سألوه: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟! فأجابهم -صلى الله عليه وسلم-: “نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر”، هكذا قرر رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- مبدأ الرفق بالحيوان في هذه الكلمات القلائل، فإن الإسلام دين تتسع دائرة الرحمة فيه فتشمل جميع المؤمنين ثم جميع البشر مؤمنين وكافرين، ثم ما تزال تتسع دائرة رحمته حتى تتخطى الجنس البشري لتشمل الحيوان الأعجم وجميع الخلائق أجمعين.

 

فتمام هذا الحديث الذي ذكرنا نهايته يرويه أبو هريرة فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له” قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: “نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر”(متفق عليه)، فسقياه لكلب رحمه، أوجبت له رضا الله عنه وغفرانه له.

 

وهذه امرأة آثمة؛ كانت زانية تسعى بفرجها، لكنها رقَّت -هي الأخرى- لكلب ظمآن كما رقَّ له ذلك الرجل، فكان أن تاب الله عليها وغفر لها برحمتها ذلك الحيوان، يقص علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قصتها فيقول: “بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته فغفر لها به”(متفق عليه)، وهذه البغي لم تتعن كما تعنى الرجل؛ فقد نزل إلى البئر ليسقي الكلب، أما هي فلم تنزل، بل ربطت خفها بخمارها ثم دلته إلى البئر فملأته، ففي إحدى روايات البخاري: “غُفر لامرأة مومسة؛ مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك”، ومع ذلك فقد تقبلها الله في التائبين، فمغفرة الله لها متعلقة بما في قلبها من الرفق بالحيوان والرحمة به، لا بسبب المجهود البدني.

 

وهذه امرأة أخرى لكنها على العكس من الأولى؛ قد نزعت الرحمة من قلبها فحبست قطة بدون طعام ولا شراب حتى ماتت، فكان جزاؤها جهنم، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”(متفق عليه).

 

والرجل والمرأة الأولى قد رحما حيوانًا حيًّا فرحمهما الله، أقول، بل يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ومن رحمه ميتًا رحمه الله كذلك، ففي الحديث: “من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة”(رواه البيهقي في شعب الإيمان).

 

***

 

إن الحيوان ضعيف لا يستطيع التعبير عن نفسه ولا عما يحتاجه ولا ما يؤذيه… تمامًا كالطفل في شهوره الأولى، فهو كالأسير بين أيدينا… لذا فقد اهتم به الإسلام أيما اهتمام ورعاه أيما رعاية، فمن يطالع كتب السنة والسيرة يجد قائمة طويلة من المأمورات والمحظورات تخص الحيوانات وحدها بمختلف أنواعها، وهاك نماذج لتلك المحظورات:

 

فمحظور اتخاذ ظهورها مقاعد يُجلس عليها، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتكم”(رواه أبو داود)، بل لقد وقعت واقعة تكلمت فيها بقرة واعترضت بلسان فصيح على ركوب الرجل على ظهرها، فيروي أبو هريرة -رضي الله عنه- أيضًا، فيقول: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: “بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث…”(متفق عليه).

 

ومحظور تجويعها وإتعابها وتحميلها ما لا تطيق، فعن عبد الله بن جعفر أن جملًا لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حن إليه، وزرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفرته فسكن، فقال: “من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟” قال: فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: “ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه”(رواه الحاكم في المستدرك).

 

ومحظور إيذاؤها بوسمها في وجهها، فعن جابر قال: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه”(رواه مسلم)، وفي لفظ لمسلم أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال: “لعن الله الذي وسمه”، والوسم: أثر كية بالنار.

 

ومحظور أن يقام الحيوان ليُتعلَّم عليه الرماية، فعن هشام بن زيد بن أنس بن مالك قال: دخلت مع جدي أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، قال: فقال أنس: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تُصْبَر البهائم”(متفق عليه)، قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه… وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضا”(رواه مسلم)؛ وغرضًا: هدفًا يرمى عليه…

وفاعل ذلك ملعون -والعياذ بالله-، فعن سعيد بن جبير قال: مر ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: “من فعل هذا؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من فعل هذا”(رواه مسلم).

 

***

 

وهذه قائمة أخرى من المأمورات الخاصة براحة الحيوانات والرحمة بالحيوانات، فمنها: إحسان ذبحها بإحداد السكين، وليس أمام أعينها، وإضجاعها وإراحتها، فعن شداد بن أوس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته”(رواه مسلم)، وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا أضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أتريد أن تميتها موتات؛ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها”(رواه الحاكم).

 

ومنها: أن يقلِّم من أراد حلب بهيمة أظافره كي لا يخدش ضرعها، فعن سوادة بن الربيع قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر لي بذود، قال: “إذا رجعت إلى بيتك، فقل لهم فليحسنوا أعمالهم، ومرهم فليقلموا أظفارهم، ولا يخدشوا بها ضروع مواشيهم إذا حلبوا”(رواه الطبراني في الكبير)، فسوادة أتى من سفر مع رفاقه فمكثوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أيامًا يتعلمون دينهم، فلما أرادوا العودة إلى ديارهم أراد أن يوصيهم، فانظر بما أوصاهم الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم-، لقد أوصاهم بحيواناتهم.

 

ومنها: أن يهتم بإطعام بهائمه وبصحتها، فعن سهل ابن الحنظلية قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة”(رواه أبو داود).

 

***

 

وننطلق الآن من الرفق بالحيوان إلى الرفق ببني الإنسان، فننادي على بلاد تعتني بالحيوان وتنافح عنه، وتملأ الأرض بكاءً وعويلًا على ظبي قد علقت ساقه بين غصنين فتأذَّى!… ننادي على حكومات ترسل بالطائرات والفرق المجهزة لإنقاذ بقرة وحشية في جوف غابة كادت أن تسقط من على قمة جبل!… ننادي على جمعيات أقيمت للرفق بالحيوانات ورُصدت لها الآلآف والملايين!… ننادي على الشعوب والحكومات والرؤساء والملوك والأمراء… أنْ ارفقوا ببني البشر كما ترفقون بالحيوانات.. إن من المسلمين من يبادون بالقنابل والدبابات.. إن من المسلمين من يموت جوعًا وعطشًا وعريًا.. إن من المسلمين من ينتحب حزنًا وكمدًا على عزيز مات أو على ساق بترت أو على كرامة امتُهنت… إن من المسلمين من يبيت في العراء تنزف منه الدماء… ألا ليتكم ترحمونهم كما ترحمون الحيوانات.

