قال المسيح – عليه السلام – في أحد (الأناجيل) المعترَف بها كنسيًّا[1]:

“إنَّ لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتمِلوا الآن، وأمَّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدُكم إلى جميع الحق؛ لأنَّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمورٍ آتية، ذاك يمجدني؛ لأنَّه يأخذ مما لي ويخبركم، كل ما للأب هو لي، لهذا قلت إنَّه يأخُذ مما لي ويُخبركم، بعد قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضًا تروْنَني؛ لأني ذاهب إلى الأب” … فقالوا: “ما هو هذا القليل الذي يقول عنه؟ لسنا نعلم بماذا يتكلم”.

 

من كتاب “العهد الجديد” المسمى بالإنجيل (يوحنا[2] 16 : 12 – 16 – 18).

بدوْرِنا نحن الآن نقوم بالبحْثِ عمَّا هو هذا القليل الَّذي تساءل عنْه تلاميذ المسيح حينئذٍ، ومن خلال كلماتٍ من وسط هذه الكلِمات التي قالها المسيح – عليه السلام – نستنتج ما هو هذا القليل الذي أخبر عنه ولم يبيِّنه، ونستنتج أيضًا، هل الذي صُلب هو حقًّا المسيح – عليه السلام – أو آخر؟ كلُّ ذلك بأدلَّةٍ علميَّةٍ سوْف يَستبين، فقط من خِلال كلِماتٍ من “الكتاب المقدس”[3] العهد الجديد، مرفقة بتجارِبَ علميَّةٍ؛ دليلاً عليها، والله الموفق.

ألَم يكُن يسوع المسيح هو الذى على الصَّليب؟

“بلى”، هكذا يجيب كل نصراني مؤمن بعقيدته إذا ما سُئِل من نصرانيٍّ آخَر.

ولكن بهذا لا يوحي الإنجيل قطُّ؛ بل إنَّه ينصُّ بإيحاءٍ على عكْس ذلك، فمَن لديْه أُذُنان للسَّمع فليسْمع.

أيُّها السَّادة:

فلتتخيَّلوا أنفُسَكم أمام المسيح – عليْه السلام – كتلاميذه، واسمعوا واعقلوا ما قال.

يقول المسيح – عليه السلام -: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني، ثم بعد قليل أيضًا ترونني”؛ (يوحنا 16 : 16).

كان هذا الكلام قبل سويْعات من اندِلاع حادثة الصَّلب الشَّهيرة، وتنفيذها؛ أي: قُبَيْلَها مباشرة، في مدَّةٍ لا تتعدَّى السَّاعاتِ القلائلَ؛ ولكي نعي المقصِدَ الحقيقيَّ لِهذِه المقولة، والتي سنسْتَنتج منها لاحقًا حقيقة مَن هو الشَّخص المصْلوب، لن يكون أمامَنا سوى العلم سبيلاً للتوصُّل إلى معاني تلك الكلمات، التي قالها المسيح – عليه السلام – في (يوحنا 16 : 16) “بعد قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضًا تروْنني”.

إنَّ حصَّتنا اليوم هي حصَّة لغة وعلوم؛ لكنَّنا سنبدأ بالجانِب العلمي في معاني هذه الكلمات، حيثُ إن حساسية الجانب اللغوي يُمكِن تفنيدُه من البعض، بأنْ ليست هذه الكلِمات التي بين أيدينا الآنَ – وهي بالعربيَّة – هي الأصل، ولكنَّها عبارة عن ترجمة عن عدَّة ترْجَمات ربَّما من اللغة الأمِّ للكتاب المقدَّس، أيًّا كانت، آرامية أو عبرية أو يونانية[4]، يتْلُونها في صلواتهم، فكلِمات الإنجيل والصلوات صارت عربيَّة، وبهذا يُعتقد أنَّها وُثقت وصَدقت على صلاحية هذه الكلمات والنصوص العربيَّة أو المعرَّبة، للعبادة النصرانيَّة العربيَّة.

لكن ورغْم كلِّ هذا، سنجْعل هذا الجانِبَ اللُّغَويَّ في بَحْثِنا الَّذي بين أيدينا مهْملاً أو يكاد، إلى حينٍ، فلربَّما نرجِع إليْه لاحقًا بعد التفرُّغ من إيضاح هذه الكلِمات، بالأسلوب العلمي – التَّجريبي – وما ترمي إليْه في هذا الجانب.

