من الأنبياء في الدنُّيا

1- أن الله أخذ العهد والميثاق على جميع الرسل والأنبياء أن يؤمنوا به ويتبعوه إذا ظهر في عهدهم

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

بينت الآية أن الله عز وجل أخذ الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام أنه إذا ظهر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عهده أن يؤمن به ويتبعه ولا تمنعه نبوته أن يتابع نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكل نبي أخذ العهد والميثاق على أمته أنه لو بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يتابعوه ولا يتابعوا نبيهم.

قال ابنُ عباس: (ما بعث الله نبيًا إلاَّ أخذ عليه الميثاق: لئن بُعث محمد وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بُعت محمد وهم أحياء ليؤمننَّ به ولينصرنَّه).[1]

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي).[2]

قال ابن كثير: (فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس).[3]

 

2- أنَّه أولى بالأنبياء:

فكما أن الله عز وجل أخذ العهد على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك أخبرنا الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من غيره،

فقد ادعى كل من اليهود والنصارى أن إبراهيم منهم فنفى الله ذلك وبيَّن أن أولى الناس به هو النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾.[4]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ)[5]

قال الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته.

﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته وشرَعوا شرائعه وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به. ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾ [6] يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله.

﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.[7]

 

2- أنَّه أولى بالأنبياء:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ)، قَالَ: ( فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْه، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا[8] مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي نَفْسَهُ – فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ).[9]

قوله: (تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ)، أي: عن سيري إلى بيت المقدس.

قوله: (فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ) المعنى حزنًا شديدًا، وفي القاموس: الكرب: الحزن يأخذ بالنفس كالكربة وكربه الغم فهو مكروب.

قوله: (فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ)، أي: نوع وسط من الرجال أو: خفيف اللحم.

قوله: (جَعْدٌ )، بفتح فسكون، وفيه معنيان، أحدهما: جعودة الجسم، وهو اجتماعه، والثاني: جعودة الشعر، والأول أصح.

قوله: (رِجَالِ شَنُوءَةَ) هي قبيلة مشهورة.

قال القاضي عياض، فإن قيل: كيف رأى موسى عليه السلام يصلي، وأمَّ – صلى الله عليه وسلم – الأنبياء في بيت المقدس، ووجدهم على مراتبهم في السماوات؟

فالجواب: يحتمل أنه – صلى الله عليه وسلم – رآهم وصلى بهم في بيت المقدس، ثم صعدوا إلى السماء، فوجدهم فيها، وأن يكون اجتماعهم وصلاته معهم بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى.[10]

قال ابن كثير: (والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السماوات، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا: وهم معه، وصلى بهم فيه، ثم إنه ركب البُراق وكرَّ راجعًا إلى مكة).[11]

واختلف العلماء في حقيقة هذه الصلاة:

فقيل: إنها الصلاة اللغوية، يعني الدعاء والذكر.

وقيل: هي الصلاة المعروفة، وهذا أصح؛ لأنّ اللفظ يُحمل على حقيقته الشرعية قبل اللغوية، وإنما نحمله على اللغوية إذا تعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب الحمل على الصلاة الشرعية.

وعلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء قبل الإسراء، فلقائل أن يقول: وكيف عَرَف النبي صلى الله عليه وسلم كيفة الصلاة؟

نقول لا إشكال في ذلك؛ لأن الصلاة كانت مفروضة على المسلمين من ابتداء الإسلام؛ ولذلك لما سأل هرقلُ أبا سفيان مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟

قال: (يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ.[12]

قال ابن رجب: (وفيه دليل على أن الصلاة شُرعت من ابتداء النبوة، لكن الصلوات الخمس لم تفُرض قبل الإسراء بغير خلاف).[13]

وقال ابن حجر: (فإنه صلى الله عليه وسلم كان قَبْل الإسراء يُصلي قطعًا، وكذلك أصحابه).[14]

4- أن الله غفر له ما تقدم من ذبيه وما تأخر:

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 1، 2].

 

ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم؛ لأن كل واحد منهم إذا طُلبَتْ منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: (نفسي نفسي)، ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يُوْجل منها في ذلك المقام، وإذا استشفعت الخلائق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام قال: (أنا لها).

قال العز بن عبدالسلام: (من خصائصه أنه أخبره الله بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بذلك ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 – 4].

وفي حديث الشفاعة الطويل أن الناس يذهبون إلى الأنبياء فيذكر كلٌ منهم ذنبه حتى يجيء الدور على عيسى عليه السلام فيقول: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ ….).[15]

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ).[16]

قال الشوكاني: واختلف في معنى قوله: ﴿ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾:

فقيل: ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها، قاله مجاهد، وسفيان الثوري، وابن جرير، والواحدي، وغيرهم.

وقال عطاء: ما تقدم من ذنبك: يعني ذنب أبويك آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك، وما أبعد هذا عن معنى القرآن.

وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله.

وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد.

وقيل: لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى- أي ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها -.

ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنبًا في حقه لجلالة قدره، وإن لم يكن ذنبًا في حق غيره.[17] [18]

5– عموم رسالته للناس كافة:

كان الأنبياء والرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام يرسلون إلى أقوامهم خاصة ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1].

﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ [هود: 50].

 

﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73].

 

وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فرسالته عامة لجميع الناس عربهم وعجمهم وإنسهم وجنّهم، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، وفيه: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).[19]

قال ابن الملقن رحمه الله: (ومن خصائصه أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والأنس، ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته).[20]


ولنبينا صلى الله عليه و سلم ثواب التبليغ إلي كل من أرسل إليه تارة لمباشرة البلاغ وتارة بالنسبة إليه ولذلك مَنَّ عليه ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 51].