 

***

 

وها هي مجموعة من الخطب جمعناها لنرى كيف يرفق الإسلام بالحيوان، ثم نتأمل ونتساءل: إن كانت هذه رحمة ديننا بالحيوان، فكيف تكون رحمته بالإنسان؟! فإليك هذي الخطب.

(1)

 

الرفق بالحيوان …..الشيخ :  هلال الهاجري

1/ حث الإسلام على الرفق بالحيوان

2/ رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوان وحثه على الرفق به

3/  التحذير من إيذاء الحيوان أو تعذيبه

 

الخطبة الأولى:الحمدُ للهِ الذي دبَّرَ أُمورَ الكائناتِ بلطيفِ صُنعِه وعظيمِ قدرتِه أحسنَ تَدبيرٍ، وأَبدعَ المخلوقاتِ من غيرِ مثالٍ سابقٍ فصوَّرها أتمَّ تصويرٍ، وخصَّ الإنسانَ منها بما زيَّنَه من حُسنِ صورتِه في أعدلِ تقويمٍ وأبدعِ تقديرٍ .. أحمدُه حمدَ من تدَبَّرَ آياتِ قُدرتِه الباهرةِ، وشاهدَ دلائلَ وحدانيتِه القاهرةَ..وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الْعَلِيّ الْكَبِيرُ، وأشهدُ أن سيِّدَنا محمداً عبدُه الهادي البَشيرُ، ورسولُه السِّراجُ المنيرُ، الذي بعثه اللهُ تعالى فأحيا به النَّاسَ إحياءَ الأرضِ بالوابلِ المطيرِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الطَّاهرينَ وأصحابِه الفَاضلينَ وسلَّمَ تسليماً ما لاحَ بَدرٌ مُنيرٌ .. أما بعد: عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا -أيْ: بُسْتَانًا- لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ -وهو: المَوْضِعُ الذي يَعْرَقُ مِنَ البَعِيرِ خلْف الأذنِ- فَسَكَتَ، فَقَالَ: “مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟”، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: “أَفَلاَ تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ-أَيْ: تُتْعِبُهُ”.لا إلهَ إلا اللهُ .. مهما رفعَ العالَمُ الغربيُّ والشَّرقيُّ شعارَ حقوقِ الحيوانِ وجعلوا لها الجَمعيَّاتِ .. فلن يجدوا مثلَ الإسلامِ ضمنَ للحيواناتِ حُقوقَها كما ضمنَ لكلِّ شيءٍ حَقَّه .. فها هو نبيُّ الإسلامِ والإمامُ الأعظمُ يسمعُ لشكوى جَمَلٍ، ويمسحُ عنه العَرقَ، ويُعاتبُ صاحبَه، ويحفظُ له حقَّه في الأكلِ وفي الرَّاحةِ .. ومنه ما ذَكَرَه سَهْلُ بنُ عمرو -رضيَ اللَّهُ عنه-: أن رسولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مرَّ ببعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ ببطْنِهِ فقالَ: “اتَّقُوا اللَّه في هذه الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكبُوها صَالِحَةً، وكُلُوها صالحَةً” .. فلم يتقِّ اللهَ –تعالى- من لم يُحسنْ إلى هذه الدَّوابِ التي خلقَها –سبحانَه- لمنافعَ عظيمةٍ .. والتي جعلَ اللهُ –تعالى- لها مكاناً حتى في سفينةِ نوحٍ -عليه السَّلامُ- ليبقى أصلُها ونسلُها .. (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40].بل قد يصلُ العقابُ في تعذيبِ الحيواناتِ إلى اللَّعنِ والطَّردِ من رحمةِ اللهِ –تعالى- التي وَسِعتْ كلَّ شيءٍ .. فَعَنْ جَابِرٍ -رضيَ اللَّهُ عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: “لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ”.يا أهلَ الإسلامِ .. لقد بعثَ اللهُ تعالى نبيَّه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- رحمةً للعالمينَ .. يقولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ -طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ- فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: “مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا”.وجاءَ عَنْ عَائِشَةَ -رضيَ اللهُ عنها- أنها قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمُرُّ بِهِ الْهِرَّةُ فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا” .. فماذا عسى الكلماتُ أن تصفَ تواضعَ خيرِ البشرِ .. حتى مع الطُّيورِ والهِرَرِ!!وهكذا كانَ أصحابُّه -رضيَ اللهُ عنهم-، حتى أن عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ -رضيَ اللهُ عنه- كانَ يَفُتُّ الْخُبْزَ لِلنَّمْلِ، وَيَقُولُ: “إِنَّهُنَّ جَارَاتٌ لَنَا، وَلَهُنَّ عَلَيْنَا حَقُّ الْجِوَارِ”، ثمَّ أتباعُهم بإحسانٍ من بعدِ ذلكَ، فهذا أبو إسحاقَ الشِّيرازي رحمَه اللهُ يمشي في طريقٍ ومعه صاحبٌ له، فعرضَ له كَلبٌ فزجرَه صاحبُه، فنَهاه الشَّيخُ، وقالَ له: “أما علمتَ أنَّ الطَّريقَ مُشتركٌ بيننا وبينَه؟”. أيُّها المُسلمُ .. اعلمْ أن ما تُطعمُه الحيوانَ فلك فيه أجرٌ .. حتى ولو لم تكنْ تعلمُ .. عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضيَ اللهُ عنهُما-، دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ في نخل لها، فَقَالَ: “يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، مَنْغَرَسَ هَذَا النَّخْلَ؟ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟”، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ، قَالَ: “فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَيْرٌ، إِلَّا كَانَت لَهُ صَدَقَةً”.وما هي ردَّةُ فِعلِ الإنسانِ المؤمنِ الذي يرجو اللهَ –تعالى- واليومَ الآخرِ .. عندما يعلمُ أن الإحسانَ إلى حيوانٍ قد يكونُ سبباً لمغفرةِ ذنوبِه جميعاً؟ .. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟، فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ”.بل ولو كانَ ذلك الإنسانُ ممَّن كَثُرتْ ذنوبُه وتعاظمتْ معاصيه .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا –أي خفَّها- فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ”.سبحانَ اللهِ .. زانيةٌ يُغفرُ لها خَطاياها العَظيمةُ، بسببِ شَربةِ ماءٍ لبهيمةٍ، فكيفَ تتعاملُ بعدَ ذلك مع الحيواناتِ، يا من يسعى لمغفرةِ والذُّنوبِ والخطيئاتِ؟ .. لذلك لا تعجبْ بعدَ ذلكَ إذا سمعتَ أبا الدَّرداءَ -رضيَ اللهُ عنه- يقولُ لبعيرِه عندَ الموتِ: “يا أيُّها البَعيرُ، لا تُخاصمني إلى ربِّكَ؛ فإنِّي لم أَكنْ أُحمِّلكَ فَوقَ طَاقتِكَ”.فاحذرْ يا من يؤذي الحيواناتِ .. وانتبه يا من يُعذِّبُ البهائمَ .. فلقد دخلتْ امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ .. عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ” .. ثُمَّ “أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى الْمَرْأَةَ مُعَلَّقَةً فِي النَّارِ، وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا وَتُعَذِّبُهَا كَمَا عَذَّبَتْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْحَبْسِ وَالْجُوعِ” .