قال المسيح – عليه السلام – في سياقٍ مما قال: “بعد قليلٍ لا تبصرونني” ولعلَّنا نتساءل الآن: ما هو الإبصار؟ نستطيع أن نُجيب بتعريفٍ مقتضب مختصر بشكلٍ عِلْمي عمومي لا يخفى على أحدٍ، بأنَّ الإبصار هو: “انعِكاس الضَّوء من المادَّة على العَين السَّليمة المجرَّدة النَّاظرة فتُبصر” كما في الشَّكل(1)

وفي هذا الشَّكل نجد تصوُّرًا تجريبيًّا لِما ذكرْناه من تعريف، فالكُرة موجودة وقدِ انعكستْ صورتُها في وجود الضَّوء على العَين المجرَّدة السَّليمة الموجودة في مجال إمكان إبْصار الكُرة، ومن ذلك الانعِكاس أمكن للعَين أن تبصر الكرة، وهذا هو الإبصار.
وعند التوسُّع في العمل التَّجريبي لديْنا الآن، نُقدم لعمل ذات التَّجربة بإضافة أدواتٍ جديدةٍ، كما في الشَّكل(2)
وفي هذا الشَّكل نرى الكُرة المنظورة هنا ليستْ حقيقيَّة، وإنَّما هي صورة منعكِسة على مرآة من المادَّة الحقيقيَّة (الكرة الحقيقيَّة)، وبالتَّالي فإنَّ العين هنا لا تُبْصِر الكرة! وإنَّما هي تبصر صورتَها وذلك بسببِ أنَّها لم تَنظُر للكُرة الحقيقيَّة، وإنَّما هي تنظر لانعِكاس صورتِها على سطح المرآة، وبالتَّالي فإنَّ الصورة الموجودة في المرآةِ غير حقيقيَّة، وبهذا تكون الكرة الحقيقيَّةِ غير مُبصَرة.

ولو طبَّقنا هذا الكلام العلمي المثْبَت بتجارب على كلِمات المسيح – عليْه السلام – التي ذُكرت في (يوحنا 16 : 16) حيث قال: “بعد قليل لا تُبصرونني” نَجد التَّطبيق في هذا الشَّكل، المُتصور أمامنا في الرَّسم التالي رقم(3).

وذلك مع تبديلِ الأدَوات بتصوُّر بسيطٍ للأشْخاص في الموْقِف الحقيقي، فالعين المجرَّدة في التَّجربة يكون نظيرها في الواقع جَمعًا من التَّلاميذ أو النَّاس الموجودين والموجَّه إليْهم الخطاب على حدٍّ سواء.

فالمسيح – عليه السلام – متمثِّل أمام الحضور: جسدٌ وروح، له مجال إبْصار لِمَن حوله، فالكلُّ يُبصِرهُ إن كان مُبصِرًا، إذًا فعلى أساس قاعداتِنا الأولى، أنَّ مَن ينظُر للمسيح يُبْصِره، فمن ثمَّ تنعكس صورة المسيح – عليه السلام – على أعيُن مَن نظر من التَّلاميذ والناس الحضور – التلاميذ المؤمنين خصوصًا – إذْ كانوا هم المقصودين في الكلام، ولهم وُجِّه الخطاب.

إذًا؛ فقدِ انعكستْ صورة المسيح – عليْه السَّلام – على أعيُنِهم فأبْصروه، فقد كانوا له ناظرين، هذا في وقْتِها، ممَّا كان أدْعى أن يقول ويصف ما سيحدُث من اختلاف، فاصلاً بينه وبين المعتاد عليه، فقال: “بعد قليل”، وذلك يعكس أيضًا اقتِراب الموعد، فماذا صار بعد قليل؟ هيا لنرى:

في هذا الشكل تصوُّر بسيط لحادثةِ الصَّلب الشهيرة.

(ونفترِض في هذا الرَّسم أوَّلاً ما يعتقِده النَّصارى)، وهو أنَّ (المسيح هو الذي كان على الصَّليب).

