تدّبر عالمًا بلا دينٍ ولا إيمانٍ بالخالق.

تدّبر عالمًا بلا بعثٍ ولا حساب!

إذا لم تكن حياة بعد الموت فكل هذا الجمال في الحقول والأمواج والأزهار هو رعب. -1-

إن الرؤية الإلحادية تُفقد العالم المعنى وتُبدد الجمال وتقتل القيمة وتُحول أروع الأشياء إلى رعب.

الرؤية الإلحادية تجعل كل الوجود بلا لزوم.

وتجعل كل الغايات الجميلة سخف وهراء!

وتتحول أجمل الأحلام الفردوسية إلى كابوس مرعب.

ويصبح الوجود كله بلا معنىً.

يُعبر عن هذه الحقيقة المزعجة الملحد الوجودي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre في روايته غثيان كالتالي: ” لا داعي للوجود على الإطلاق وليس للحياة معنىً، فأنا قد ظهرت صدفةً كجرثومةٍ لم يكن لي أن أوجد على الإطلاق.” -2-

وهكذا يرسم سارتر بريشة الإلحاد معنى الوجود!

 

فنحن شيء عرضي تافه في هذا الكون مثل ذبابة مايو mayflies التي تظهر وتختفي في طي النسيان؛ كما يصفنا داعية المذهب المادي الكاتب شيت رايمو  Chet Raymo. -3-

 

وكل أهدافنا التي نتصور أنها أهدافًا سامية، هي مجرد وهم؛ كما يقول الملحد الشهير ريتشارد داوكينز Richard Dawkins. -4-

 

أما الرؤية الإيمانية فهي على المقابل من ذلك تمامًا تجعل العالم مفهوم والحكمة مدركة والبلاء مقبول والكد مجبور.

{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} ﴿٦﴾ سورة الإنشقاق.

 

فالإحالة إلى الإيمان هي شرط فكري وعقلي لاستيعاب المعنى والغاية ومبررها المعطى المادي نفسه.

الإحالة إلى الإيمان مبررها ظاهرة “الإنسان”.

ذلك الكائن الذي لا يمكن استيعابه في إطار المادة ولا الحتميات الصارمة التي تحكمها!

ذلك الكائن الذي أقدامه مغروسة في الوحل، بينما يتطلع إلى السماء.

 

ومن أجل ذلك يصبح الانتقال من عالم الحس –العالم المادي- إلى عالم المُثُل –العالم الإيماني الغيبي- هو مقصد الوعي الإنساني في حال أراد استيعاب ذاته، ولذا فقد ارتسمت صورة المفكر في كل الحضارات بالشخص المنعزل عن المجتمع المادي، لأنه مشغولٌ بالكليات.

 

وقد كانت وما زالت المعرفة الماورائية عند المفكرين أعلى المعارف وأشرفها، لأنها النوع الوحيد المنوط بتفسير القضايا الكلية والوجودية والأسئلة الكبرى، فنجد ديكارت مثلاً يقول: “الفكر الإنساني شجرة جذورها الماوراء وجذعها الفيزياء وأغصانها بقية العلوم.”-5-

فأصل الإحالة إلى الإيمان هو أصل عقلي، هدفه الأسمى بحث الوجود الحق –الغيب-.

 

إن الحقيقة التي يُسلِّم بها البشر الآن أنه: لا حقيقة في الخارج المادي المستقل، ولا يمكن ضبط الحقيقة بدون دين واستقاء من الما وراء، ولا يمكن التأسيس للحقيقة أو ضبط المعرفة أو تقييم المعنى بلا دين.

 

فأنت بلا دين تتحول إلى كتلة خلايا ترتطم على جدرانها أيونات صوديوم وبوتاسيوم.

وتصبح نمط مادي من حساء سيتوبلازمي Cytoplasm زلالي بلا حدود ولا إطار.