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. أينَ ستذهبُ من حسابِ اللهِ تعالى؟ .. فإذا كانَ الحبسُ فقط حتى الموتِ جوعاً يستوجبُ النَّارَ .. فكيفَ بمن يحرِقُ الحيوانَ أو يضربُه ظُلماً حتى يموتَ؟ .. (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ” .. فإذا كانَ يُقتَصُّ يومَ القيامةِ من الحيوانِ الذي لا تكليفَ عليه ولا حِسابَ .. بل حتى من النَّملةِ .. فكيفَ بكَ يا من قالَ له ربُّه -عزَّ وجلَّ-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7- 8].عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضيَ اللهُ عنه-: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ جَالِسًا، وَشَاتَانِ تَقْتَرِنَانِ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَأَجْهَضَتْهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،-أي: لَيُقْتَصَّنَّ لها-“.فإيَّاكَ وتعذيبَ الحيواناتِ .. ولقد قالَ الحقُّ سبحانَه: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38].يقول الشَّيخُ السِّعدي -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ الآيةِ: “(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) جميعُ الحيواناتِ الأرضيَّةِ والهوائيَّةِ، من البهائمِ والوحوشِ والطُّيورِ، كلُّها أممٌ أمثالُكم خلقناها كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونَفُذتْ فيها مشيئتُنا وقدرتُنا، كما كانتْ نافذةً فيكم .. (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ما أهملنا ولا أغفلنا في اللَّوحِ المحفوظِ شيئاً من الأشياءِ، بل جميعُ الأشياءِ، صغيرُها وكبيرُها، مُثبتةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، على ما هيَ عليه، فتقعُ جميعُ الحوادثِ طِبقَ ما جرى به القَلمُ .. وقوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي: جميعُ الأممِ تُحشرُ وتُجمعُ إلى اللهِ في مَوقفِ القيامةِ، في ذلك الموقفِ العظيمِ الهائلِ، فيجازيهم بعدلِه وإحسانِه، ويمضي عليهم حكمُه الذي يَحمَدُه عليه الأولونَ والآخرونَ، أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ”.فسيأتي يومٌ عظيمٌ .. يحاسبُ اللهُ تعالى فيه العِبادَ .. ويأخذُ حقَّ المظلومِ من الظَّالمِ .. حتى حقَّ الشَّاةِ التي ليسَ لها قرونٌ من التي نطحتْها بقرونِها .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ”.باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، إنه جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تَقديراً، وأَتقنَ ما شرعَه وصنعَه حِكمةً وتَدبيراً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وكانَ اللهُ على كلِّ شيءٍ قَديراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرسلَه إلى الخلقِ بَشيراً ونَذيراً، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلَّمَ تَسليماً كثيراً .. أما بعد: فلقدْ راعى الإسلامُ حقوقَ الحيوانِ حتى في طريقةِ قتلِ من أمرنا بقتلِه .. وفي ذبحِ من جازَ لنا ذبحُه .. عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قَالَ: “إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ”.. فيجبُ القتلُ والذَّبحُ بأيسرِ وأسرعِ طريقةٍ تَزهقُ بها الرُّوحُ ويَقلُّ بها الألمُ.ولذلك جاءَ النَّهيُ عن وسائلِ القتلِ المؤلمةِ كالحرقِ بالنَّارِ.. فلقد َرَأَى رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقَهَا بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: “مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟”، قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: “إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ”.وحذَّرَ من وسائلِ القتلِ التي يُعذَّبُ بها الحيوانُ قبلَ موتِه .. فعَنْ ابْنِ عُمَرَ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ، فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ–أيْ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَلَ بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ-.بل بلغتْ رحمةُ الإسلامِ بالحيوانِ حتى في مراعاةِ مشاعرِ البهيمةِ حينَ الموتِ .. فعنْ محمدِ بنِ سيرينَ أن عُمرَ -رضيَ اللهُ عنه- رأى رجلاً يجرُّ شاةً ليَذبحها، فضرَبه بالدِّرَّةِ، وقالَ: سُقها إلى الموتِ سَوقًا جميلاً .. ولمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٌ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: “أَفَلا قَبْلَ هَذَا؟، تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ” .. فأيُّ حقوقٍ للحيواناتِ أعظمُ من هذا؟.اللَّهُمَّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِـنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِـنَا، وَأَبْصَارِنَا ، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِـنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِينَ لَهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا .. اللَّهُمَّ لا تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلا هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلا دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلا مَرِيضاً إِلاَّ شَفَيْتَهُ، وَلا مُبْتَلَى إِلاَّ عَافَيْتَهُ، وَلا ضَالاً إِلاَّ هَدَيْتَهُ، وَلا غَائِباً إِلاَّ رَدَدْتَهُ، وَلا مَظْلُوماً إِلاَّ نَصَرْتَهُ، وَلا أَسِيراً إِلاَّ فَكَكْتَهُ، وَلا مَيِّتاً إِلاَّ رَحِمْتَهُ، وَلا حَاجَةً لَنَا فِيهَا صَلاحٌ وَلَكَ فِيهَا رِضاً إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا بِفَضْلِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

(2)

 

الرفق بالحيوان الشيخ : عبد الله بن علي الطريف

 

1/ الرفق مبدأٌ من مبادئ الإسلام العامة في جميع شئون الحياة

2/ مقام الرفق في مفهوم الإسلام

3/ فضل الرفق بالحيوان

4/ وعيد الشرع لمن يؤذي الحيوان

5/ إباحة قتل الحيوان المؤذي بضوابطه

6/ تحريم تعذيب الحيوان بإغراء بعضه على بعض.

