الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا، ونشكره على ما مَنَّ به علينا من سائر النعم وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وحجته على عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، وحجَّة على المعاندين، وحسرة على الكافرين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

 

فإن صفة الحِلْم قد حثَّنا عليها الإسلام، ورغَّب فيها، وفي القرآن الكريم وردت آياتٌ قرآنية كثيرة تشير إلى صفة الحِلْم، ووُصِف الله عز وجل نفسه بالحلم، وسمَّى نفسه الحليم، وهي صفة يحبُّها الله عز وجل.

 

ووردت آياتٌ تدعو المسلمين إلى التحلِّي بهذا الخُلُق النبيل، وعدم المعاملة بالمثل، ومقابلة الإساءة بالإساءة، والحث على الدفع بالتي هي أحسن، والترغيب في الصَّفْح عن الأذى والعفو عن الإساءة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134]، وقال عز وجل: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].

 

والحِلْم من صفات الأنبياء عليهم السلام:

قال الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 69 – 75].

 

قال الله عز وجل عن شعيب عليه السلام: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 84 – 88].

 

* وقد وردت أحاديث نبوية تدل على هذا المعنى، منها قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة))[1]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التأنِّي من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحِلْم))[2].

 

وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو:

ومن ذلك قصة الأعرابي الذي جبذ النبي صلى الله عليه وسلم بردائه جبذة شديدة:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: “كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني، غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء”[3].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالًا))، ثم قال: ((أعطوه سنًّا مثل سنه))، قالوا: يا رسول الله، إلا أمثل من سنه، فقال: ((أعطوه؛ فإن من خيركم أحسنكم قضاء))[4].

 

وعن أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمُرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: ((يا أُنيسُ، اذْهَبْ حيثُ أمَرْتُكَ))، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا”[5].

 

وعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد، قال: ((لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردْتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمِع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمُرَه بما شئتَ فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبُدُ الله وحده، لا يُشرِك به شيئًا))[6].

 

وحِلْمه صلى الله عليه وسلم على ذي الخويصرة:

فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: “بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله، اعدل، فقال: ((ويلك، ومَنْ يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل))، فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: ((دعه، فإن له أصحابًا يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رِصافِه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه، وهو قِدْحه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عَضُديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البَضْعة تَدَرْدَرُ، ويخرجون على حين فُرْقة من الناس))، قال أبو سعيد: فأشهد أني سمِعتُ هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته” [7].

 

وكذلك حِلْمه صلى الله عليه وسلم على اليهودي الذي سحره:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود لذلك أيامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: إن رجلًا من اليهود سحرك، عقَد لك عُقَدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها من يجيء بها، فبعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله تعالى عنه، فاستخرجها، فجاءه بها فحللها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عِقال، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي، ولا رآه في وجهه حتى مات”[8].

 

وحِلْمه صلى الله عليه وسلم على المرأة اليهودية التي أتته بشاة مسمومة:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه “أن امرأةً يهوديةً أتَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردتُ لأقتلك، قال: ((ما كان الله ليُسلِّطَكِ على ذاك))، قال: أو قال «عليَّ» قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: ((لا))، قال: «فما زلت أعرفها في لَهَوَاتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم»[9].

 

ومن الشعر:

أنشد محمد بن عبدالله بن زنجي البغدادي:

 

ألم ترَ أن الحِلْمَ زَيْنٌ مُسَوِّدُ
لصاحبه والجَهْل للمرء شائن
فكُنْ دافِنًا للجَهْلِ بالحِلْم تَسْتَرح
من الجَهْل إنَّ الحِلْم للْجَهْل دافِن[10]

[1] رواه مسلم (26).

[2] رواه أبو يعلى (3 /118).

[3] رواه البخاري (5809)، واللفظ له، ومسلم (1057).

[4] رواه البخاري (2306)، واللفظ له، ومسلم (1601).

[5] رواه مسلم (2310).

[6] رواه البخاري، (3231) واللفظ له، ومسلم (1795).

[7] رواه البخاري (3610)، ومسلم (1064).

[8] رواه النسائي، وأحمد.

[9] رواه البخاري (2617)، ومسلم (2190).

[10] روضة العقلاء (209).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/131227/#ixzz647kOTHvM