء على المسلم الجديد، فهي أخلاقٌ لم يشرعْها الإسلام؛ بل قد نهى عنها، وهي قد تردُّ المسلم الجديد إلى دينه، أو تُضعِف تمسُّكه بالإسلام، وفي المسلمين اليوم أناسٌ يَصرِفون عن دِين الله – تعالى – بقولهم وفِعلهم، قد وقَفُوا على قارعة الطريق يصدُّون الناس عن دين الله وهم لا يَشعُرون؛ ولذلك فإنَّ مُتطلَّبات الدعوة بين غير المسلمين اليومَ كثيرةٌ، وأساس ذلك توعِيَة العامَّة من المسلمين بدَورِهم في الدعوة.

 

والتبشير بالإسلام له صُوَرٌ مُتعدِّدة، فقد يكون بالقول أو الفعل أو الهيئة أو المعاملة، وكذلك يَشتَرِك فيه عمومُ المسلِمين، ولا بُدَّ مع ذلك من توحيد الجهود بين العامِلين في الدعوة، وتبادُل الخبرات والمعارف في مجال دعوة غير المسلمين.

 

وأخيرًا:

فإنَّ حاجَة الدعوة اليومَ كبيرةٌ إلى مؤتمرٍ يجتَمِع فيه عُلَماء المسلمين ودعاتهم، ويكون محوره الأساس: كيف ندعو غير المسلمين إلى الإسلام؟