الخطبة الأولى:أيها الإخوة: الرفق مبدأٌ من مبادئ الإسلام العامة في جميع شئون الحياة.. وسمةٌ تميز المسلم.. وفضيلةٌ تزين عمله.. وسببٌ من أسباب تقوية إيمانه.. فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ. (رواه البخاري). وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»، ومعنى “ويعطي على الرفق” أي: يثيب عليه ما لا يثيب على غيره ويتأتى به من الأغراض ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره.. وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنهُ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».وعَنْه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنهُ قَالَ: “مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ” (رواه الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وصححه الألباني).أيها الإخوة: هذا هو مقام الرفق في مفهوم الإسلام.. وهذه منزلته من الدين؛ خُلق مطلوب محبوب من الله فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.. وفي كل شئون الحياة..حديثي اليوم عن جانب واحد من الرفق.. إنه جانب الرفق بالحيوان.. نعم الرفق بالحيوان.. ذلك الخلق الحاضر الغائب في حياتنا.. حاضر في مبادئ ديننا وغائب عند بعضنا أو غير واضح عند البعض الآخر..! وهذا الخلق يعالج جانباً مهماً في الحياة.. فقد أصبح الناس فيه بين طرفي نقيض.! فنرى مبالغة في القسوة من قساة الأمم يذوب لها القلب كمدًا وتتفتت منها الأكباد ألماً.. بلغوا من القسوة مداها حتى يظن من يرى فعلهم أن قلوبهم قُدِّت من الصخر أو صُبّت من حديد صلب..!

فذاك موتور يلاحق كلباً ليصدمه بسيارته الفارهة، ويستمر بتعذيبه وصدمه حتى قتله..! وعديم قلب يحرق ثعلباً حياً؛ لأنه عدا على داجنه وأكله، وغيرها.! احترت من أجرم؟! أأجرم الفاعل على فعلته؟! أم أجرم المصوّر على تصويره؟! والناس بكل أسف يتناقلون المشاهد المؤلمة في أجهزتهم الذكية بل منهم من يعيد نشره بكل أسف!! ماذا ترك هؤلاء القساة لمصارعي الثيران من القسوة؟! وماذا أبقوا لهم من الفظاظة.!! يا الله ما أقبح أفعال الإنسان إذا تجرد من الرفق والرحمة؟!أيها الأحبة: نحن أمة هدانا الله للإسلام وعلينا أن نعرض شئون حياتنا على منهجه. فتعالوا لنستقي من عذب أقوال النبوة، ونستضيء من مشكاتها؛ ففيها الري والهدى والنور.. الرفق بالحيوان رحمة، والراحمون يرحمهم الرحمن.. ولقد جسّد الإسلام الرحمة بالحيوان وبناها بناء متكاملاً؛ فحث على الإحسان إلى الحيوان، وشكر من يرحمه، ونهى عن أذيته فتكامل البناء.. فجعل الإسلام الإحسانَ سبباً لمغفرة الذنوب الكبار وسبباً لدخول الجنة.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى [التراب الندي، وقيل يعضّ الأرض] مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: “فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ [حية] أَجْرٌ”. (رواه البخاري). وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا [زانية] رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا” وموقها: خفها.وروى البخاري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ. قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ”.وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن أظهر الرحمة بالحيوان قولاً جميلاً فقد قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ، وَأَنَا أَرْحَمُهَا -أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا- فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ”، “وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ” (رواه أحمد وغيره وصححه الألباني عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ).

 

أجل إنها الرحمة التي هي أثر من رحمة الباري –سبحانه- التي أنزلها بالأرض ليتراحم بها العباد فتضيء جمالاً في طبائع الناس فتحدوهم إلى البر.. وتهب عليهم في الأزمات الخانقة ريحا طيبة ترطّب الحياة وتنعش الصدور.أما أولئك القساة من البشر ذوي الأنفس الجافة والنزوات الفاجرة التي تتشبع بالإساءة والإيذاء فتمتد أيديهم بالأثرة المجردة والهوى الأعمى. تحركها قلوب كجلمد الصخر؛ فقد توعدوا بأليم العقاب وشنيع العذاب. ذكر وعيدَهم من لا ينطق عن الهوى في جملة من الآثار والمواقف نذكر منها..فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى صَلاَةَ الكُسُوفِ، فَقَالَ: “دَنَتْ مِنِّي النَّارُ، حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ، قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا” –أي: أن المرأة في النار تخدشها الهرة-.. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: «لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (رواهما البخاري).وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ»، وعنه أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ» (رواهما مسلم) والوسم أثر كية.وهو كي يكوي به الحيوان ليكون علامة.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ؛ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ. فَلَمَّا رَأَى الجَمَلٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: “مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ”؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: “أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ”.

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسعُود قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً [وهي طائر صغير كالعصفور أحمر اللون] مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ [أي: ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض] فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: “مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا.؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا”.. وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: “مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟” قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: “إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ”.. (رواهما أبو داود وصححه الألباني).ولئن كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه أو البشر بطلب النصرة منه؛ فقد وضع للأمة دستوراً يعملون به، وربنا حي لا يموت، يرى ويسمع يقول سبحانه (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61]؛ ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم…

(3)

الرفق بالحيوان في الإسلام …….الشيخ:محمود الدوسري

 

 

1/اهتمام الإسلام بالحيوان وحثه على الرِّفق به

2/حدود التعامل مع الحيوان

3/آداب وأحكام في التعامل مع الحيوان

4/دعوة للتأمل في مواقف الغرب!