ووجه المنَّة: أنه لو بُعث في كل قرية نذيرًا لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تشير إلى هذه الخصوصية ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].

6- عموم رسالته للثقلَيْن (الإنس والجن):

كان الأنبياءُ من قبله – صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ – يُرسَلُ كلُّ نبيٍّ إلى قومِهِ خاصَّة، وأُرسِلَ رسولُنا مُحمَّد – عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – إلى الثَّقلينِ (الجنِّ والإنس)، وهذه من خصائصِهِ التي اختصَّه اللهُ – عَزَّ وجَلَّ – بها قالَ اللهُ تعالى- لنبينا مُحمَّدٍ – عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

 

قال القرطبي: (والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولًا إليهما ونذيرًا لهما وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحًا، فإنه عمَّ برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان؛ لأنه بدأ به الخلق، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين:

أحدهما: عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة.

الثاني: خاصة بقومه؛ لأنه ما تجاوزهم بدعائه).[21]

قلت: كما في قوله تعالى ﴿ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: 27].

7- خاتم النبيين والمرسلين:

قد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلم العباد أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].

ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ).[22]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ) .[23]

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَد ُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا).[24]

وهذه المسألة من قواعد دين الإسلام، قال ابن الملقن: (وَلَا يُعَارضهُ مَا ورد من نزُول عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام آخر الزَّمَان فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بشريعة ناسخة بل مقررًا لَهَا عَاملًا بهَا).[25]

ولهذه النصوص أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على هذه العقيدة، كما أجمعت على تكفير من ادعى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم ووجوب قتل مدعيها إن أصر على ذلك، قال الألوسي: (وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر).[26]

قلت: ولأن الرسالة والنبوة جنس واحد ومن فرَّق بين المتماثلات فقد فسد عقله؛ لذا من كذب بنبي واحد من الأنبياء والرسل فقد كفر كما في قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 105].

ومعلوم أن نوحًا عليه السلام أول الرسل ومع ذلك أخبر سبحانه وتعالى أن من كذَّب به فقد كذَّب بمن جاء بعده، فعُلِم أن التكذيب بواحد من الأنبياء والرسل تكذيب بكل الرسل؛ لذا قال تعالى: ﭽ ﯳ ﭼ ولم يقل بنوح فقط.

قال ابن كثير: (وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل).[27]

فهذه النصوص تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم خُتِمَ به النبيون لا كما يزعم الشيعة أن خاتم النبيين، أي: أنه زينتهم كالخاتم الذي يكون زينة في الإصبع، وأن النبوة لم تُختم بعدُ، ويكذب هؤلاء ما ورد من نصوص كما تقدم، وما ثبت عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا: (وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي).[28]

8- بقاء معجزته (القرآن) ليوم الدين:[29]

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].

قال قتادة وثابت البناني: (حفظه الله تعالى من أن تزيد الشياطين فيه باطلًا أو: أن تنقص منه حقًا).[30]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ).[31]

فالقرآن معجزته العظمى التي اختص بها دون غيره فهو الحجة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده إلى يوم القيامة، كتاب خالد لا ينضب معينه، ولا تنقضي عجائبه ولا تنتهي فوائده محفوظ بحفظ الله من التغيير والتبديل والتحريف.

قال ابنُ حَجَرٍ: (المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أعطى معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، كما كان السحر فاشيًا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا ولم يقع ذلك بعينه لغيره، وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور فأتاهم من جنس عملهم بمالم تصل قدرتهم إليه؛ ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك).[32]

لذا فالقرآن أخص معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، قال الماوردي: (والقرآن أوّلُ مُعْجزٍ دعا به مُحمَّدٌ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسلم فصدعَ فيه برسالتِهِ، وخُصَّ بإعجازِهِ من جميعِ رُسُلِه).[33]

ومن جملة حفظ الله لكتابه سهولة حفظه في الصدور وحفظه من التلاعب والتغاير في ألفاظه ومعانيه بالزياة والنقصان، ومن حفظه صيانته من المعارضة، ومن حفظه تقييد الله له العلماء الراسخين يذبون ويدفعون عنه شبه الملحدين إلى آخر الدهر، قال القاضي عياض: (لا يكاد يُعدُّ من سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطلة لا سيِّما القرامطة، فأجمعوا كيدهم، وحولهم وقوتهم فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه والحمد لله).[34]

ولا شك أن حفظ القرآن حفظ لدعوته صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان أكثر الناس تبعًا لما ورد في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ).[35]

9- أن الله أقسم بحياته:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72].

 

ومعناه: أقسم بعمرك وحياتك يا محمد، وقد أقسم الله تبارك وتعالى بأشياء كثيرة من مخلوقاته الدالة على كماله وعظمته ليؤكد المعنى في نفوس المخاطبين، فأقسم تعالى بالشمس والقمر والسماء وغير ذلك، بينما نجده سبحانه وتعالى لم يقسم بأحد من البشر إلا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والإقسام بحياة المُقْسَم يدل على شرف حياته وعزتها عند المُقْسِم بها، وأن حياته صلى الله عليه وسلم لجديرة أن يُقْسَم بها لما فيها من البركة العامة والخاصة، ولم يثبت هذا لغيره من الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ).[36]

ولقائل أن يقول كيف يحلف الله بمخلوقاته وقد نهانا عن ذلك؟

والجواب أننا لابد أن نعلم أن الله تعالى فعال لما يريد، وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وليس للعبد أن يسأل الرب عن فعله لم فعله؟ وإنما الواجب عليه أن يفعل ما يأمره الله به؛ لأن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيهًا على شرفه، ولما اعترض إبليس على ربه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ     ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ الإسراء: ٦١ طرده من رحمته.

