الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد انتشر في عصرنا مرضُ الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهلُ بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصَّل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل صحيح، وادعاءاتٌ بلا مستند راجح، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد؛ شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبَههم.

وقد تلقَّف الملاحدةُ – هداهم الله – قولَ بعض العلماء: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم وُلِد مختونًا، ثم بنَوْا عليه مزاعم باطلة، يَعِفُّ القلم عن كتابتها، واللسان عن ذكرها، وذكر أحدهم وجود قولين للعلماء في مسألة ختان النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قولٌ: أنه وُلِد مختونًا، وقولٌ: أنَّ جَدَّه ختَنه، وقال بوجود روايات كثيرة تدل على أنه ولد مختونًا، وادعى أن الذي يولد مختونًا يكون عنده مشكلة في القضيب، ويكون عنده عقم وضعف جنسي، وزعم بعض الملاحدة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا بالمبال التحتاني؛ لأنه – على حد زعمه – وُلد مختونًا، وانبهر بكلام هذا الملحد بعض زملائه من الملاحدة، بل بعض المسلمين غير الملمين بالعلم الشرعي أصيبوا بالحيرة؛ فكان لزامًا علينا أن نَذُبَّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما زعمه عنه الملحدون.

مسألة ختان النَّبي صلى الله عليه وسلم:

ليعلم القارئ الكريم أن علماء المسلمين اختلفوا في مسألة ختان النَّبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه وُلِد مختونًا[1] مسرورًا [2]، وروي في ذلك حديث لا يصح[3]، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في “الموضوعات”، وليس فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصِّه؛ فإن كثيرًا من الناس يولَد مختونًا… والناس يقولون لمن ولد كذلك: ختنه القمر، وهذا من خرافاتهم[4].

القول الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم خُتِن يوم شَقَّ قلبَه الملائكةُ عند ظِئْره[5] حليمةَ.

القول الثالث: أن جَدَّه عبدالمطلب خَتَنه يوم سابعه، وصنَع له مأدُبة، وسمَّاه محمَّدًا.

قال أبو عمر بن عبدالبر: وفي هذا الباب حديث مسنَد غريب، حدثناه أحمد بن محمَّد بن أحمد، حدثنا محمَّد بن عيسى، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا محمَّد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبدالمطلب خَتَن النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدُبة، وسماه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم[6]، قال يحيى بن أيوب: طلبتُ هذا الحديث فلم أجده عند أحدٍ من أهل الحديث ممن لقيتُه، إلا عند ابن أبي السري.

وقد وقعت هذه المسألة[7] بين رجلين فاضلين، صنَّف أحدهما مصنَّفًا في أنه وُلد مختونًا، وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام، وهو كمال الدين بن طلحة، فنقضه عليه كمال الدين بن العديم، وبيَّن فيه أنه صلى الله عليه وسلم خُتِن على عادة العرب، وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنيًا عن نقل معين فيها، والله أعلم[8].

ترجيح القول بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يولد مختونًا:

والراجح من أقوال أهل العلم حول مسألة ختان النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يولد مختونًا، وأنه خُتن على عادة العرب، لِما يلي:

أولًا: القول بأنه ولد مختونًا خلاف العادة، ولا يُقبَل ما هو خلاف العادة إلا بدليل صحيح صريح خالٍ من معارض معتبر، ولا يوجد حديث صحيح صريح خالٍ من معارض معتبر يدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وُلد مختونًا، فتعيَّن أنه لم يولد مختونًا، بل خَتَنه جَدُّه على عادة العرب، وعموم هذه السنة للعرب يُغني عن نقل معين فيها [9].

ثانيًا: لو وُلد النَّبي صلى الله عليه وسلم مختونًا، لنُقِل ذلك نقلًا مستفيضًا؛ لأنه مما تتوافر الهِمَم والدواعي على نقله؛ فهو خلاف العادة، ولما لم يُنقَل ذلك نقلًا صحيحًا، عُلِم أن ذلك لم يحدُثْ.

ثالثًا: من النقائص عند العرب أن يولد الإنسان مختونًا، والأنبياء والرسل سلَّمهم الله من كل نقص في الخِلقة أو الخُلُق؛ فتعيَّن أنه لم يولد مختونًا.

