الموطن والنسب:

تخبرنا أسفار العهد القديم بأن إبراهيم يأتي في الجيل التاسع لذرية سام بن نوح؛ إذ إن العرق السامي يجري هكذا:

«سام. أرفكشاد. شالح. عابر. فالج. رعو. سروج. ناحور. تارح، أبرام وهو إبراهيم – أخبار الأيام الأول 1: 24 – 27».

 

ولقد كان تارح – والد إبراهيم – يعيش مع قبيلته في موطنهم الأصلي بمدينة أور – بالعراق القديم – وإذا به يقرر فجأة الذهاب إلى أرض كنعان (فلسطين)، وهو يرتحل إليها عبر طريق طويل مارا بحران – بمدينة القوافل – التي تقع حاليًّا بتركيا قرب الحدود السورية، وهناك يموت تارح:

«أخذ تارح أبرام ابنه ولوطًا ابن هاران ابن ابنه، وسارأى كنته امرأة أبرام ابنه، فخرجوا معًا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك وكانت أيام تارح مائتين وخمسين سنة، ومات تارح في حاران – تكوين 11: 31 – 32».

 

وفي حران تلقى إبراهيم الأمر الالهي بالذهاب إلى أرض كنعان، كما تلقى البشرى بأنه سيكون مباركًا وعظيمًا، فرحل إبراهيم بقبيلته من حران إلى فلسطين وعمره آنذاك 75 عامًا.

 

«وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. فذهب أبرام كما قال له الرب وذهب معه لوط، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران – تكون 12: 1 – 4».

 

إبراهيم وزوجه في مصر:

«وحدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغترب هناك، وحدث لما قرب أن يدخل مصر قال لسارى امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته، فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خبر بسببك وتحيا نفسي، فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. فصنع إلى أبرام خيرًا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد، وإماء وأتن وجمال.

 

فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراى امرأة أبرام. فدعا فرعون أبرام وقال ما هذا الذي صنعت بي. لماذا لم تخبرني أنها امرأتك. لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي. والآن هو ذا امرأتك. خذها واذهب..

 

فصعد أبرام من مصر هو وامرأته وكل ما كان له ولوط معه إلى الجنوب.

 

وكان أبرام غنيًّا جدًّا في المواشي والفضة والذهب – تكوين 12: 10 – 19، 13: 1 – 2.

 

وغني عن البيان أنه حسب هذا القصص المقدس، فقد أخذ فرعون سارة زوجة له، وكان بينهما ما يكون بين الأزواج، ولقد دفع فرعون إلى إبراهيم ثمن تمتعه بسارة: بقرًا وحميرًا، وجمالاً وعبيدًا، وكان ذلك مصدر غنى لنبي الله إبراهيم.

 

وكادت تكرر نفس المأساة لإبراهيم حين تعرضت زوجه سارة لمحاولة سطو على عرضها من أبيمالك ملك جرار بفلسطين – لكن إرادة الله تدخلت ومنعت ذلك الملك أن يمس المرأة.

 

وقد عنف ابيمالك إبراهيم كثيرًا على إنكاره الزوجية بسارة، وما ترتب على ذلك من محاولة اغتصابها. ولم يجد إبراهيم ما يعتذر به سوى أن يقول: إن سارة في حقيقتها أخته بنت أبيه، ولكنها ليست بنت أمه، ولما كانت هذه الأخت غير شقيقة لإبراهيم فقد اتخذها زوجة له:

«وانتقل إبراهيم… وتغرب في جرار. وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة، فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل. ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب إليها.

 

قال يا سيد أمة بارة تقتل. ألم يقل هو لي: إنها أختي وهي أيضًا نفسها قالت هو أخي. بسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا.

 

فقال له الله في الحلم أنا أيضًا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تخطئ إلى لذلك لم أدعك تمسها، فالآن رد امرأة الرجل، فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا.

 

ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت اليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة أعمالاً لا تعمل عملت بي.

 

فقال إبراهيم إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة، فيقتلونني لأجل امرأتي.

 

وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي غير أنها ليست أبنة أمي فصارت لي زوجة وحدث لما أتاهني الله من بيت أبي أني قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين إلى في كل مكان تأتي اليه قولي عني هو أخي – تكوين 20: 1 – 13».

 

وتقرر توراة موسى أن زواج الأخ بأخته؛ سواء كانت شقيقة، أم لم تكن إنما زنى عقوبته القتل أمام أعين الناس:

«إذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت عورته فذلك عار، يقطعان أمام أعين شعبهما، فقد كشف عورة أخته يحمل ذنبه – لاويين 20: 17».