قال القرطبي: (لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك).[37]

قال ابن تيمية: (إِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا؛ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ).[38]

وقال ابن عثيمين:) هذا من فعل الله، والله لا يسأل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسئول، وحاكم غير محكوم عليه).[39]

10– أن الله ناداه في القرآن الكريم بصفته بخلاف غيره من الأنبياء:

خاطب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بالنبوة والرسالة ولم يناده باسمه، زيادة في التكريم والتشريف أما سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فخوطبوا بأسمائهم قال الله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41].

﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].

 

﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 64].

 

بينما قال تعالى لأنبيائه: ﴿ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33].

﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55].

 

﴿ قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].

 

﴿ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46].

 

﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].

 

﴿ يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾ [هود: 76].

 

﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12].

 

﴿ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7].

قال العز بن عبد السلام رحمه الله: (ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعى أحد عبيده بأفضل ما وجد فيهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام لا يشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم .وهذا معلوم بالعرف أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه ).[40]

فإن قال قائل: ألم يقل الله: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].

فذكره باسمه، وكذلك ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].

فالجواب: أنه إنما ذكره باسمه ليعرف به لذا قرنه بالرسالة، فقال: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].

قال شيخنا أبو الفضل عمر الحدوشي: في كتابه: (كيف تصير عالمًا في زمن النت: (1274- 1277) (وناده بوصف كان يحبه صلى الله عليه وسلم وصف العبودية في مواضع تدل على التعظيم والتبجيل؛ لأن لفظة: (العبد) تطلق ويراد بها معان كثيرة، منها:

1- العبودية العامة، وهي لجميع الناس، برهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم وبرهان هذا ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].

2- العبودية الخاصة-للمسلمين والمؤمنين بصفة عامة-، وهذه خاصة بالمؤمنين، وأمثلة هذا في القرآن كثيرة جداً، منها قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16]، وقال أيضًا: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وقال أيضًا: ﴿ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].

3- عبودية خاصة الخاصة – كما قال بعض العلماء، أو: نقول: عبودية خاصة بصفة خاصة-وهذه للأنبياء والمرسلين، وذلك إذا كانت لفظة: (عبده) مضافة إلى ضمير الجلالة، (كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافًا إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد في إضافته تعريفًا.

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1].

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 36].

﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].

﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19].

وذِكرُ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1] انظر: (التحرير والتنوير) (7/ 12/ 247).

ولفظة: (العبد) جاءت هنا إثر مواضع وأماكن عظيمة فيراد بها نبينا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وقد ورد في خصوصها أحاديث كثيرة مثل: (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري في: (صحيحه) (59-كتاب أحاديث الأنبياء، 48-باب: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) (6/ 490)، و(7/ 149/ رقم:3445)، و(12/ 144/ 145) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرج جزءاً منهم مسلم في: (صحيحه) (11/ 191/ 192)، وأحمد في مواضع من (مسنده) (1/ 55/ 56)، وقال المحدث أحمد شاكر في تعليقه على: (المسند) (1/ 90/ 94/ 167/ 391/ رقم:154/ 164/ 331/ 191): (إسناده صحيح).

4- عبودية الدرهم، والدينار، والخميصة، والخميلة، لقوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن منع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

الحديث بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في: (المعجم الأوسط) (3/ 94/ رقم:2595)، وبنحوه أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة، في: (صحيحه) في كتاب الجهاد والسير، باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله، وفي كتاب الرقاق باب: ما يتقى من فتنة المال.

وهذا تحذير من الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -لأمته من الإيغال في هذه الدنيا وأن تكون أكبرَ همهم، فبيَّن أن العبد الذي يجمع الدنانير والدراهم ويرضى بذلك وهو أكبر همه ويصرف وقته وطاقته وجهده وشبابه في جمع الدراهم والدنانير أو: جمعِ الخمائل والخمائص-وهي أنواع الملابس-أو: ما يشبه ذلك من ضروب هذه الدنيا ومما فيها، فإنه قد تعس.

قوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: (تعس): دعاءٌ عليه بالهلاك، عبد الدينار: (عبد الدرهم) هو الذي يتوقف رضاه على إعطائه الدينار والدرهم، وسخطه على عدم ذلك، وهذه منقصة تدل على أن الدنيا إنما هي معبر وليست بدار إقامة، ووسيلة وليست غاية؛ لكن من خالط قلبه الإيمان كان بخلاف ذلك فيستقل الدنيا ويستضعفها، ويزهد فيها إن لم تكن من طريق حلال، وما عطف على الدينار والدرهم فهم في حكمه كقوله: (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة).

والخميصة والخميلة نوعان من الثياب أي: الذي يرضى بوجودهما ويغضب عند فقدهما.

وقوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: (انتكس)، معناه: رجع على عقبيه، وخُتم له بخاتمة السوء، ومعلوم أن: (العبرة بالخواتم).

ثم بالغ في وصفه فقال- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط)، وزاد دعاءً عليه فقال: (تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش)، ومعنى هذا: دعاء عليه إذا وقع في ورطة لا يخرج منها, أي: دعاء عليه بالبقاء فيها. وعدم الخلاص منها.

وقوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: (وإذا شيك فلا انتقش) معناه: (إذا أصابته مصيبة دنيوية مثل الشوكة مثلاً فلا انتقش، معناه: لا أزيلت عنه ولا أخذت عنه بالمنقاش الذي يزال به الشوك، وقد حذَّر الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – بهذا عن اتباع الدنيا).

