حين قال الله تعالى للملائكة: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، كان ردُّ الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]، ولا أظن أن أحدًا يعلم علم اليقين، لماذا ظنَّت الملائكة أن الخليفة الجديد في الأرض سيُفسِد فيها ويسفك الدماء، إلا أنه من المعلوم أن الحياة الحيوانية والنباتية سبقت الحياة الإنسانية على الأرض، فعمر الحيوان أكبر من عمر الإنسان، والبشر مخلوقات حديثة على الكوكب مقارنة بالحيوان والنبات، وربما ظنَّت الملائكة أن المخلوق الجديد سيكون على غِرار المخلوقات المفترسة الموجودة على الكوكب حينذاك كالديناصورات، والكواسر والجوارح والنباتات المتوحِّشة، مهما يكن، فإن الله تعالى ردَّ على ظنِّ الملائكة بالخليفة الجديد بكلام عميق المعاني؛ إذ يقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

نشوء العنف البشري:

إلى جانب المعرفة الفطرية والآليات النفسية التي يُولد الإنسان مُزوَّدًا بها، فإنه يتعلَّم من البيئة المحيطة أيضًا، وأول المواليد البشريَّة على الأرض كان الرباعي هابيل وأخته، وقابيل وأخته. هؤلاء الأطفال الأربعة عاشوا في وسط حيواني متوحِّش، وكانوا يرون بلا شك مشاهد يومية من الافتراس الحيواني والنباتي، وبحسب الدراسات العلمية للتأثير الإعلامي على المتلقي، فإن التكرار يُعتبر أحد آليات التأثير المهمَّة التي لا يمكن الاستغناء عنها في العمل الإعلامي، وبسبب الرؤية المستمرة لمشاهَد التوحش الحيواني، فإن الإنسان ربما يكتَسِب بعضًا من تلك الأنماط السلوكيَّة، بالطبع هذا التأثير ليس حتميًّا؛ لأن الإنسان ليس آلة تصوير أو روبورت مبرمج، فهناك أكثر من “حارس بوابة” على المدخلات الحسيَّة التي يتلقَّاها الإنسان، فهناك الفطرة والضمير والدين والأخلاق والقانون، ومن بين أول ستة بشر على الأرض، آدم وحواء وهابيل وقابيل وأختاهما، اكتسب واحدٌ منهم فقط السلوك العنيف من البيئة الحيوانية، وهو قابيل، وبالتحويل الإحصائي، فإن هذا يعني أن 16.7% فقط من البشر لديهم استعداد لاكتساب العنف، بينما 83.3% منهم ليست لديهم تلك الميول، فالسلام قاعدة في الحياة البشرية، بينما العنف هو الاستثناء.

جدلية السلام والعنف:

على عكس قانون الديالكتيك الذي يرى أن التطور وليد التناقضات، فكل أطروحة لها أطروحة مضادة، يَنتُج عنهما أطروحة جديدة بعد فناء الأولى والثانية، إلا أن أطروحتَي السلام والعنف لم يَنتُج عنهما؛ أي أطروحة جديدة، فالسلام بقي سلامًا، والعنف ما زال عنفًا، إلا أنه يحدث شيء آخر بين الأطروحتين أشبه بالاختراق الثقافي، فالمعسكر السلمي في الثقافة العالمية يُثابر على إضعاف الجهاز المناعي للعنف عبر تهريب حزمة من المفاهيم السلميَّة إليه، وكذلك يفعل المعسكر العنفي بتهريب مفاهيمه العنيفة إلى المعسكر السلمي، ومن الأمثلة على الاختراق الثقافي في معسكر العنف على صعيد (الخطاب) ما نجده في كتاب الحكمة الصيني: “أعظم انتصار أن تهزم عدوَّك دون أن تقتله”، وما قاله غاندي: “إن اللاعنف هو أعظم قوة متوفِّرة للبشرية، إنها أقوى من أقوى سلاح دمار صنعتْه براعة الإنسان”، وعلى صعيد (العمل) لدينا سقوط جدار برلين، والثورة التونسية والمصرية واليمنية؛ إذ كان تغيير الأنظمة سابقًا أحد التخصصات العليا التي تُدرَّس في جامعات العنف!