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

وبعد: الرفق في الإسلام قِيمة عظيمة، وخُلق رفيع، وقد اتَّسع لا ليشمل البشرَ فحسب، وإنما ليشمل كذلك العجماوات من الحيوانات، ومن عظمة الإسلام اهتمامه بالحيوان والحث على الرِّفق به؛ حيث جاء بأحكامٍ عدَّة تُبيِّن حدود التعامل مع الحيوان، وتُؤكِّد كذلك على الشفقة والرحمة والرِّفق بالحيوان، علماً بأنَّ غير المسلمين لم ينتبهوا لحقوق الحيوان إلاَّ في أزمنة مُتأخِّرة، بل ليس سِرًّا أن يقال: إنهم أخذوا أصولَ ذلك مِمَّا يوجد لدى المسلمين من آداب وأحكام في التعامل مع الحيوان، والحقُّ أنهم نجحوا في إعطاء الحيوان حقوقَه، على الرغم من أنهم سلبوا – في الوقت ذاته – الإنسانَ كثيراً من حقوقه، وهذا من التناقض الغريب!

 

عباد الله: إنَّ الحديثُ عن الرِّفق بالحيوان في الإسلام يتناول الأمور التالية:

1- الرحمة في استخدام الحيوان:

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أنَّها رَكِبَتْ بَعِيرًا فَكَانَتْ فِيْهِ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ -تجعله يسير ثم تُوقِفه بِشِدَّة، وتُكرِّر ذلك عدة مرات-، فقالَ لها رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ“(رواه مسلم). هنا أمَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عائشةَ – رضي الله عنها – بالرِّفق والرحمة في استخدام الحيوان.

 

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ“(رواه مسلم).

 

قال النووي -رحمه الله-: “معنى الحديث: الحثُّ على الرِّفقِ بالدَّواب، ومُراعاةِ مَصْلحتِها؛ فإنْ سافروا في الخِصْبِ قَلَّلوا السَّيرَ، وتركوها ترعى في بعضِ النَّهار وفي أثناءِ السَّير، فتأخذ حظَّها من الأرض بما ترعاه منها، وإنْ سافروا في القَحْطِ عجَّلوا السَّيرَ؛ لِيَصِلوا المَقْصِدَ وفيها بَقِيَّةٌ من قُوَّتِها، ولا يُقَلِّلوا السَّيرَ فيَلْحَقُها الضَّرَرُ؛ لأنها لا تَجِدُ ما تَرْعَى فَتَضْعُف” (شرح النووي على صحيح مسلم: 13/69).

 

2- النهي عن وَسْمِ الحيوان في الوجه:

عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ“(رواه مسلم)، والوسم هو الكي بالنار.

 

وفي روايةٍ أُخرى عن جَابِرٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فقال: “لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ“(رواه مسلم). تأمَّل كيف أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن وَسْمِ الحيوانات في الوجه، وضربِها على الوجه؛ شفقةً عليها، ورحمةً بها، والنهي يقتضي التحريم.

 

قال النووي -رحمه الله-: “أمَّا الضَّربُ في الوجه: فمنهيٌ عنه في كلِّ الحيوان المُحترم؛ من الآدمي، والحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرِها، لكنَّه في الآدمي أشد؛ لأنه مَجْمَعُ المحاسن، مع أنه لطيف؛ لأنه يَظْهر فيه أثرُ الضَّرب، وربما شانه، وربما آذى بعضَ الحواس.

وأمَّا الوَسْمُ في الوَجْه: فمنهيٌ عنه بالإجماع؛ للحديث، ولِمَا ذَكَرناه؛ فأمَّا الآدميُّ: فوَسْمُه حرام؛ لكرامته، ولأنه لا حاجةَ إليه، فلا يجوز تعذيبه، وأما غيرُ الآدميِّ: فقال جماعةٌ من أصحابنا: يُكره، وقال البغوي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى تحريمِه، وهو الأظهر؛ لأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ فاعِلَه، واللَّعنُ يقتضي التحريم، وأما وَسْمُ غيرِ الوجه من غيرِ الآدمي: فجائزٌ، بِلا خِلافٍ عندنا” (شرح النووي على صحيح مسلم 14/97).

 

3- الرِّفق بالحيوان عند ذَبْحِه:

عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ -رضي الله عنه- قال: اثْنَتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ“(رواه مسلم). والأمرُ بإحسان القِتْلَةِ والذَّبح، وإحدادِ الشَّفرة؛ لأنَّه أرفق بالحيوان.

 

4- النَّهي عن تعذيب الحيوان:

عن هِشَامِ بن زَيْدٍ قال: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ على الْحَكَمِ بنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا -أو فِتْيَانًا- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا. فقال أَنَسٌ -رضي الله عنه-: “نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ“(رواه البخاري ومسلم). و(تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ): أي: أن تُحْبَسَ للرَّمي، وكانوا يَحبِسونها ويرمونها بالنَّبل.

 

وعن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ قال: مَرَّ ابنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا، وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ابنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فقال ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: “مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنْ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا“(رواه مسلم).

 

عباد الله: إنَّ قتل البهائم وهي حيةٌ فِعلٌ محرَّم؛ لأنَّ اللَّعن من دلائل التحريم، وهو منافٍ للرِّفق المأمور به في التعامل مع ذبح الحيوان؛ ولأنَّه تعذيبٌ للحيوان، وإتلافٌ لِنَفْسِه، وتضييعٌ لِماليَّته، وتفويتٌ لِذَكاتِه إنْ كان مُذَكَّى، ولِمَنْفَعِته إنْ لم يكن مُذكَّى”(شرح النووي على صحيح مسلم: 13/108).

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أيها المسلمون: ومن الرفق بالحيوان:

5- إثبات عاطفة الحيوان ومراعاتها:

أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ للحيوان عاطفةً، فيتألم ويحزن كما يتألم الإنسان ويحزن، ونهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن تعذيب الحيوان وفَجْعِه، ولا سيما في أولاده، وهذا وربِّ الكعبة لَمِنْ أسمى وأعلى قِيَمِ الرفق التي أثبتها النبي -صلى الله عليه وسلم- وحثَّ عليها، وأوضحُ مثالٍ على ذلك:

 

عن عبد الله بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: “مَنْ فَجَعَ هذه بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا“(رواه أبو داود).

 

وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وهو يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَلْحَظُ إليه بِبَصَرِها، فقال: النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “أتُريدُ أَنْ تُمِيتَها مَوْتَاتٍ؟! هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟“(رواه الطبراني في “الكبير”، والحاكم في “المستدرك”).