5- العبودية التي هي ضد الحرية، وهي محصورة على الجهاد.

وأغفل الفقهاء نوعًا سادسًا من أنواع العبودية العصرية، عبودية الملوك لشعوبهم، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)، (على مقالة فيه) والشعوب للاستهلاك فقط، فغالب الحكام من شعب الله المختار، معصومون.. وأشخاصهم وذواتهم مقدسة، لا ينصحون ولا ينهون ولا يؤمرون، فالشعوب عبيدهم، وهم عبيد للصهيوصليبي، وعبيد للكرسي، وغالبهم لا يصلي حتى إذا صلى فيصلي بجنابة.

11- أوتي جوامع الكلم:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ).[41]

وفي رواية البخاري زاد: (وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي).

ففضَّل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء عليهم السلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ، الكثير المعاني أعطاه مفاتيح الكلام وهو ما يسره له من البلاغة والفصاحة، والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي أغلقت على غيره وتعذرت عليه، قال الهروي: (نعني بجوامع الكلم القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني).[42]

قال الزهري: (جوامع الكلم – فيما بلغنا – أن الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين، ونحو ذلك).[43]

قال ابن رجب الحنبلي: (فجوامع الكلم التي خص بها النبي – صلى الله عليه وسلم – نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله – عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

 

قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًا إلا نهت عنه.[44]

والثاني: ما هو في كلامه – صلى الله عليه وسلم -، وهو موجود منتشر في السنن المأثورة عنه – صلى الله عليه وسلم -).[45]

12- أُوتي مفاتيحَ خزائنِ الأرضِ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي)، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.[46]

(تنتثلونها) قال النووي: (يعني تستخرجون ما فيها، يعني خزائن الأرض، وما فتح الله على المسلمين من الدُّنيا).[47]

قوله: (أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ)، قال النووي: (هذا من أعلام النبوة فإنه إخبار بفتح هذه البلاد لأمته ووقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم ولله الحمد والمنة).[48]

قال الخطابي: (المراد بخزائن الأرض ما فتح على الأمة من الغنائم من ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة)، قال ابن حجر: (قال غيره بل يحمل على أعم من ذلك).[49]

13- أُوتي خواتيم سورة البقرة:

عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي أُوتِيتُهُمَا مِنْ كَنْزٍ مِنْ بَيْتٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلِي)، يَعْنِي: الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.[50]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: (هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ)، فَقَالَ: (هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ)، وَقَالَ: (أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ تُقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ).[51]

قوله: (أَعْطَيْت الْآيَتَيْنِ من آخر سُورَة الْبَقَرَة)، وَهِي الَّتِي أوّلها آمن الرَّسُول.

قوله: (من كنز تَحت الْعَرْش)، يَعْنِي أَنَّهَا ادخرت وكنزت فَلم يؤتها أحد قبله ذكره الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ، وَلذَا قَالَ (لم يُعْطهَا نَبِي قبلي).[52]

فإذا قرأت هاتين الآيتين يؤتيك الله عز وجل أجرًا على كل حرف ويجيبك، ومن فضائل هاتين الآتين ما ثبت عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ).[53]

قال النووي: (كفتاه من قيام الليل، وقيل: من الشيطان، وقيل: من الآفات، ويحتمل من الجميع).[54]

قد يقول قائل: وهل معنى أن الله أعطى نبينا عليه الصلاة والسلام الفاتحة وخواتيم البقرة أنه قد أعطى غيره من الأنبياء شيء من القرآن؟

نقول قد أجاب عن هذا الإشكال ابن الجوزي رحمه الله حيث قال: (قد يشكل هذا الحديث فيقال: كأن سورة البقرة أوتيها نبي قبله، أو: آل عمران، أو: غير ذلك من القرآن، فكيف خصَّ الفاتحة وخواتيم البقرة؟

والجواب: أن المقصود ما فيهما؛ فإن الفاتحة قد علمنا فيها سؤال الصراط المستقيم، وقد وهب لأمتنا فيها ما لم يوهب لمتقدمي الأمم، وسلمت من أوصاف المغضوب عليهم وهم اليهود، والضالين، وهم النصارى. وآمنت بجميع كتب الله ورسوله، ولم تفرِّق بين رسول ورسول كما فرَّقت الأمم قبلها في الإيمان بالرسل، وقالت: (سمعنا وأطعنا)، وقد قال من قبلها: وعصينا، وعفي لها عن الخطأ والنسيان، ولم يحمل عليها إصرًا -وهو الثقل- كما حُمِلَ على من قبلها، ولا مالا طاقة لها به). [55]

14- أُوتي فاتحة الكتاب:

لما تقدم في حديث ابن عباس المذكور آنفًا، وفيه: وَقَالَ: (أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ تُقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ).[56]

وللفاتحة فضائل عظيمة غير التي ذكرت من كونها أحد النورين الذين أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تلك الفضائل:

• أنها أعظم وأفضل سورة في القرآن:

عَنْ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، فَقَالَ: ( أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِى لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ)، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ (لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ)، قَالَ: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ).[57]

• ما أُنزل مثلها في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُبَيٌّ أُمَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ).[58]

• أنها رقية:

عن أبي سعيد الخدري، في قصة اللديغ، وفيها فانطلق يتقل عليه ويقرأ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْه، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِى رَقَى لاَ تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ -ثُمَّ قَالَ- قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا)، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -.[59]

• أنها من أسباب محبة الله للعبد:

عن أبي موسى الأشعري، وفيه: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلَاتِكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا، فَعَلَّمَنَا وَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ: (إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾، فَقُولُوا: آمِينَ، يُحِبُّكُمُ اللَّهُ).[60]

• هذه أصح الرويات التي وردت في فضل سورة الفاتحة، وقد وردت روايات في فضل الفاتحة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، وفيما ذكرنا غُنية عن التطويل، والله الموفق.