ولنطبِّق ذلك كما اعتدْنا في الورقات السَّابقة على التَّعريف الخاص بالإبصار، فمع هذا التَّعريف، لن يكتمل للأسف افتراضُنا الذي افترضْناه في بداية هذه الفقرة؛ إذْ إنَّه حين قال المسيح: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني” (بالطبع كان قاصدًا هذا الكلام، فلم يقُلْه اعتباطًا)؛ بِمعنى: أنَّه إذا كان المسيح هو المصْلوبَ في الشَّكل السَّابق (4)، فإنَّ هذا الشَّكل (4) ينفِي صحَّة المقولة الكتابيَّة في (يو 16 : 16)، الَّتي هي على لِسان المسيح – عليْه السَّلام – ويقول فيها: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني”؛ إذْ إنَّ هذا القليل لم يتحقَّق حتَّى الآن حسب نظريَّة وقانون الإبصار، فالمسيح – عليه السلام – مازال مُبصَرًا حتَّى اللحظة حينئذ في شكل (4)؛ ولكن رغْم ذلك، لنأْخُذ على عاتقنا هذا الاعتِقاد إلى منتهاه، ولنرَ نتائجه إلامَ ستوصِّلنا؟

الفرض بصحَّة الاعتِقاد:

(المسيح على الصليب)، إذًا فالمقولة في (يو 16 : 16) “بعد قليلٍ لا تبصرونني” خاطئةٌ، أو حريٌّ بنا أن نقول: لَم تُحقَّق حتَّى الآن؛ إذًا فلننْتَقل لوقتٍ آخَر تالٍ لهذا الوقت، والوقت التَّالي لعمليَّة الصَّلب هو ما حدث بُعيْد الصلب، إذ أُنْزِلت الجثَّة – الجسْم المصلوب – مِن على الصَّليب (ميِّتًا)، في الشَّكل التَّالي يتَّضح نفس الشيء في الشَّكلين (1) و (3) حيثُ التَّجربةُ والتَّطبيق، وهنا في الشَّكل(5) نرى الصُّورة تتكرَّر مع موقفٍ جديد.
وفي هذا الشَّكل يُرى الجِسْم الذي كان على الصَّليب الذي هو حسَبَ النَّصارى (جسد يسوع المسيح) نَجِده مسجًّى ميتًا مرئيًّا ومنظورًا مُبصَرًا، وبذلك فالمقولة موضوعُ كلامِنا لم تتحقَّق حتَّى اللَّحظة أيضًا، فقد قال المسيح – عليه السلام -: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني”، وقد تساءل التلاميذ في أنفُسِهم عن هذا القليل، وها نَحن مستمرُّون نبحث في هذا القليل، ما هو؟

 لم يكُنْ هذا القليل – كما عاينَّا، من خلال التجارب العلميَّة المُجْراة – الوقتَ فيما بين انطِلاق المقولة وحدوث الصَّلْب بالفعل، ذلك حسب اعتِقاد النَّصارى بقولهم باعتِقال المسيح وتعليقِه على خشبة الصَّليب صلبًا وقتله.

 كذلك لم يكُن هذا القليل هو الوقْت حتَّى إنزال الجسد المصلوب.

ومع ذلك فنحن مستمرون في بحثِنا هذا لملاقاة سبيل موصل لمعرفة هذا القليل.

فَبِعَدَم تحقُّق المقولة في أيٍّ من تلك الحوادث لديْنا عَيانًا، إذًا فلننطلِقِ الآن إلى موقفٍ تالٍ لهذا الحدَث العظيم، والَّذي قد يكون الفيْصل في فكر البعض، فكلُّ الكلام سوف يدور حوْلَه الآن .. إنَّه القبر.

في القبر:

بعد دخول الجسَد المصلوب في القبر، نسأل أنفسَنا والنَّصارى على السواء سؤالاً هنا، وهو: بعد دخولِ المصْلوب الميِّت القبر، هل يتحقَّق بقبْرِه القَول: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني” (يو 16 : 16)؟ وذلك لأنَّه ذهب عن العيان لوراء الجدران في القبر.