أما بالنسبة للاختراقات في المعسكر السلمي على مستوى (الخطاب)، فلدينا أمثلة عديدة منها الغرافيك الدارج عالميًّا للقلب الذي يَخترِقه سهم بمنتصفه كناية عن الوقوع في الحب، فهذا تعبير مُهرَّب من قاموس العنف، وعندنا أيضًا قصائد شعرية تستخدم مفردات عنيفة في سياق سلمي كقصيدة نزار قباني “دعوة إلى حفلة قتل”، وعلى صعيد (العمل) لدينا العنف التربوي والتعليمي المستخدم في البيوت والمدارس من قِبَل الآباء والمعلمين، ولدينا أيضًا الأسلحة البلاستيكية المصنوعة كألعاب للأطفال.

لوبي الأقلية:

خلال هذا التسابق بين السلام والعنف للوصول أولاً إلى شلِّ الجهاز المناعي للآخر، حصل تغيير في ثقافة المعسكرين، فخطاب السلام بات يحوي على مفردات العنف، وخطاب العنف يشتمل على مفردات السلام، هذا السباق في تهريب المفاهيم بين المعسكرين ليست لعبة ثقافية ترفيهيَّة كما قد نظن؛ لأنه حين نَصِل إلى قدرٍ مُعيَّن من المفردات العنيفة في الخطاب السلمي، فإن ذلك يمنحها الفرصة لتشكيل (لوبي) ضاغط على القرار السيادي لمعسكر السلم، بحيث لا يعود بإمكانه اتخاذ مواقف سلميَّة 100%؛ إذ لا بد من مراعاة الأقلية العنيفة في “كونغرس الذهن”، بما أن الإنسان محكوم في تفكيره باللغة.

مِثل هذا الأمر يَحدُث في معسكر العنف أيضًا، فإطلاق العَنان للمسالك الوحشية، والحروب العالمية، والعنف المفتوح – لم يَعُد ممكنًا كما كان من قبل، فهناك (لوبي سلمي) داخل المعسكر العنفي، لا يمكن أبدًا تجاهُل طموحاته السلمية.

العنف والسلطة:

كِفَّة الانتصار تميل لصالح معسكر السلام؛ ليس فقط لأن دعاة العنف أقلية في العالم، بل وأيضًا لأن أكثر من ثلاثة أصناف ونصف من أصل أربعة أصناف بشرية قد حسموا موقفهم مع السلم، الأصناف الأربعة هي الطفل والمرأة والشيوخ والرجال، فالطفل والمرأة والشيوخ يصوتون بأغلبيتهم الساحقة للسلام، أما الرجال، فنسبة مؤيدي السلام بينهم 66.66% إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أول ثلاثة رجال على الأرض (آدم وهابيل وقابيل)، مال واحدٌ منهم فقط إلى العنف.

ويَحدُث أحيانًا أن تزداد مساحة الحروب في العالم، ويَكثُر عدد المشاركين فيها كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ مما قد يقود إلى التشكيك في النِّسب السابقة، والاستنتاج بأن دعاة العنف هم الأكثرية في العالم، وأن ثقافة السلام ما زالت تتقهقر وتتراجع حتى تتلاشى يومًا وتفنى، إلا أن هذا الاستنتاج سرعان ما يتلاشى مع هبوب رياح التحليل العلمي، فدعاة العنف بعد أن وجدوا معسكرهم ما فتئ يُضيِّق عليهم، وأن حصونهم لم تَعُد تفي بحمايتهم حتى في عقر دارهم، بدؤوا البحث عن طريقة أخرى لتعويض خسائرهم، ووجدوا في السلطة ضالتَهم؛ فهم يسعون لاعتلاء الحكم، وما أن ينجحوا في ذلك حتى تبدأ الحروب ويتصاعد العنف في العالم، وقصيدة محمود درويش “خطب الديكتاتور الموزونة” تَصُب في هذا المعنى، والأمثلة على التزاوج ببين العنف والسلطة كثيرة في العالم الحديث والقديم، وما يؤكِّد أيضًا أن هذا العنف وليد السلطة، هو أنه يزول بسرعة بالتزامن مع سقوط العرش، ويكأن المياه تعود إلى مجاريها بعد زوال الفيضان.