15- فُضِّل بالمفصل:

عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ).[61]

قال ابن رجب الحنبلي: (والقرآن: ينقسم إلى: السبع الطوال، وهي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، كذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما، وإلى: المئين وهي ما كان من السور وعدد آياته مائة آية، أو: يزيد، أو ينقص شيئًا، وإلى: المفصل وأوله الحجرات -على الأشهر-، والمثاني وهو ما عدا ذلك).[62]

قال ابن حجر: (والمراد بالمفصل السور التي كثرت فصولها، وهي من الحجرات إلى آخر القرآن على الصحيح).[63]

وقوله: (وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ)، أي: أعطيته فضيلة وزيادة على ما أعطي الأنبياء من قبلي فأفاد أنه أعطي من الوحي مثل ما أعطي كل من الأنبياء الذين ذكرت كتبهم وفضل زيادة على ما أعطوا كما سلف قريبًا، قوله: نافلة وكأن المراد أنها مكانها في الإفادة وغيرها).[64]

16- النصر بالرعب مسيرة شهر:

ففي حديث جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، وفيه: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ).[65]

اختص نبينا صلى الله عليه و سلم، بأن الله عز وجل نصره بالرعب، وهو الفزع والخوف، فكان سبحانه يلقيه في قلوب أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر أو شهرين هابوا وفزعوا منه، فلا يقدمون على لقائه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (فالظاهر اختصاصه به مطلقًا، وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر من ذلك، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي خاصلة لأمته من بعده فيه احتمال).[66]

قال ابن هُبيرة: (أن الله تعالى نصره – صلى الله عليه وسلم – بالرعب، وهو أنه جعل جنده في قلوب أعدائه، وهو الرعب، فخذلهم وهزمهم، وبينه وبينهم مسيرة شهر مسافة، لا يصلها سهم ولا ينالها رمح، ولا يدركها عدو جواد من الخيل، وهي زهاء ثلاثمائة فرسخ، وكان في قوله – صلى الله عليه وسلم – مخبرًا لنا بهذا الحديث أن لله جنودًا منها ما يرى صورته، ومنها ما يرى أثره، ومنه الرعب الذي نصر به نبيه، فأما مسيرة شهر فالذي أراه فيه: أنه لما سخر الله الريح لسليمان فكان غدوها شهر ورواحها شهر، أي مسيرة شهر، إلا أن الرعب الذي يكون مسيرة شهر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفضل؛ لأن مسيرة شهر من بلده إلى وقت الرواح مسيرة شهر عند انتهاء وصولها، وذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان حين يذكره الأعداء يقع رعبه في القلوب في الحال، فحاله أتم، فقد فضلت حاله على سليمان من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وهو أن سليمان كان يصل إلى الأعداء الذين يقاتلهم وقلوبهم لهم، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يصل إلى الأعداء وقد سبقه الرعب فصارت قلوبهم له، فهذا معنى قوله – صلى الله عليه وسلم -: (لم يعطهن أحد قبلي).[67]

17- جعلت له ولأمته الأرض مسجدًا وطهورًا:

ففي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، وفيه: (وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ).[68]

اختلف في بيان ما خصص به على الأمم قبله في ذلك فقيل: إن الأمم الماضية لم تكن الصلاة تباح لهم إلا في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس، وقيل: كانوا لا يصلون إلا فيما تيقنوا طهارته من الأرض وخصصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنت نجاسته حكاهما القاضي عياض.[69]

قال ابن هُبيرة: (يعني أن الله سبحانه أباحه الأرض شرقها وغربها، وأنها جعلت له مسجدًا، وهذا مما يدل على كل عاقل أن الله تعالى علم كثرة أمته، وأنه لا يسعهم مسجد ولا جامع فجعل الأرض لهم كلها مسجدًا، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة في كل موضع من الأرض، ثم لما علم الله عز وجل من حرص أمته على الطهور واهتمامهم بصلواتهم، أباحهم البسيطين، الثرى والماء، لطهورهم، فأوجب عليهم الطهارة بالماء إذا وجدوه، والتراب إذا عدموه).[70]

وقال ابن حجر: (قوله: (وجعلت لي الأرض مسجدًا)، أي: موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة وهو من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك، قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا؛ لأن عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداودي، وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة فأبيح لها في جميع الأرض إلا فيما تيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابي، وهو: أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: (وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم)[71]، وهذا نص في موضع النزاع فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه: (ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه).[72] [73]

18 – أحلَّ له الغنائم:

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).[74]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا؟ وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاَةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَال: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا).[75]

قوله: (رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ): البُضْع: الفرج، والمباضعة: المجامعة.

وَالْبناء بِالْمَرْأَةِ: الدُّخُول بهَا، وأصل ذَلِك أَنهم كَانُوا يبنون بِنَاء لمن أَرَادَ أَن يدْخل بِزَوْجَتِهِ.