وقبل أن نُجيب بأيِّ جوابٍ جازم في ذلك، نودُّ فقط ملاحظة شيءٍ بالغ الأهمِّيَّة هُنا، وهو وجوب التَّفرقة بين التجربة رقم(2)

في بداية موضوعِنا ووضْع الواقع حينئذ، المُتصَوَّر بِهذا الشَّكل التَّالي رقم (6).
ففي الشكل الأوَّل المقصود (2)، كانت الكُرة لها صورة غير حقيقيَّة منعكِسة في المِرْآة، أمَّا هنا في الشكل(6)، فالجسد الحقيقيُّ منعزل وراء حائل، جدار، وليس منعكسًا على شيء، وبالتَّالي فبِما أنَّ الميِّت قبل دفْنِه يكون منظورًا بالإبصار، وبعد أن يُقبر يكون مُعرضًا لِمن يُبْصِره من النَّاس – إن أرادوا – فذلك يَجعل المقولة في مضمارٍ قوِيٍّ لانْعِدام توافُقِها حتَّى الآن.
فلوْ تصوَّرنا معًا – على سبيل المثال – في تَجربةِ هذا الشكل(7) أنَّ الكرة تقبع خلف مرآةٍ أو حائل، فإنَّ الكرة لن تُنظَر بطبيعة الحال، وبالتَّالي لن تُبصَر من ناظرتِها العين، ولكن هلِ الكُرة معرَّضة في هذه التجربة لشبيه مُماثلٍ لها واقعُه غير حقيقي، كما هو أمامنا؟ بتلك الظروف يكون الجواب: “لا”، ولكن إذا أزَلْنا الحائل، فإنَّ العين ستُبْصِر بشكل مباشرٍ الكُرة الحقيقيَّة التي نُريدها كما في الشكل(1) في بدْء موضوعنا هذا.
إذًا؛ ففي الشَّكل (7): الكرة لم تكن غير مُبصَرة من ذاتِها، ولكن البصر أُحِيل عنها بسبب وجود عائقٍ لعدم مباشرة النَّظر بما سبَّبه الحائل، ولكنَّه بطبيعة الحال لم يستحِل، والدَّليل أنَّنا لو أزَلْنا الحائل الذي في الشَّكل(7) سنكون أمام الشَّكل(1)؛ أي: إنَّنا سنبصِر الكرة مباشرة، وكذلك في القبر، فالميِّت قبل دفنه كان منظورًا من النَّاس، وبعد دفْنِه هو أيضًا مرئي! كيف؟ نقول: بالرُّجوع إلى التَّجارب السابقة مباشرة، نُدْرِك كيفيَّة تمام ذلك، فلو فُتح القبْر عليه لوُجِد مسجًّى ميتًا ولأبصرناه.

إذًا؛ فكما أنَّ مقولة: “بعد قليل لا تبصرونني” (يو 16 : 16) لا تتماشى مع المصْلوب والجثَّة للميت، فهي كذلك لا تتماشى مع المقْبور أيضًا؛ لأنَّه – أي: المدْفون – لم يُعَرض لمن يُبْصِره في مدْفنه أو قبره، كي تطلق على تلك الحال “لا تبصرونني” بإطْلاق لفظي، وبتعقيب “ثمَّ بعد قليلٍ تَرونني”، وهي التي تؤكِّد على عدم استِحالة إمكانيَّة إبصار الميِّت في القبر.

فكما في التَّجربة، كان القبر هو بمثابة الحائِل الذي يحجب وراءه الكرة، فالجسَد في القبر كمادَّة تكون معرَّضة للإبصار، ولكنَّ انْحِجازها وراء جُدران القبر فقط هو الذي حال بين الإبصار العيْني وبين تلك المادَّة.

افتراض اختفاء الجسد في القبر:

وبالتالي لو افترضْنا (اختِفاء الجسد في القبر) كما في الشكل(8)
فهل تنطبِق عليه المقولة – موضوع البحث – المذكورة في (يو 16 : 16)؟ بالكلام السابق المرفق بالتَّجارب مع الكلام التَّالي أيضًا نستطيع أن نقول: “لا”، لا تنطبق المقولة: “بعد قليل لا تبصرونني” مع (اختِفاء الجسد في القبر) أو (القبر الفارغ)، ولكن لماذا هذا الكلام؟ نقول هذا الكلام؛ لأنَّه قبل اختِفاء المادَّة – أي: الجثَّة – كانت منظورةً للعيان، واختفاؤُها وراء جدْران قبر لم يكن اختفاءً بقدْر ما كان اختباءً؛ أي: انحجازًا.