رابعًا: لو كان القول بأنه وُلد مختونًا قولًا صحيحًا معروفًا، لعايره أعداؤه، وهجَوْه بذلك؛ فمن النقائص عند العرب أن يولد الإنسان مختونًا، وأعداؤه كانوا يبذلون كل جهودهم في صد الناس عن دعوته.

خامسًا: الختان من الكلمات التي ابتَلَى الله بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فأتمهن وأكملهن، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، وقد عدَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة[10]، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر مما يُضاعف ثواب المُبتلى به وأجره، والأليق بحال النَّبي صلى الله عليه وسلم ألا يُسلَب هذه الفضيلة، وأن يكرمَه الله بها، كما أكرم خليله؛ فإن خصائصه أعظمُ مِن خصائص غيره من النَّبيين وأعلى[11].

على التسليم الجدلي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وُلِد مختونًا:

على التسليم الجدلي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وُلد مختونًا؛ أي: وُلِد بلا قلفة، فانعدام القلفة أو غياب القلفة Aposthia لا يُفقِد الخصوبة والقدرة على الإنجاب[12]، وانعدام القلفة شيء، والمبال التحتاني[13] Hypsospadias شيء آخر، وحتى مرض المبال التحتاني عادة لا يفقد الرجلَ خصوبته وقدرتَه على الإنجاب[14]، وبالتالي الزعم أن المريض بالمبال التحتاني يكون عنده عُقْم وضعف جنسي زعمٌ باطل.

ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم عقيمًا؛ بدليل أن القرآن الكريم صرَّح بأن للنبي صلى الله عليه وسلم بناتٍ؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 59]، وقوله تعالى: ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ [الأحزاب: 59] يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أكثرَ مِن بنت، ولو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بنات فكيف يقول تعالى له: ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ [الأحزاب: 59]؟! ولو كان للنبي بنت واحدة لم يخاطبه بالجمع بقوله تعالى: ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ [الأحزاب: 59].

ومن المعروف والمشهور عند علماء الإسلام: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان له أولاد[15]، وعلماء الإسلام أدرى بنبيِّهم من غيرهم، ومن المعروف عند العقلاء: أن الرجوع في كل مجال وكل فن من الفنون يكون إلى أهل هذا المجال وأهل هذا الفن، وأن المتخصص في علم من العلوم أدرى به من غيره، وأن صاحب الدار أدرى بما فيها، وأن مَن تكلم في غير فنِّه أتى بالعجائب؛ ولذلك إنِ اختُلف في مسألة طبية فإنه يُرجَع فيها إلى أهل الطب، وإنِ اختُلف في مسألة هندسية يُرجَع فيها إلى أهل الهندسة، وإنِ اختُلف في مسألة نَحْوية يُرجَع فيها إلى أهل النَّحْو، وإنِ اختُلف في مسألة دينية فإنه يُرجَع فيها إلى أهل العلم بالدِّين.

حديث من السنَّة يبطل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا بالمبال التحتاني:

ومن السنَّة وجدت حديثًا يكذِّبُ ما قاله الملاحدة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن أنه كان مريضًا بالمبال التحتاني؛ فعن حذيفةَ قال: كنت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فانتهى إلى سُباطةِ قوم، فبال قائمًا، فتنحَّيْتُ، فقال: ((ادْنُهْ))، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه[16]، والشاهد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم رآه حذيفة رضي الله عنه وهو يتبوَّل واقفًا، ومريض المبال التحتاني يتبول جالسًا، ولا يتبول واقفًا، وإلا ستتلوَّث ملابسه وأقدامه بالبول.

وقد سُئلت منذ أكثر من عشر سنوات: ما الحكمة في أن يرى شخصٌ النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يتبول واقفًا؟ فقلت: لرفع الحرج عمن يتبول قائمًا، بشرط أن يأمن نظر الناس إليه، ويأمن أن يصيبه شيء من رشاش بوله، ثم بدا لي أن فِعله صلى الله عليه وسلم مِن حِكَمِه أيضًا: أن فيه ردًّا مفحِمًا على مَن يدعي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا بالمبال التحتاني.

ولا يلزم مِن قول حذيفة رضي الله عنه: أنه اطلع على فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم بتفاصيله؛ فإنه كان متنحيًا عنه، ودنا منه عندما انتهى من فعله، وفي عصرنا الحالي مراحيض معدَّة للتبول واقفًا، يتبول الشخص قائمًا، ولا يرى مَن بجانبه تفاصيلَ فعله.