قوله (خَلِفَاتٍ)، جمع خلفة: وَهِي النَّاقة الحَامِل، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء المَذْكُورَة جمع الهم، فَإِن الهمَّ إِذا تفرق ضعف فعل الْجَوَارِح، وَإِذا اجْتمع قوي، وَكَانَ من عَادَة الْأُمَم المُتَقَدّمَة أَنهم إِذا غزوا فغنموا نزلت نَار فَأكلت الْغَنَائِم، وَكَأَنَّهُم كَانُوا يحملون بِهَذَا على خلوص النِّيَّة فِي الْغَزَوَات لِئَلَّا يَقع قِتَالهمْ لأجل الْغَنِيمَة، فأبيحت الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة لطفًا بهَا، وَكَأَنَّهَا لما غلب الْإِخْلَاص عَلَيْهَا لم تحتج إِلَى باعث عَلَيْهِ، فَكَانَ الْإِخْلَاص فِي الْجِهَاد أصل قَصدهَا، فَصَارَت الْغَنِيمَة تبعًا).[76]

قوله: (فِيكُمْ غُلُولًا) وَهُوَ الْخِيَانَة فِي الْمغنم.

قال الخطابي: (كان من تقدم على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم[77]، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئًالم يَحِلَّ لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته)، قال ابن حجر: (وقيل المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو: أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلًا).[78]

قال ابن هُبيرة: (هذا يذكره – صلى الله عليه وسلم – مبينًا به فضل أمته، فإنه يعني أن إيمان أمته زاد وصدق إلى أن لا يضره تناول الغنيمة في إخلاصهم في الجهاد، فإن من كان قبلهم إنما كانت الغنائم تأكلها النار؛ من أجل إيمان من تقدم لم يكن في قوة إيمان هذه الأمة؛ إذ الغنائم لا يؤثر تناولها في إخلاصهم في جهادهم وإرادتهم به وجه مولاهم وخالقهم، وكان ذلك لنزول إيمان من تقدم عن درجة إيمان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت تأكلها احتياطًا للغزاة، حينئذ جاهدوا من أجل الغنائم، من أجل الغنائم لأمة محمد يشير أن مقامهم أشرف من أن يكون جهادهم لأجل الغنائم).[79]

19 – الاصطفاء من الغنيمة:

عن يَزِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: كُنَّا بِالْمِرْبَدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَشْعَثُ الرَّأْسِ بِيَدِهِ قِطْعَةُ أَدِيمٍ أَحْمَرَ، فَقُلْنَا: كَأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة؟ فَقَالَ: أَجَلْ، قُلْنَا: نَاوِلْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ الْأَدِيمَ الَّتِي فِي يَدِكَ، فَنَاوَلَنَاهَا، فَقَرَأْنَاهَا، فَإِذَا فِيهَا: (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيَّ، أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، فَقُلْنَا: مَنْ كَتَبَ لَكَ هَذَا الْكِتَابَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[80]

وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ).[81]

الصفية: جمعها صفايا، وهي ما يختاره النبي صلى الله عليه وسلم قبل القسمة من الغنيمة، كسيف ودرع ونحوهما، ومنه صفيّة أمّ المؤمنين الّتي اصطفاها من المغنم لنفسه.

قال الخطابي: (وأما الصفي فهو: ما يصطفيه من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها وكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بذلك مع الخمس الذي له خاصة).[82]

قال ابن عبد البر: (سهم الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم وذلك أنه كان يصطفي من رأس الغنيمة شيئًا واحدًا له عن طيب أنفس أهلها ثم يقسمها بينهم على ما ذكرنا وأمر الصفي مشهور في صحيح الآثار معروف عند أهل العلم ولا يختلف أهل السير أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الصفي).[83]

قال البغوي: (ومن خصائصه أنه كان يسهم له من الغنيمة كسهم رجل ممن شهد الوقعة، سواء حضرها أو غاب عنها).[84]

20- تعرض صلاة أمته عليه:

ففي حديث أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وفيه: (فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ).[85]

هذا الحديث يدلنا على أن صلاتنا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس مختصًا بيوم الجمعة فقط فقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ).[86]

وقال عليه الصلاة والسلام: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ).[87]

أي: بواسطة الملائكة؛ ولكن نصَّ على يوم الجمعة لخصوصيته، فلا ينافي ذلك ما جاء في الأحاديث الأخرى من أن الصلاة تعرض عليه في كل وقت وحين كما جاء ذلك في الأحاديث التي أشرنا إليها.

وهذا الحديث دليل على أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية تختلف عن حياة الدنيا، وتختلف عن الحياة الآخرة بعد البعث والنشور، فلا يقال: إن حياتهم في قبورهم كحياتهم في الدنيا، بل حياتهم في البرزخ تختلف عن حياتهم في الدنيا، وتختلف عن حياتهم بعد البعث والنشور، والمؤمن يصدق بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بكل ما أخبر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم باقون في قبورهم على الهيئة التي وضعوا عليها لا تأكلهم الأرض، بل أجسادهم باقية، وهم أحياء في قبورهم حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء التي قال الله عز وجل فيها: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].

فأخبر عن الشهداء بأنهم أحياء، ورسل الله الكرام هم أكمل حياة من الشهداء، والحياة البرزخية لا يختص بها الأنبياء ولا الشهداء، بل هي ثابتة لكل من يموت، فكل من يموت في نعيم أو: عذاب، فيصل إلى جسده وروحه من النعيم أو: العذاب ما يستحقه، وحتى لو أن الأرض أكلت لحوم البشر من غير الأنبياء فإن العذاب يصل إلى من يستحقه، والنعيم يصل إلى من يستحقه، ولا تلازم بين كون الأرض تأكله وبين كونه لا يصل إليه النعيم أو: العذاب؛ لأن حياة البرزخ من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.