فما الإنسان إلا كمبيوتر من اللحم، كما يقول شيت رايمو –سابق الذكر-. -6-

بل ويَعتبِر رايمو هذه القضية –كون الإنسان مجرد كمبيوتر من اللحم- على أنها أقرب إلى البديهة لدى الملاحدة almost a truism. -7-

 

وفي هذا الإطار يصبح من العسير الدفاع عنك.

ويصبح كل خطأ صواب، وكل صواب خطأ؛ فلا معنى لا للخطأ ولا للصواب.

يقول الملحد ريتشارد داوكينز مُلخصًا الوضع: “الكون في حقيقته بلا تصميم، بلا غاية، بلا شر ولا خير، لا شيء سوى قسوة عمياء لا مبالية.” -8-

وداخل هذه الصورة التفكيكية المرعبة يصبح قتل البشر مباحًا. ويصبح فعل كل الجرائم شيئًا محايدًا!

ويصبح إعلان الملحد داوكينز عن أن : “قتل الأجنة عمل محايد.” أمرًا متوقعًا -9-.

فالجنين طبقًا لداوكينز كتلة من الخلايا بلا قيمة

وتتطور رؤية داوكينز أكثر نحو استيعاب الإلحاد فيقرر أن: “أكل لحوم البشر لا مانع منه بشرط أن يكونوا من الأعداء لا الأصدقاء”. -10-
ويظهر زميل داوكينز ورفيق كهنوته الملحد سام هاريس Sam Harris الذي يتطور أكثر وأكثر في ابتلاع الإلحاد فيقرر أنه : “لا مانع من قتل الأصدقاء والأعداء طالما يحلمون أفكارًا مخالفة”. -11-

ولا مانع من إبادة المسلمين بقنبلةٍ نووية تستأصل شافتهم إلى الأبد –كما يقول المجرم بالحرف-. -12-

هذا هو الإفراز الإلحادي المتوقع!

هؤلاء هم أعمدة الإلحاد في العالم.
الحمد لله على نعمة الإسلام!

كفانا الله شرّهم!

 

وهكذا داخل الإلحاد يصبح الإنسان ممزقًا في عالمٍ لن يصبو فيه إلى الحقيقة يومًا ما!

ولن يدرك الإنسان حقيقة وجوده إلا داخل رحابة الإيمان.

ففي داخل الإيمان يستطيع أن يستوعب الحس الأخلاقي والحس الجمالي والحس الفطري والحس الوجداني والحس القيمي والحس الديني، ويقبل بالتسليم لمعطيات المعنى والقيمة وهكذا فحسب يعود الإنسان إنسانًا مرةً أخرى كما بدأ رحلة صراعه الأولى مع طموحه البروميثيوسي Prometheus  -التمرد على الخالق- وتطلعه لتحديد قدَره بيده هو لا بيد خالقه.

 

إن هذه الملحمة الكبرى –ملحمة البحث الإلحادي عن الغاية في إطار المادة- تُذكرنا بالقصة القديمة لذلك الرحالة الذي رأى رؤيا أنه سيجد كنزًا عظيمًا يومًا ما تحت الأرض!

وظل الرجل يجوب البلاد ويقطع الوديان ويخرق الفجاج باحثًا عن كنزه، وبعد أن مضت السنوات عابثًا في سعيه وبعد أن أرهقته الأيام عاد إلى بيته منكسرًا مهمومًا حزينًا يصارع العبثية والشؤم والحسرة، والضياع واللامعنى واللاغاية!

وبينما هو كذلك إذ سقط القدح من يده على الأرض فأحدث رنًةً عظيمة!

فحفر بيده ليجد كنوزًا لا أول لها في قعر بيته.

لقد كان الكنز الذي يبحث عنه!

إن الكنز الذي يبحث عنه الإنسان لا يوجد في الخارج المادي، ففي العالم المادي لن يجد إلا ما هو مادي، لن يجد إلا غذاء جسده، أما غذاء روحه فليس من هذا العالم!