 

العهد والأرض:

إبراهيم يستوطن أرض كنعان:

تخبرنا الأسفار أن إقامة إبراهيم في أرض كنعان كانت نتيجة لرغبة لوط ابن أخيه في الاقامة بالأردن، فلقد حدثت مخاصمة بين رعاة كل منهما، اضطر معها إبراهيم إلى التدخل حتى يضمن حسن العلاقة مع ابن أخيه، من أجل ذلك اقترح إبراهيم على لوط أن يختار من الأرض ما يشاء، وآنذاك سيرحل عنها إبراهيم إلى أرض أخرى، فاختار لوط أرضًا خصبة في الأردن، تكسوها الخضرة والزرع المثمرة كمصر جنة الله في أرضه:

«قال أبرام للوط لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك؛ لأننا نحن أخوان أليست كل الأرض أمامك. أعتزل عني أن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا وأن يمينًا فأنا شمالاً فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن أن جميعها سقي كجنة الرب كأرض مصر، فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن، وارتحل لوط شرقًا، فاعتزل الواحد عن الآخر.

 

أبرام سكن في أرض كنعان ولوط سكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم؛ تكوين 13: 8 – 12».

 

العهد الإلهي:

وبعد أن استقر إبراهيم في أرض كنعان، جاءه وعد الهي بأن تكون له ولنسله تلك الأرض، وحتى ذلك الوقت كان نسل إبراهيم بظهر الغيب؛ إذ إنه ما زال عقيمًا.

 

«وقال الرب لأبرام بعد اعتزال لوط عنه. أرفع عينيك وانظر عن الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى أعطيها لك ولنسك إلى الأبد واجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضًا يعد قم امش في الأرض طولها وعرضها لأني لك أعطيها.

 

فنقل أبرام خيامه وأتى وأقام عند بلوطات ممرًّا التي في حبرون – تكوين 13: 14 – 18».

 

ومن الأمور الواضحة هنا أن أرض الموعد لا تضم أرض الأردن التي سكنها لوط وذريته من بعده، وهم الموابيون والعمونيون، لكن أرض الموعد يمكن تحديدها بمنطقة تقع في مرمى البصر لإبراهيم، أو أنها على أكثر تقدير منطقة يحددها نشاط إبراهيم وتجواله في الرعى والتجارة.

 

ثم جاء وحي الله لإبراهيم في الرؤيا يبشره بذرية كثيرة، ويقطع معه ميثاقًا:

«بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى أبرام في الرؤيا قائلاً لا تخف يا أبرام أنا ترس لك فقال أبرام أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماض عقيمًا ومالك بيتي هو إليعازار الدمشقي إنك لم تعطني نسلاً، فإذا كلام الرب إليه قائلاً، لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك، ثم أخرجه إلى خارج وقا:ل انظر إلى السماء وعد النجوم أن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك، فآمن بالرب فحسبه له برًّا.

 

وقال له أنا الرب الذي أخرجك من دور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها.

 

في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات؛ تكوين 15: 1 – 18.

 

ومن المعلوم أن العهد أو الميثاق إنما يكون شريعة بين طرفين أو أكثر، يحدد لكل موقفه أمام الآخر بالنسبة لما تم توثيقه والتعاقد عليه، وعلى هذا فإن ما نحن بصدده ليس عهدًا ولكنه وعد، وعلى أي حال فسوف نترك الكلام عن هذا العهد الالهي الآن حتى تزيدنا الأسفار من أمره وضوحًا حين نتكلم عن «تجديد العهد» بعد قليل.

 

وواضح أن أرض الموعد هنا يقصد بها مساحة تمتد من نهر الفرات شرقًا إلى نهر مصر غربًا، وهذا الأخير هو ما يعرف باسم وادي العريش، وهو مجرى (خور) يسير فيه الماء أثناء المطر، يبدأ قرب منتصف الطرف الشمالي الشرقي لشبه جزيرة سيناء وينتهي عند العرش.

 

ولقد أردت من هذا الاستطراد أن أزيل كل لبس قد يحدث عند الكلام عن «نهر مصر»؛ حتى لا يفهم أحد – خطأً – أن المقصود هو «نهر النيل»؛ إذ لا علاقة إطلاقًا بين الاثنين سوى اشتراكهما في اللفظ فقط.

 

تحقق البشري ومولد إسماعيل:

تزوج إبراهيم من هاجر المصرية، التي ما أن حملت منه حتى دبت الغيرة في قلب زوجته الأولى سارة، فاضطهدتها حتى «هربت من وجهها. فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية..

 

وقال لها ملاك الرب تكثيرًا أكثر نسلك، فلا يعد من الكثرة.

 

وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعي اسمه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسانًا وحشيًّا، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن.