21- أن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ).[88]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي).[89]

وقد اختلف العلماء في معنى قوله: (روضة من رياض الجنة):

القول الأول: أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة؛ لأنه موضع من مواضع الجنة وروضة من رياضها.

والثاني: أن العبادة فيه تؤدي بصاحبها إلى الجنة.

قال ابن بطال: (الروضة فى كلام العرب المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب، وإنما عنى صلى الله عليه وسلم أن ذلك الموضع للمصلي فيه، والذاكر الله عنده والعامل بطاعته كالعامل فى روضة من رياض الجنة، وأن ذلك يقود إلى الجنة).[90]

وقال ابن عبد البر: (في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري ورُوِيَ ما بين قبري[91] ومنبري روضة من رياض الجنة فقال قوم معناه: أن البقعة ترفع يوم القيامة فتجعل روضة في الجنة، وقال آخرون: هذا على المجاز قال أبو عمر-ابن عبد البر- كأنهم يعنون أنه لما كان جلوسه وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والإيمان والدين هناك شبه ذلك الموضع بالروضة لكرم ما يجتنى فيها وأضافها إلى الجنة؛ لأنها تقود إلى الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الجنة تحت ظلال السيوف)، يعني: أنه عمل يوصل به إلى الجنة، وكما يقال: الأم باب من أبواب الجنة يريدون أن برَّها يوصل المسلم إلى الجنة مع أداء فرائضه، وهذا جائز سائغ مستعمل في لسان العرب والله أعلم).[92]

قوله: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي)، أي: ينقل المنبر الذي كان عليه أثناء هذه الكلمة وأثناء هذه المقالة يوم القيامة فينصب على حوضه عليه الصلاة والسلام.

22- بيانه لصفة الدجال لأمته:

قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: (إِنِّي لَأنْذِرِكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِه: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ).[93]

قال ابن حجر: (قيل: إن السر في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال، أن الدجال إنما يخرج في أمته دون غيرها ممن تقدم من الأمم، ودلَّ الخبر على أن علم كونه يختص خروجه بهذه الأمة كان طوي عن غير هذه الأمة كما طوي عن الجميع علم وقت قيام الساعة، قوله: (أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ)، إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية فإذا ادعى الربوبية وهو ناقص الخلقة والإله يتعالى عن النقص علم أنه كاذب، وزاد مسلم في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ للناس وهو يحذرهم: (تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ).[94]

وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب؛ لأن رؤية الله تعالى مقيدة بالموت والدجال يدعي أنه الله ويراه الناس مع ذلك).[95]

قال التوربشتي: (يحتمل أن أحدًا من الأنبياء لم يكاشف أو يخبر بأنه أعور، ويحتمل أنه أخبر، ولم يُقدَّر له أن يخبر عنه كرامة لنبينا – صلى الله تعالى عليه وسلم – حتى يكون هو الذي يبين بهذا الوصف دحوض حجته الداحضة ويبصر بأمره جهال العوام، فضلًا عن ذوي الألباب والأفهام).[96]


[1] تفسير الطبري 3/ 330- 331 .

[2] أحمد 15156، وابن أبي شيبة في مصنفه 6/ 228، قال الحافظ ابن حجر في الفتح رجاله موثقون إلا أن مجالدًا ضعيف، وحسنه الألباني في الإرواء بشواهده 6/ 34.

[3] تفسير ابن كثير 2/ 68.

[4] البخاري 3443، ومسلم 2365.

[5] البخاري 3397.

[6]الإشارة للنبي صلى الله عليه وسلم يراد بها التعظيم كأنه قال: وهذا النبي العظيم، وهذا معلوم من أساليب العرب.

[7] تفسير الطبري 6/ 497 .

[8] إذا في هذه المواضع: فإذا موسى = وإذا رجل = وإذا عيسى = وإذا إبراهيم: للمفاجأة، ولذا قيل:

إذا للمضي وإذا للآتي = وقد تأتي للمفجآة . أفاده شيخنا الحدوشي.

[9] مسلم 172.

[10] مرقاة المفاتيح 9/ 773- 775 .

[11] تفسير ابن كثير 5/ 31 .

[12] البخاري 7.

[13] فتح الباري لابن رجب 2/ 103.

[14] فتح الباري 8/ 671.

[15] جزء من حديث الشفاعة عند البخاري 4712، ومسلم 194، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[16] البخاري 4837.

[17] فتح القدير 5/ 64.

[18] تنبيه: هذا من باب قول أبي سعيد الخزاز: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث القصاص: 84- 85 رقم 58، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية: 11/ 58، والشوكاني في الفوائد: 250، والسخاوي في المقاصد: 188، انظره: في الأسرار 186، وتذكرة الموضوعات: 188، وكشف الخفاء: 1/ 357، وغيرها كثير. أفاده الحدوشي.

[19] البخاري 335، ومسلم 521 .

[20] غاية السُّول في خصائص الرسول 64.

[21] الجامع لأحكام القرآن 2/ 13 .

[22] البخاري 7013، ومسلم 523، واللفظ له.

[23] البخاري 3535.

[24] مسلم 2354.

[25] غاية السُّول 256.

[26] تفسير الألوسي المسمى بروح المعاني 22/ 41.

[27] تفسير ابن كثير 2/ 100.

[28] أبو داود 4252، والترمذي 2219، وقال هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني .

[29] قال أبو الفضل عمر الحدوشي معلقًا:

الله أنْزَلَهُ عَلَى مُخْتَاره
لِيقود جمعَ الناس نحو رحابه
هو معجزٌ بلسانه وبيانه
يا سَعْدَ من قد سار تحت ركابه

[30] عبد الرزاق في تفسيره 2/ 345.