ولن يصبح الإنسان إنسانًا ولن يؤسس لقيمته ومبادئه وأخلاقياته إلا في ظلال القيمة والمعنى والتي لا تمت إلى هذا العالم بصلةٍ!

 

إن المعنى يوجد داخلك أنت. في فطرتك، وصبغتك التي صبغك الله عليها!

{صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة } ﴿١٣٨﴾ سورة البقرة.

 

إننا لو كنّا أبناء هذا العالم الخُلص، لما شعرنا بالمعاناة ولا الاغتراب ولا بحثنا عن القيمة ولا كان لهذه الكلمات معنىً.

 

في رواية البؤساء لفيكتور هوجو Victor Hugo يتوقف الزمان عند تلك اللحظة التي يلقي فيها الضابط جافير Javert بنفسه في نهر السين حين أطلقه الجاني جان فالجان Jean Valjean بعد أن قَدر عليه.

إن قرار الضابط هو نتيجة صراع نفسي لا يُحتمل، فلم يكن يصدق أن هذا المجرم أكثر عاطفةً وحنانًا منه، وأنه يقدر على العفو ويحب العفو ويعفو!

هذا الصراع النفسي الذي دار داخل نفس الضابط لا معنى له إذا لم يكن لنا روح!

إننا لو كنّا أبناء هذا العالم لما بدا فيه شيء نجس أو طاهر، إن وجودنا يستمد معناه من عالمٍ آخر.

 

إننا نوقن وندرك أننا دخلنا هذا العالم برأس مال قيمي معرفي أخلاقي مبدئي هائل.

وليس في هذا العالم ما يحلل شيئًا من ذلك، ولا يبرر شيئًا من ذلك!

إننا أبناء عالمٍ آخر نقتبس منه المعنى والقيمة والهدف والغاية، ونرد إليه مطلقاتنا التي نؤمن بها ولا نجد لها صدىً في عالمنا الخارجي!

 

إن الصراع الأزلي بين الضمير والمصلحة، هذا الصراع لا يوجد في هذا العالم المادي ما يبرره، فلا يعرف العالم المادي الخارجي سوى المصلحة، أما الضمير فهو خاصية محايثة –مرتبطة- للإنسان، كما أن القيمة خاصية حصرية للروح، إن معنى الإنسان الحقيقي لا معنى له إلا بمقدمةٍ سماوية؛ هذا هو التنظير الأخير لظاهرة وجودنا، إن الإحالة إلى الإيمان هي مصدر اقتباس وتحليل وتعريف وتفسير الوجود الإنساني كله.

فإما الإيمان أو الفوضى… ولا يوجد بديل ثالث!

 

 

——————————

1- من رواية ريش الحمام pigeon feathers.

2- جان بول سارتر، الغثيان.

Jean-Paul Sartre, Nausea (novel).

3- We are small, contingent parts of something that existed long before we appeared on the scene. . . . We are as incidental to the cosmos as are ephemeral mayflies to the planet Earth. At first glance, this was shattering news. Indeed, the majority of us have not yet come to terms with it. . . . Our lives are brief, our fate is oblivion

  • Raymo, Chet. 1998. Skeptics and True Believers. New York, NY: Walker, p.222.

4- “”has shown higher purpose to be an illusion”

A Scientist’s Case Against God,”

5- Descartes, principes de la philosophie, p.266

-اقتباسًا من” في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، د. الطيب بوعزة، ص78″.-

6- merely a computer made of meat

  • Raymo, Chet. 1998. Skeptics and True Believers. New York, NY: Walker, p.187-188.

7- المصدر السابق ص 192.

8- The universe we observe has precisely the properties we should expect if there is, at bottom no design, no purpose, no evil and no good, nothing but blind, pitiless indifference.

River out of Eden, p.131-132

9- The god delusion, p.297, 298

10- Selfish Gene, p. 83

11- Some propositions are so dangerous that it may even be ethical to kill people for believing them.

The End of Faith, p.52

12- Harris, S. (2006) the End of Faith, the Free Press, P.129