وعن افتراض التَّلاشي بصورةٍ غير طبيعية (إعجازيَّة) داخل القبر بحيثُ يصير القبر فارغًا، فهذا أيضًا لا يُطابق المقولة؛ لأنَّ اختِفاء المادَّة سبقها وجودُ حائلٍ حال بين الإبْصار مع عدم استحالته والمادة، فلم يَفرض الاختفاء ذاتَه كعملٍ إعْجازي قبل أن يُفرَض عليه الحائل الحجري للقبر، فما المعجزة إلا لتُعْجِز ناظرين.

ذلك لو أنَّ الجسد لَم يختفِ داخل القبر أصلاً، إلاَّ أنَّ هذا ما كان إلا افتِراضًا منَّا بأنَّه حتى لو اختفى لكنَّه واقعيًّا لم يختف، بل قام قيامًا وخرج من القبر (حسب العهد الجديد).

إنَّ المقولة: “بعد قليل لا تبصرونني” على لسان المسيح – عليه السلام – في (يو 16 : 16) بالعهد الجديد، لم يكن مقصدها أبدًا أنه سيُقبر فيصعبُ على التلاميذ وجماعة المؤمنين إبصاره، بالطَّبع لا؛ لأنَّه وضح لهم أنَّه لا يُمكنهم أن يبصِروه بأي حال من الأحوال؛ لأنَّه سوف يحدث حدثٌ ما؛ فبالتَّالي هو لم يُقبر، لم يَختبئْ، لم يبقَ؛ لأنَّه في كل تلك الحالات هو معرَّض تعريضًا مباشرًا أو غير مباشر لِمَن يُبْصِره، في حين أنَّ قوْلَته: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني” كانت عموميَّة واضحة باستِحالة إبْصاره حتَّى لمن حاول ذلك.

مِن ثَمَّ نعود لسؤالِنا الذي تركْناه دون جواب شافٍ، ونلخِّصه، وقبل أن نجيب لنذكِّر بالسؤال أوَّلاً: بعد دخول الجسد المصلوب القبر ميتًا، هل تتحقَّق فيه مقولة: “بعد قليل لا تبصرونني”؟

وهنا، ومع السَّالف ذكرُه – بالبحث التجريبي – يكون الجواب: لا، فالجسد لم يختفِ اختفاءً، ولكنَّه حُجِز فقط وراء حائل، وهو معرَّض للإبصار من أي جهةٍ أخْرى، وحتَّى جهة المؤْمنين والتَّلاميذ الموجَّه لهم الخطاب – ذلك إنْ أرادوا – وبهذا تكون العوْدة التلْقائية للشَّكل رقم(2)   في تَحقيق هذه المقولة، ويمكن إعادة رسمِه كي يتسنَّى للجميع مراجعته.

في هذا الشكل رقم(2) نجد تحقيقًا للمقولة: “بعد قليل لا تبصرونني” (يو 16 : 16)، ففيه انعكَس شكلُ الكرة على المرآة بصورةٍ غير حقيقيَّة؛ ولكنَّها مطابقة ومشابِهة لها في الشَّكل، فانتبهتِ العين لها دون الحقيقيَّة، وبالتَّالي فالعين لم تُبصِر الكُرة الحقيقيَّة المقصودة – الجِسم المادِّي الحقيقي – ولكنَّها أبصرت شكْلاً مشابهًا ومتطابقًا في الشَّكل مع الأصْل، إذًا فالأصْل لم يُنظر حينئذٍ، فلم يُبصر، وبذلك تكون قد تحقَّقت مقولة: “بعد قليلٍ لا تُبصرونني” على الأقلِّ تَجريبيًّا حتَّى الآن.

كانت تلك التَّجربة التي صوَّرناها في الشكل(2) حيثُ الكرةُ وصُورتها المنعكسة على المرآة كتحوُّل للرُّؤية الحقيقيَّة للكُرة في الشَّكل رقم(1).