[31] البخاري 4981.

[32] فتح الباري 8/ 623.

[33] أعلام النبوة 57- 58.

[34] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 519- 520.

[35] البخاري 7274، ومسلم 152.

[36] تفسير ابن كثير 4/ 542.

[37] من الجامع لأحكام القرآن 19 / 237.

[38] مجموع الفتاوى 1 / 290.

[39] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 10 / 797.

[40] بداية السُّول في تفضيل الرسول 22.

[41] البخاري 7013، ومسلم 523، واللفظ له.

[42] غاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن 73.

[43] البخاري تعليقًا عقب حديث 7013.

[44] البيهقي في شعب الإيمان 140.

[45] جامع العلوم والحكم 1/ 50.

[46] البخاري 2977.

[47] شرح النووي لمسلم 5/ 5.

[48] شرح مسلم للنووي 5/ 5.

[49] فتح الباري 12/ 424.

[50] أحمد 21343، وصححه الألبانيُّ في سلسة الأحاديث الصحيحة 3/ 471 وقال: صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ.

[51] مسلم 806.

[52] التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 172.

[53] البخاري 5008، مسلم 807.

[54] شرح مسلم للنووي 6 / 92.

[55] كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/ 456.

[56] مسلم 806.

[57] البخاري 4474، وأبو داود 1458.

[58] صحيح: الترمذي 2878، وقال حديث حسن صحيح، وأحمد 9334، وصححه الألباني في المشكاة 2142.

[59] البخاري 2276، ومسلم 2201، ونحوه من حديث ابن عباس عند البخاري 5737.

[60] مسلم 404، وأبوداود 972، واللفظ له.

[61] أحمد 16982، قال الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة 3/ 469: صحيح بمجموع طرقه، وحسن إسناده محققو المسند.

[62] فتح الباري لابن رجب 7/ 67.

[63] فتح الباري 9/ 84.

[64] التنوير شرح الجامع الصغير 2/ 487.

[65] البخاري 335، ومسلم 521.

[66] فتح الباري 1/ 437.

[67] الإفصاح عن معاني الصحاح 8/ 311- 312.

[68] البخاري 335، ومسلم 521.

[69] طرح التثريب في شرح التقريب 2/ 106.

[70] الإفصاح في معاني الصحاح 8/ 312.

[71] أحمد 7068، وحسنه محققو المسند، بلفظ: وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ.

[72] البزار 4776، بلفظ: وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرَابَهُ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8/ 463: رواه البزار وفيه من لم أعرفهم.

[73] فتح الباري 1/ 437- 438.

[74] البخاري 335، ومسلم 521.

[75] البخاري 3124.

[76] كشف المشكل من حديث الصحيحين 3/ 494.

[77] قال أبو الفضل عمر الحدوشي: وهذا الذي ذهب إليه الخطابي يحتاج إلى دليل على ما ادعى؛ لأن الجهاد شريعة كل الأنبياء وهي شريعة معرفة بين التوراة والقرآن، أما القرآن فنصوصه كثيرة لا تخفى على مسلم، وأما التوراة فنصوصها كثيرة أيضًا هذه بعضها: تقول التوراة في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح العشرين تحت عنوان شرائع حصار وفتح المدن البعيدة.

وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولًا. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدًا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا. انتهى.

أما مدن الشعوب التي يهبها الرب إلهكم لكم ميراثا، فلا تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثِّيِّين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمركم الرب إلهكم، لكي لا يعلِّموكم رجاستهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الرب إلهكم

انظر: الكتاب المقدس التوراة سفر التثنية: الأصحاح العشرين: 10-18 صـ392،393.

[78] نقلًا من فتح الباري لابن حجر 1/ 438 . انتهى من كتاب ذاكرة سجين مكافح: 5/ 107.

[79] الإفصاح عن معاني الصحاح 8/ 312.

[80] أبو داود 2999، والسنن الكبرى للبيهقي 13368، قال الألباني صحيح الإسناد.

[81] أبو داود 2994، وابن حبان 4822، وصححه الألباني.

[82] معالم السنن 3/ 29.

[83] التمهيد 20/ 43.

[84] شرح السنة 11/ 137.

[85] أبو داود 1047، والنسائي 1374، وأحمد 16162، وصححه الألباني.

[86] النسائي 1282، والحاكم في المستدرك 3576، وصححه، وكذا الألباني.

[87] أبو داود 2042، وأحمد 8804، وصححه الألباني.

[88] البخاري 1195.

[89] البخاري 1196.

[90] شرح البخاري لابن بطال 3/ 184.

[91] الروايات التي ذكر فيها قبري بدل بيتي خطأ كما قال ابن عبد البر في التمهيد 17/ 181: وهذا أيضًا إسناد خطأ لم يتابع عليه ولا أصل له، وكذا ابن حجر في الفتح 4/ 100: ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري بدل بيتي، وهو خطأ، وهذا حال غالب من يروي الأحاديث بالمعنى، أنه يقع في تغيير بعض الألفاظ التي قد تغير الحكم، لذا منع بعض العلماء الرواية بالمعنى لغير العالم باللغة والأحكام وما تحيله إليه من معاني.

[92] التمهيد 2/ 287.

[93] البخاري 3337، ومسلم 169، ومن أراد أن يتوسع في مسألة الدجال ومعرفة الأحاديث الواردة فيه، فليراجع كتاب: قصة المسيح الدجال للألباني.

[94] مسلم 169 .

[95] فتح الباري 13/ 96.

[96] مرقاة المفاتيح 8/ 487.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/89646/#ixzz647o4OdvG