قبل البدء في الحديث يجب أن نعرف هذه الحقائق:

1- الدين هو الذي يصنع الحياة ولم يجئ إلا لذلك.

2- أن الأمة العربية بخاصة والأمة الإسلامية بعامة ضحية لاتجاهين رجعيَّين:

الأول: هو الاتجاه الذي سادها قديمًا، وهو بُعْدها عن الدين وعدم العمل به، وذلك من عام 350هـ إلى 1250هـ تقريبًا.

الثاني: هو الاتجاه الأوربي الحديث الذي صاحب المدنية المعاصرة، وهو اتجاه أيضًا مضاد للدين؛ لأنه نشأ في أوربا بعد أن عُزل الدين هناك في داخل الكنائس فقط.

وكان ذلك ردَّ فعل لجمود رجال الدين أيضًا، وعدم تمشِّيهم مع الحياة وتقديم الدين لخدمة الشعب، وإصلاح الحياة ونظمها وإدراتها.

3- أن الأمة العربية والإسلامية لها شخصيتها المميَّزة التي تقوم على الخلُق الفاضل، ومبادئها الدينية التي لا تتحقق في أي مجتمع آخر.

إذن لا بد من عودة هذه الشخصية.

وبعد هذا أقول: إن الحديث عن المرأة وإفرادها بالحديث دون الرجل أمر غريب في الواقع، غريب على الفطرة، أي: على الواقع الذي يجب أن يكون، وهو أن يكون الحديث عن الرجل والمرأة على السواء؛ لأنهما مخلوقٌ واحدٌ وجنْسٌ واحد، هو آدم أو الإنسان، ليس آدمَ أبَ البشر، وإنما هو آدم الإنسان، الذي اشتمل على آدم وزوجته، والذي قال اللَّه تعالى فيه: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1].

فقضية الرجل والمرأة منذ البدء قضية واحدة، لا انفراد لأحدهما بحديث، ولا اهتمام به دون الآخر، ولا إظهاره بمظهر الغرابة، أو بمظهر المهضوم الحق، أو المتخلِّف دون الآخر، وإنما قد خُلِقا معًا خلقًا واحدًا في وقت واحد، زوجين مختلفين ومتحِدَيْن في الوقت ذاته: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ﴾ [الحجرات: 13] فلم تحُل الذكورة، ولا الأنوثة، دون الوحدة بينهما أو المساواة، وذلك منذ اللحظة الأولى لخلقهما: ﴿ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ [البقرة: 35] فالتكليف واحد، والمهمة التي نُدبا لها واحدة، وهي تعمير الكون كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، والحقوق واحدة.

والحديث عنهما واحد في هذا التكليف، وتلك الحقوق، وفي الثواب وفي العقاب أيضًا: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97] فما دامت مهمة الرجل والمرأة في استعمار الكون واحدة، وقائمة على التعاون بينهما، فليس هناك في الدين فصل بينهما، أو تمييز لأحدهما على الآخر، أو تقديم للرجل على المرأة، وإنما الاثنان أمام المسؤولية سواء، وحديث الدين عنهما منذ بدء خلقهما واحد، وعلى أنهما مُشتركان في مهمة واحدة: وهي تعمير الكون وإخراجه من بدائيته الأولى التي خلقه اللَّه عليها، إلى ما نراه الآن من آثار الصناعة والعلم والاختراع وما سنراه ممن يخلفوننا في مستقبل الأيام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] وهو آدم، أو الإنسان، وكما حُكي لنا ذلك على لسان صالح عليه السلام: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

وحتى الدعوات على لسان الأنبياء والمرسلين لم توجه إلى الرجل وحده، ولا إلى المرأة وحدها، وإنما خوطبا بها معًا، يا أيها الناس، أو يا أيها الإنسان.

ففي التوراة بعد أن خلق اللَّه الأرض والسموات: “فخلق اللَّه الإنسان على صورته، على صورة اللَّه، (في الصفات الكماليَّة من السَّمْع والبصر والعلم) (وهذا ما نعتقده في هذه الكلمة إذا كانت صحيحة غيرَ محرَّفة كما حدث لمعظم نصوص التوراة والإنجيل، ومع مراعاة أن سمع اللَّه ليس كسمعنا وبصره ليس كبصرنا.. الخ كما قال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]) خلقه ذكرًا وأنثى، خلقهم وقال لهم: أثمروا وأكثروا، فملؤوا الأرض وأخضعوها) الإصحاح الأول سفر التكوين.

فالحديث عن المرأة وحدَها، أو عن الرجل وحدَه، حديث فيه غرابة، ويعني بحق أننا بعدنا كثيرًا عن الفطرة، وعن الواقع، بإفراد الرجل أو المرأة بالحديث أحدهما دون الآخر.

ومفتاح ذلك هو أن حضارة الشرق (والعرب) قد خمدت في الوقت الذي بدأت فيه حضارة الغرب في الازدهار، فلم يكن للشرق في بدء نهوضه طريق إلى الحضارة إلا طريق الغرب، وكانت المرأة متخلِّفة في الغرب؛ نظرًا لأنَّ الغرب لم يحظ بالأديان السماوية التي حظِيَ بها الشرق، ولم تستطع المسيحية بعد أن ذهبت إليه أن تغيِّر منه كثيرًا، نظرًا لأن الذين قاموا بنشرها هناك هم بعض القياصرة من الرومان؛ فنشروها مختلِطةً بموروثاتهم القديمة، ولو أن رجال الدين وحدهم هم الذين قاموا بنشر المسيحية في الغرب، لاستطاعوا أن يغيِّروا منه شيئًا كثيرًا.

ولهذا، بقيت المرأة متخلِّفة في الغرب حسب نظرة الشعوب البدائية القديمة لها، رغم وجود دين سماويٍّ وهو المسيحية، فإنه لم يعد كما أنزله اللَّه.

فلما قامت الثورة الحديثة في فرنسا وغيرها من البلاد، وقامت على أثرها النهضة الصناعية الحالية، كان أول شيء عملوه، هو عزْل الدين عن المجتمع وإقامة المجتمع العلماني الذي لا يحتكم إلى الدين في شيء، وبدؤوا يعطون المرأة حقَّها كما يزعمون، ولكن على حسابها وعلى حساب المجتمع نفسِه والأسرة هناك، فوجدوا أن المساواة هناك هي: أن تخرج للعمل كالرجل تمامًا بتمام، ولا نظرة إليها من جانب مملكتها الأساسية: وهي البيت، وخروج المرأة للعمل استدعى خروجها على كل تقليد سليم أو غير سليم كانت تتمسَّك به، فرأيناها تظهر أمامنا شيئًا فشيئًا كما هي على حالها في المجتمع الأوربي الآن.

فلا هي أخذت حقَّها، ولا وصلت إلى احترام كيانها هذا الذي ظنَّت أن الثورة الصناعية أو النهضة الحديثة ستعطيه إيَّاها، ولكنها في الواقع ظلمتها وأهدرت قيمتها أكثر وأكثر ونفت إيجابيتها من المجتمع والأسرة.

وظننا نحن بأخذها هذه الشكليَّات أنها نالت شيئًا يجب أن تناله المرأة الشرقيَّة التي لم تُظلم، ولم يَهضِم مجتمعها حقَّها في يوم من الأيام في الوجود العربيِّ أو الإسلامي؛ كما سيتبيَّن لنا من هذه الموازنة التي سنقدِّمها في المقال القادم إن شاء اللَّه.