ولقد قابلْنا الشَّكل(1) تجريبيًّا بالشَّكل رقم(3) في تصوُّرنا الواقعي للموقِف حينَها ببداية المقال، ثم مرَّ الوقْت “القليل”.
وكان منَّا أن قُمْنا برسْم الشكل رقم(2) وهو الخاصُّ بانعِكاس صورة الكُرة على المرآة، بحيث أُبصرت صورة غير حقيقيَّة للكرة الأصل، ولكنَّنا لَم نقابِل الشَّكل التجريبي(2) برسم مقابل متصوِّرًا للواقع في بدْء الموضوع، وذلك لتجنُّب التشويش على القارئ بِحُكمنا المسبق، بالنَّتيجة البارزة لديْنا والمتأسِّسة عليها فكرة هذا البحث، فقدِ اكتفيْنا فقط بوضع شرح لنتيجة التَّجربة ذات الأدَوات في الشَّكل(2)، واستمرَّ بنا الحال آخذين في الاعتِبار صحَّة الفرضيَّات النَّصرانية التي تبنَّيْناها مؤقتًا، وهي أنَّ الذي على الصَّليب هو المسيح – عليه السلام – والاختفاء في القبر أو القبر الفارغ، وذلك كمعتقد نصراني، ورغْم ذلك في النِّهاية لم يوافِقْ أي موقف من تلك المواقف ما عَناه المسيح في كلِماته.

والآن وجب عليْنا التَّصوير ولو بشكْل مبسَّط واقعيَّة الرؤية غير الحقيقيَّة للأشياء والمواد، كما في الشكل(2) والذي يبيِّن أنَّ شيئًا غير الأصل هو الَّذي كان مُبصَرًا حينئذ، ولكنَّه أدَّى إلى لبْس بسبب مطابقتِه الشَّديدة ومشابهتِه للأصل، فها هي التجربة والواقع والقول في الإنجيل المسمَّى بالعهد الجديد يقولون بكل ذلك.

وأمامنا الآن تطبيق التَّجربة محلَّ التحقيق، الشكل(2) بالواقع المُتصوَّر في الشَّكل رقم (9).

ليكتمِل لديْنا التصوُّر النهائي فيما هو القليل، من خلال التصوُّر الأقْرب إلى الصحَّة لما قد ذُكِر في (يوحنا 16 : 16) كتاب العهد الجديد.

لقد كان ذلك القليل الذي ذُكِر على لسان المسيح – عليْه السلام – هو تلك الفترةَ الزمنيَّة المحصورة فيما بين قوْل المسيح – عليه السلام – مقولتَه هذه، حتَّى الإمساك بالشَّخص الذي صُلِب وبمجرَّد اعتِقاله، وبما أنَّ المصلوب كان منظورًا ومرئيًّا فمبصَرًا، فطبيعيٌّ أن يكون قائلُ المقولة “لا تبصرونني” وهو المسيح – عليه السلام – بمنأًى عن الصَّليب نهائيًّا في ذلك الوقت.

إذًا؛ فالمقولة: “بعد قليل لا تبصرونني” كان المقصِد الحقيقي لها أنَّهم – أي: التَّلاميذ – لن يستطيعوا أن يُبْصِروه ساعتَها، ولكنَّهم ربَّما سيرون شيئًا آخَر بديلاً أو شبيهًا أو ما شابه ذلك، المهمُّ أنَّهم لن يبصروهُ شخصيًّا دمًا وروحًا على السواء.

وبالتَّالي يكون الذي عُلِّق على الصليب صلبًا ليس هو – بكل تأكيد علمي ومنطقي مبرهن – المسيحَ، فبِتجارب أدَّت إلى أنه ليس المصلوب أو المعلَّق على خشبة الصَّليب هو المسيح، ولكنَّه هو شخص آخَر بديل، ومَن رفَض ذلك الكلام فإنَّما أحْكَم على عقْلِه غلقَهُ، ووشَّحه الغطاء، أو أغاصه في لجَّة الأهواء، وما رضي له إلاَّ إباءً أمام حُكم ربِّ وإله السماء.

إنَّ مَن رفَضَ ذلك الكلام الذي سبق، فإنَّما هو يضع كلِمات المسيح – عليه السلام – في مجال شكٍّ، هل هو قائلها؟ أم أنَّها ما هي إلا وضْع واضعٍ ولم ترْتَقِ لمرتبة الوحْي؟

وإن وافق الموافق هذا الكلام المبني علميًّا، فلقد وافق هو بذلك على نبوءة نبويَّة عن إلهامات إلهيَّة ووحي على لسان المسيح وافقت ما يرْنو إليه دين الإسلام الصَّحيح.

إنَّ هذا – أيُّها الإخوة القرَّاء – ما يقوله الله تعالى في قرآنِه المجيد: ﴿ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]، وآيات أخرى كثر، فما اختلفت كلِمات الله فيما أنزله، فصدق الله وصدقتْ رُسُل الله بتبليغِها كلِمات الله العليا، ذات القداسة والطهر في الدنيا.