 

فولدت هاجر لأبرام ابنًا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل، وكان إبراهيم ابن ست وثمانين سنة؛ تكوين 16: 6 – 16».

 

تجديد العهد:

بعد مولد إسماعيل بثلاثة عشر عامًا جاء الوحي لإبراهيم يجدد له العهد – ويبينه إذ يجعل من إبراهيم وذريته أُممًا تؤمن بالله الواحد رب العالمين، ثم يقرر الختان علامة لذلك الميثاق، لا يبطلها إلا من تحلل من عهد الله – فاستحق بذلك القتل:

«ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملاً، فاجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرًا جدًّا.

 

فسقط أبرام على وجهه وتكلم الله معه قائلاً، أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبًا لجمهور من الأمم، فلا يدعي اسمك بعد أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم.

 

وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًّا لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكًا أبديًّا وأكون إلههم.

 

وقال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها أنه قد نكث عهدي.

 

وقال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي، بل اسمها سارة وأباركها وأعطيك أيضًا منها ابنًا.

 

فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته.. وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله.

 

وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن، وكان إسماعيل ابن ثلاثة عشر سنة حين ختن – تكوين 17».

 

ويمكن اجمال عناصر العهد الإلهي لإبراهيم في الآتي:

1- عهد الله بين إبراهيم وبين نسله من بعده، أن يكون الخالق العظيم لهم ربًّا وإلهًا، له عليهم حق العبادة والسلوك حسب شريعته، فيكونون بذلك هم عبيده الذين ينعمون بشرف التعامل معه وينقلبون في نعمائه.

 

2- وبناءً على ذلك فقد أعطى الله أرض كنعان لإبراهيم ولنسله من بعده؛ لتكون لهم ملكًا أبديًّا.

 

وهنا نلاحظ أن أرض الموعد تقل كثيرًا هذه المرة عما سبق ترديده من أنها الأرض التي تمتد من نهر الفرات شرقًا إلى نهر مصر (وادي العريش) غربًا.

 

ولما كان الكلام عن أرض الموعد قد تأكد هذه المرة بأن المقصود بها أرض كنعان، فلا معنى بعد ذلك للكلام عن تلك الأرض الواسعة (نهر الفرات – نهر مصر)، والتي جاء ذكرها قبل ذلك بأكثر من ثلاثة عشر عامًا.

 

وعلى ذلك فسوف تكون مناقشتنا لأرض الموعد باعتبارها أرض كنعان ولا شيء أكثر من ذلك.

 

3- وقد جعل الختان علامة للعهد بين الله، وبين إبراهيم ونسله الذي سيكون شعوبًا كثيرة وليس شعبًا واحدًا، وكان إسماعيل هو أول نسل إبراهيم الذين صدقت فيهم البشرى وصدق فيهم حفظ العهد.

 

ذرية إبراهيم:

عرفنا مما سبق أن إبراهيم رزق بولده البكر إسماعيل من زوجه هاجر.

 

كذلك رزق إبراهيم بولده الثاني إسحاق من زوجه سارة.

 

«وفعل الرب لسارة كما تكلم. فحبلت وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته.. ودعا إبراهيم اسم ابنه المولود الذي ولدته سارة إسحاق.

 

وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه – تكوين 21: 4».

 

وبذلك يكون لإبراهيم وعمره 100 عام ولدان: الأول بكره إسماعيل من هاجر المصرية الذي ولدته وعمر إبراهيم آنذاك 86 عامًا.

 

والثاني ولده إسحاق الذي ولدته سارة بعد مولد إسماعيل بنحو 14 عامًا، ثم اتخذ إبراهيم زوجة ثالثة تدعى قطورة، وأنجب منها أبناء كثيرين، كانوا آباءً لقبائل وشعوب استقرت في فلسطين والأردن، وشبه الجزيرة العربية، وكان منهم المديانيون الذي أصهر إليهم موسى.

 

«وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له: زمران ويقشان ومدان، ومديان ويشباق وشوحا.

 

وولد يقشان شبا وددان.

 

وكان بنو ددان أشوريم ولطوشيم ولأميم.

 

وبنو مديان عيفة وعفر وحنوك وابيداع والدعة.

 

جميع هؤلاء بنو قطورة – تكوين 25: 1 – 4».

 

ومن الواضح هنا – وحسبما تذكره هذه الفقرات الأولى من الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين – أن قبائل كثيرة قد خرجت من إبراهيم وقطورة، لم تذكر لنا الأسفار من أنسابها سوى النذر اليسير.

 

كذلك كان لإبراهيم سراري أنجب منهم ذرية تحمل اسمه وتشارك في مجده.

 

«وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقًا إلى أرض المشرق وهو بعد حي – تكوين 25: 6».