تعدُّد زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم يكذب دعوى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مصابًا بالعجز الجنسي:

أيها الإخوة، إن تعدُّد زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ على فحولته، وكذبِ مَن يفتري عليه أنه عاجز جنسيًّا؛ فهل الرجل العاجز جنسيًّا يتزوج بأكثرَ من امرأة ثم لا تطلب امرأة منهن الطلاق ولا تذكر عنه امرأة مثل هذا الأمر؟! ولو كان النَّبي صلى الله عليه وسلم عاجزًا جنسيًّا – كما يقول المبطِلون – لَمَا أقدم على الزواج بأكثرَ من امرأة؛ ولذلك كان مِن حِكَمِ تعدُّد زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم الردُّ على جهَّال العصر، الذين يتهمون النَّبي صلى الله عليه وسلم بالعجز الجنسي.

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات!

——————————————————————————–

[1] مختونًا: أي لا قَلفَةَ له، أو مقطوع القلفة.

[2] مسرورًا: أي مقطوعَ حبلِ السُّرة.

[3] قال ابن رجب: قد رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونًا مسرورًا، ولم يجترئ أبو عبدالله – أي أحمد بن حنبل – على تصحيح هذا الحديث؛ (لطائف المعارف لابن رجب ص 93).

[4] قال الحاكم في المستدرك: تواترت الأخبار أنه – عليه السلام – وُلد مختونًا، انتهى، وتعقبه الحافظ الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك! فكيف يكون متواترًا؟! وأجيب باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السير – مع أنها ضعيفة – لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث؛ (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني 1/ 81)، وقال ابن الجزري منتقدًا كلام الحاكم: أما كونه صلى الله عليه وسلم ولد مختونًا مسرورًا، فالخلاف فيه مشهور بين العلماء؛ (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 185).

[5] ظِئْره: أي مرضعته.

[6] قال ابن العديم: وقد جاء في بعض الروايات أن جَدَّه عبدالمطلب ختَنه في اليوم السابع، قال: وهو على ما فيه أشبه بالصواب، وأقرب إلى الواقع؛ (زاد المعاد لابن القيم 1/ 206).

[7] هذه المسألة؛ أي: مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم.

[8] زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1/ 81، وانظر: تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 201 – 207، ومعارف الإنعام لابن عبدالهادي ص 226.

[9] – الأصل أن العاداتِ لا تحتاج إلى إثبات، أما نفيُها فهو الذي يحتاج إلى إثبات؛ لأن نفي العادة المستقرة مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله.

[10] عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفطرة خمس – أو خمس من الفطرة -: الخِتان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونَتْف الإِبْط، وقص الشارب))؛ رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 5889، ورواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 257.

[11] تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 205 – 206.

[12] غياب الجلد الذي يغطي مقدمة القضيب لا يمنع من الجماع، ولا يمنع من قذف السائل المنوي في المهبل أثناء الجماع؛ أي: لا يمنع من إيصال السائل المنوي إلى المهبل أثناء الجماع، وبالتالي لا يفقد الرجل خصوبته وقدرته على الإنجاب.

[13] المبال التحتاني أو الإحليل التحتي: هو تشوُّه خَلْقي في مجرى البول، وقد يترافق معه انحناء القضيب chordee، وتشوه القلفة حسب شدة الحالة، وينتهي مجرى البول meatus في مكان ما على طول الجانب السفلي من القضيب (تحتاني = تحت) بدلًا من طرَفه، بمعنى أن فتحة خروج البول أسفل المكان الطبيعي في نهاية القضيب.

[14] إذا كان الانتصاب جيدًا، وإذا كانت فتحة مجرى البول واسعة بدرجة كافية، فلا يوجد ما يمنع الجماع، أو ما يمنع مِن قذف السائل المنوي في المهبل أثناء الجماع، وإن كان يؤثر على الإطلاق الأمثل للحيوانات المنوية في المهبل، لكن لا يمنع من الإنجاب.

[15] انظر السيرة لابن إسحاق ص 245، والطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 4، والمعجم الكبير للطبراني 22/ 444، والسيرة النبوية لابن حبان 1/ 62.

[16] رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 273، ورواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 224.