 

عباد الله: إنَّ الإسلام جعل الرِّفقَ سلوكاً وخُلُقاً إسلاميًّا، فحثَّ عليه، وندب إليه، وقد وسَّع مجالات تطبيقِه؛ لِيَشمل المجال الفردي برفق الرَّجل بنفسه، ثم المجال الأسري، ثم المجال المُجتمعي دون تفريقٍ أو تمييزٍ بسبب اللون أو الجنس أو الدِّين، ثم تجاوز الإسلامُ بالرفق حدودَ العنصر البشري لتتعدَّاه إلى العجماوات والحيوانات، فأثبتَ لها حقوقاً، وسَنَّ في التعامل معها آداباً، وجعل الرِّفقَ بها أساسَ التعامل معها، ألا فَلْيسمعْ كلُّ مَنْ كان له سَمْع، ويفهم كلُّ مَنْ رَزَقَه الله بقلب، يا مَنْ فُتِنوا بالمجتمعات الغربية الجوفاء؛ التي أعلت من شأن الحيوان فأنشأت المنظمات والجمعيات للرفق بالحيوان، وفي الوقت ذاته أهدرت كرامةَ الإنسان؛ فكانت الإباداتُ الجماعية، والتَّفرِقةُ العنصرية أساساً يحكم تعاملها مع البشر.

 

انظروا إلى قيم الإسلام السامية، وأخلاقه الراقية، ومعاييره الموضوعية الصادقة المُعبِّرة عن الكرامة الإنسانية في كلِّ مكان، هذا دينُنا، هذا نبيُّنا، هذه سُنَّة نبيِّنا، فهل عندكم مثيلٌ لها؟! هيهات هيهات، والحمد لله ربِّ الأرض والسماوات.

 

وصلوا وسلموا…

 

(4)

حث الشرع على الرفق بالحيوان فما بالك بالعمال والخدم؟!…….. الشيخ:خالد بن عبد الله الشائع

1/فضل الرحمة بالحيوانات وخطر القسوة عليها

2/ صور من تعامل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الحيوانات

3/رحمة الحيوانات عند ذبحها 4/خطر لعن الحيوانات

5/من صور قسوة الناس على بعضهم البعض

6/خطر ظلم العمال والخدم7/من صور ظلم العمال والخدم

الخطبة الأولى:أما بعد:فيا أيها المؤمنون: لقد جاء الإسلام شاملا لجميع جوانب الحياة، متوازنا في أوامره، محترما لكل خلق من خلق الله، أيا كان شخصه أو معتقده، كلا بحسبه. وإن المتأمل في السنة يجد أن الشرع جعل الرّحمة بالحيوان طريقا موصلا إلى الجنَّة، كما جعل القسوة معها سببًا لدخول النار؛ فقد جاء في الحديث الّذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ، اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب ثمَّ خرج، فإذا كلبٌ يلهث، يأكل الثَّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفَّه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له” قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: “في كل ذات كبد رطبة أجر”.وفي رواية: أنه وقعت لبغي من بغايا بني إسرائيل. فهذه رحمة كانت سببا لدخول الجنة. وفي المقابل أخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “دخلت امرأة النار في هرَّةٍ ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض”.وقد كان النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يحسن إلى الحيوانات ويرحمها؛ فقد روى أحمد وأبو داود من طريق عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلمَّا رأى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفراه فسكت، فقال: “من ربّ هذا الجمل لمن هذا الجمل؟” فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة الّتي ملكك الله إيَّاها فإنَّه شكا إليَّ أنَّك تجيعه وتدئبه” [رواه أبو داود 2549 وأحمد 3/195 وصححه الألباني].ومعنى: “ذفراه” مؤخرة رأسه، ومعنى: “تدئبه” تتعبه. وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث سهل بن الحنظلية -رضي الله عنه- قال: “مرَّ الرّسول -صلى الله عليه وسلم- ببعيرٍ قد لصق ظهره ببطنه، فقال: “اتَّقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة” [رواه أبو داود 2548 وصححه الألباني]. وأخرج ابن ماجة في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها: “أنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يصغي للهرة الإناء، فتشرب، ثمَّ يتوضأ بفضلها”[صححه الألباني 4958 في صحيح الجامع]. فهذه الأحاديث كلُّها -وغيرها كثير- تبيُّن أنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان رحيمًا في التّعامل مع الحيوانات، وكان يحسن معاملتها.عباد الله: لقد حث الشرع على رحمة الحيوان، حتى عند وقت ذبحها؛ أخرج أبو داود والنّسائي وغيرهما من حديث شداد بن أوس قال: “خصلتان سمعتهما من رسول الله ‏‏-صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته” [رواه مسلم 1955]. وأخرج النسائي في سننه عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقِّها، إلا سأله الله عنها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله! وما حقُّها؟ قال: حُّقها أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي به”[حسنه الألباني 2266 في صحيح التّرغيب]. وروى مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “مرّ على حمارٍ قد وسم في وجهه، فقال: “لعن الله الّذي وسمه”[رواه مسلم 2117].وقد ورد هذا المعنى في أحاديث عديدة. وروى أبو داود عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: “كنَّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها”[رواه أبو داود 5268 وصححه الألباني].وأجمل ما جاء في باب الرّحمة بالحيوان في السّنّة النّبويَّة هو تحريم لعن الحيوانات، وتحريم الإيذاء المعنويّ هو أمرٌ لم ترقَ إليه الأديان، أو الفلسفات في أي وقتٍ من الأوقات، ولا حتَّى في العصر الحاضر الّذي كثرت فيه الكتابات عن حقوق الحيوان. فقد روى مسلم من حديث أبي الدّرداء أنَّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة”[مسلم 2598]. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي برزة قال: “بينما جاريةٌ على ناقة، عليها بعض متاع القوم، إذ بصرت بالنّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل، اللهمّ العنها، قال فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة”.اللهم اجعل في قلوبنا رحمة لخلقك، ترحمنا بها يا رب العالمين.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:فيا أيها الناس: تطرقنا في الخطبة الأولى لحث الشرع على الرأفة والرفق بالحيوان، فما بالكم بالإنسان، فإذا كان الله قد غفر لبغي من بغايا بني إسرائيل؛ لأنها سقت كلبا سيموت من العطش، فما بالكم بمن سقى إنسانا، بل فما بالكم بمن سقى مؤمنا، وإذا كان الله قد عذب امرأة في النار لحبسها لقطة لم تطعمها ولم تطلقها لتأكل من خشاش الأرض، فما بالكم بمن يفعل ذلك مع الإنسان، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن من وسم حمارا في وجهه، فما بالكم بمن يعذبون بني آدم، وإذا كان الشرع نهى عن صبر البهائم، فما بالكم بمن يقتل ويبيد بالآلف من بني آدم. إن هذه المعاملةَ الشرعية للحيوان، داعيةٌ بنفسها لرفع الإنسان إلى مقام الإكرام والتشريف، ولا يصنع هذا إلا من فعلها اتباعا لهدي سيد المرسلين -عليه الصلاة والسلام-، وإلا كانت انتكاسة، كما هي الحال في بلاد الكفار، فهم يكرمون الحيوان أكثر من الإنسان، أما الإنسان المسلم عندهم، فليس له قيمة تذكر، والواقع شاهد بذلك، فهم يرون مئات الألوف تباد، ولا يتحركون لذلك، بل لا يهتز لهم شعرة -إلا من رحم الله- وقليل ما هم.معاشر المؤمنين: أغلبنا لديه عماله من المسلمين وغيرهم، وإن الظلم يقع من الكثيرين عليهم، ألا فلنتق الله فيهم؛ أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي ذر قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ –خدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.الظلم يقع على العمال، والخدم، والسائقين، من نواحي عدة فمنهم من يمنعه مرتباته، أو يؤخرها عليه، وهذا من الظلم الذي حرمه الإسلام، أفلا تعلم أنه يتنظر نهاية الشهر ليرسل لأناس حفاة عراة، وقس على نفسك لو تأخر راتبك يوما واحدا، أو خصم عليك؛ أخرج ابن ماجة في سننه من حديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”.وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”.يعنى اتفقا على عمل فلما انتهى العامل من عمله، جحده حقه ولم يعطه شيئا. والبعض من الناس يضرب العمال والخدم، وهذا الفعل يدخل الضارب النار؛ ففي “صحيح مسلم” وغيره من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: “كنتُ أضرِب غلامًا لي بالسَّوط، فسمعتُ صوتًا من خلفي: فلم أفهم الصوت من الغضب، فلمَّا دنا مِنِّي إذا هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يقول: “اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود” فسقط السَّوْطُ من يدي من هَيْبَتِه، فقال: “اعلم أبا مسعود أنَّ اللهَ أقدَرُ عليك منك على هذا الغلام” فقلت: يا رسول الله، هو حُرٌّ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: “أمَا لو لم تفعل للفحتْك النارُ، أو لمسَّتْك النار”.وفي رواية: “فقلت: والذي بعثك بالحقِّ، لا أضرب عبدًا بعده أبدًا، فما ضربت مملوكًا لي بعد ذلك اليوم”.كما يجب عدم تكليفهم مالا يطيقون، أو مزاحمتهم في أوقات عبادتهم كالصلاة مثلا، وأن يراعى لهم أوقات الراحة، فهم بشر وليسوا بآلات، فارفقوا بهم يرحمكم الله.اللهم إنا نسألك العدل في أنفسنا وأهلينا ومن تحت أيدينا.اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.اللهم اغفر للمسلمين…