وإنَّ نفوسًا أبتْ إلاَّ عنادًا، وعقولاً أبتْ إلاَّ انغلاقًا، وسوَّلت لها أنفُسُها أمورًا أن تشيع في الدين أمرًا ما نصَّه كتاب، ولا كان لها مكان في لبِّ عاقل عند ذوي الألباب، فلو حَكَّموا العقول وتدبَّروا القول، لكان خيرًا لهم، وإنَّما يتذكَّر أولو الألباب، أفلا يتدبرون؟!


[1] الأناجيل المعترف بها كنسيًّا: هي تلك التي أُقرَّت في المجامع المسكونية الشهيرة – نيقية وما تلاها من مجامع – وباختِصار قد وقع الاختِيار على هذه الأناجيل دون غيرِها ممَّا سواها منتشرًا هنا وهناك؛ اعتمادًا على النَّشأة التَّاريخية المتوفِّرة للشهادة لها من خلال المخطوطات، وبعض البرديات الدَّالَّة على عصور كتابتِها، حسب الدراسات النصرانيَّة.

[2] يوحنا هنا هو كاتب إنجيل يوحنا، وهو أحد التلاميذ، فهو ليس يوحنَّا المعمدان (يحيى بن زكريا)، إذًا فهو أحد تلاميذ المسيح، وهو كذلك كاتب إنجيلِه المشار إليه (إنجيل يوحنا)، وثلاثِ رسائل أُخْرى في الكتاب المقدَّس وسِفْر الرؤيا.
[3] الكتاب المقدس، هو ذلك المجلَّد الديني التاريخي الذي يلتزم به النصارى في عبادتِهم وممارسة أحوال ديانتهم، وهو ينقسم قِسمين: عهد قديم وعهد جديد، لا غنى لدين النصارى بأحدهما عن الآخر، إلا أنَّهم دوما يطلقون على العهد الجديد منه (عهد النعمة) بينما لا يصلح وحيدًا لإقامة الدين، فهو يفتقِر للشَّرائع والحدود والقوانين السَّماويَّة ويركِّز على التَّعاليم وقصص حياة المسيح، وبيْنما ينقسِم الكتاب لقسمَين هامَّين يمكن تقسيمُه داخليًّا لأقْسام نوعيَّة تبدأ بأسْفار التَّوراة الخمْسة، وهي كتُب الشَّريعة الرئيسة التي أُوحيت إلى نبي الله موسى، ثم يبدأ في الولوج لكتُب التَّاريخ وعددها ستة عشَر سِفْرًا بالأسفار القانونية، ثم كتب ال7حكمة وعددها سبعة أسفار شعريَّة حسب اللغة الأصليَّة، ثم يسرد كتب الأنبِياء وعددها ثمانية عشر سفرًا بالأسفار القانونية، ذلك في تقسيمات العهد القديم، أمَّا في العهد الجديد فهناك البشارات وهي الأناجيل وعددها أربعة أناجيل، وأعمال الرسل، ثم يُنتقل إلى الجزء الأكبر وهو قسم الرَّسائل، وتحتل رسائل (القديس بولس) الجانبَ الأكبر منها، حيث تضمُّ سبعة رسائل كبيرة لجهات مختلفة، ثمَّ هناك رسائل عامَّة تتوزَّع على (القديس يعقوب) و(القديس بطرس) في ثلاث رسائل مختلفة، ثم نَجِد رسائل (القديس يوحنا) وعددها ثلاثة، ثم رسالة يهوذا، ثمَّ سِفْر الرؤيا ليوحنا اللاهوتي.
[4] اللغات الآراميَّة واليونانيَّة والعبريَّة، هي تلك اللغات التي عرف الكتاب المقدَّس بها، وعنْها تُرْجِم للُّغات الحيَّة الحالية، حيث تعدُّ اللغات الأصليَّة لهذا الكتاب لغاتٍ قديمةً وقد تكاد ميتة؛ كالآرامية والعبرية واليونانية القديمة.
ويختلف الكتاب المقدَّس في ذاته كمجلَّد واحد في لغاته، فهو عبري العهْد القديم، وآرامي الأناجيل وهي لغة المسيح – عليه السلام – ويوناني الرسائل، وكلُّها لغات قديمة غير مستعملة حياتيًّا وواقعًا.