(5)

حقوق الحيوان في الإسلام ………….الشيخ :  ناصر بن محمد الأحمد

1/تسخير الحيوان للإنسان

2/تسبيح الحيوانات لله

3/بعض خصائص الحيوان

4/حقوق الحيوان في الإسلام

الخطبة الأولى:إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره …أما بعد:إن الكثير من آيات القرآن تعرّض لذكر الحيوانات، إما مذكّراً ببديع خلقه سبحانه، أو منوهاً بواسع منّه وكرمه على الإنسان بتسخير هذه الحيوانات له، أو مشيراً إلى سابغ نعمه وآلائه عليه بجعلها غذاءً له وكساءً ومالاً ومتاعاً، إلى غير ذلك.ويكفي أن نشير إلى أن هناك سوراً في القرآن سميت بأسماء بعض الحيوانات، ك”سورة البقرة والأنعام والعنكبوت والفيل والنحل والنمل”.أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الحيوانات أمم شتى، وأجناس مختلفة، تأكل وتشرب وتتناسل، تصح وتمرض، تنمو وتهرم، وأيضاً تموت وتبعث ثم تحشر، إلاّ أنها لم تكلف؛ لأنها لم تمنح نعمة التفكير كالإنسان، قال الله -تعالى-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)[الأنعام: 38].وقال جل شأنه: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الذاريات: 49].وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ)[فاطر: 28].ثم إن لهذه الحيوانات حظّها في سكنى الأرض، والتنقل فيها، والتمتع بخيراتها، من ماء ومرعى؛ كما قال تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[النازعات: 30-33].وقال تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس: 31 – 32].وقال تعالى: (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)[يونس: 24].إذن للحيوان الحق في سكنى الأرض، والتمتع بنعم الله وخيراته، فلا يجوز التضييق عليه، ولا يجوز كذلك حرمانه من نعم الله في أرضه.ثم أظنك تعلم -أخي المسلم- ولا يخفاك أن الحيوانات تسبح الله وتسجد له كسائر المخلوقات من إنس وجانّ، ونبات وجماد، قال الله -تعالى-: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الإسراء: 44].وقال تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ* وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)[النحل: 48 – 49].وقال جل شأنه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)[الحـج: 18].وقال سبحانه: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)[الأنبياء: 79].إن الحيوانات فيما يظهر لنا أنها عجماء لا تتكلم، ولكنها في الحقيقة تتكلم وتخاطب بعضها بعضا، وقد تخاطب غيرها، والله -جل وعز- قد يطلع أحد خلقه على ذلك معجزة له، أو كرامة، ومن ذلك ما حصل لنبي الله سليمان -عليه السلام- وغيره، قال تعالى: (حَتَّى إذا  أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[النمل: 18].والهدهد تكلم، وقال: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[النمل: 22].وحديث البقرة التي تكلمت في البخاري ومسلم، وكذلك الذئب الذي تكلم، والحديث في الصحيحين.إن الله -تبارك وتعالى- جعل في الحيوانات عظة وعبرة للناس ليتفكروا وليتدبروا في عظيم خلق الله، وفي عظيم قدرة الله ليزداد بذلك إيمانهم.والمشكلة أن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يخطر ببالهم ذلك، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)[المؤمنون: 21 – 22].وقال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ)[النحل: 66].وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)[غافر: 79 – 81].إن الله -تعالى- أعطى الحيوانات قدرة رؤية ما لا يراه الإنسان، وسماع ما لا يسمع الإنسان، لحكمة هو يعملها سبحانه، فبعض الحيوانات ترى الملائكة، وبعضها يرى الشياطين، بل إنها لتسمع أصوات المعذبين في قبورهم، بل وقبل ذلك وبعده تشفق الحيوانات، وتخاف من يوم الجمعة لعلمها أن القيامة لا تقوم إلا يوم الجمعة.أخرج الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:”إذا  سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطاناً”.وعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا  سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمير بالليل، فتعوذوا بالله منهن، فإنهن يرين ما لا ترون”[رواه الإمام أحمد وأبو داود].وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الموتى ليعذبون في قبورهم، حتى إن البهائم لتسمع أصواتهم”[رواه الطبراني].وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تطلع الشمس، ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة، إلا هذين الثقلين الجن والإنس”[رواه ابن خزيمة وابن حبان].وفي رواية أبي داود: “وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة إلا الإنس والجن”.أيها المسلمون: إن بعض الحيوانات فضّلها الله على كثير من البشر، ممن عطلوا عقولهم، واتبعوا شهواتهم، ولم يمتثلوا ما أمروا به، ولم يتبعوا ما خلقوا من أجله، فهبطوا مع كل أسف إلى مستوى متدن من البهيمية، ومن الحيوانية، فأصبحت حياتهم أكل وشرب، ولهو ولعب وسهر، واتباع للغرائز، وانغماس في الرذائل، ففضّلت البهائم عليهم بتسبيحها وسجودها وخضوعها لربها، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)[محمد: 12].وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ إذا نٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف: 179]. انظر إلى رجاحة عقل الهدهد، ذلك الطائر الصغير عندما رأى القوم يسجدون لغير الله، فأنكر ذلك الشرك، فقال لسليمان -عليه السلام- مستنكراً غواية الشيطان لهم: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[النمل: 24 – 26].أيها الأحبة في الله: إن الله -تبارك وتعالى- أوجب علينا حقوقاً تجاه هذه الحيوانات، نعم حقوقاً لهم علينا، وقد تستنكر عليّ -أخي المسلم- أن أحدثك عن حقوق الحيوان في زمن أهدرت فيه حقوق الإنسان، وأهينت فيه كرامة الإنسان، بل وأريقت فيه دم هذا الإنسان بشكل عام، ودماء المسلمين بشكل خاص في أماكن كثيرة من بقاع الأرض، لقد أزهقت أرواح، وأبيدت أمم، ودمرت حضارات، ورمّلت نساء، وشرد أطفال، كل ذلك -مع الأسف- تحت عنوان: حماية حقوق الإنسان، ورعاية حقوق الإنسان، وصيانة روحه ودمه وعرضه، والدفاع عن فكره وثقافته ومعتقده، لا أدري هؤلاء يريدون أن يضحكوا على من؟لقد أصبحت أوراق منظمات حقوق الإنسان مكشوفة حتى للحيوانات، وهو أن المقصود به هو الإنسان النصراني والإنسان اليهودي.أما الإنسان المسلم، فالواقع يشهد لحاله، أصبح الإنسان المسلم يلاحق في كل مكان، وأصبح الإنسان المسلم ينازع حتى في اللقمة التي يضعها في فم أولاده، صار الإنسان المسلم يخاف من بيته الذي يسكن فيه، ومن فراشه الذي ينام عليه.لا بأس -أخي المسلم- أن أحدثك الآن عن بعض حقوق الحيوان في الإسلام، لتدرك أن هذه الشريعة حفظت حقوق الحيوانات والبهائم، فما بالكم بالإنسان، وليخرس بعد ذلك أرباب منظمات حقوق الإنسان؟.أولاً: الإحسان إليه، حتى حال ذبحه؛ فعن شداد بن أوس -رضي الله عنه-عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا  قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا  ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”[رواه مسلم].ثانياً: حرمة دم الحيوان، فدم الحيوان مصان إلا ما أحل الله ذبحه لأكله، وقتله لأذيته.ثالثاً: لا يجوز تعذيب الحيوان؛ أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً، وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: “من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً”.وأظن أنه لا يخفاك -أخي المسلم- ما تفتق عنه فكر الإنسان المعاصر، المتسربل برداء المدنية المزيفة، المتحضر بحضارة القرن العشرين أن يتلذذ بمشاهدة مصارعة الثيران، أو مصارعة الديكة، ومثله أكلة دماغ القردة في الفلبين، أو ما يقدم في بعض مطاعم اليابان من السمك المقلي أو المشوي، وهو لا يزال يتقلب حياً في الصحفة إلى ذلك الزبون المفترس.رابعاً: يحرم حبس الحيوان والتضييق عليه؛ ففي الصحيحين: أن امرأة عذبت ودخلت النار في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.خامساً: عدم إرهاقه في العمل، فهذا حق للحيوان سوف تحاسب عنه يوم القيامة إذا  حملته مالا يطيق.تأمل معي قصة الجمل الذي اشتكى ما يلاقيه من تعب وجوع إلى المبعوث رحمة للعالمين صلوات ربي وسلامه عليه؛ فعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: “أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه فأسّر إلى حديثاً لا أخبر به أحداً أبداً، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار، فإذا  جمل قد أتاه، فجرجر وذرفت عيناه، فمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراته وذفراه -ذفري البعير، أصل أذنه، وهو الموضع الذي يعرق منه الإبل خلف الأذن- فسكن، فقال: “من صاحب الجمل؟” فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: “أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله! انه اشتكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه” أي تتعبه.ألا فليسمع هذا دعاة حقوق الإنسان، وأولئك الذين يظلمون الناس، ويأكلون حقوقهم، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان عنده رقيق أن لا يكلفهم مالا يطيقون، وإن فعل أن يعيينهم بنفسه، فكيف بمن يرهق عماله وخدمه ومستخدميه وموظفيه الأحرار، ثم يأكل حقوقهم وأموالهم بالباطل؟نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا …

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه … أما بعد:سادس حقوق الحيوان الذي أوجبه الإسلام: استخدامه فيما خلق له، وعدم استخدامه في غير ما سخّر له، وفي الصحيحين: أن رجلاً كان يسوق بقرةً قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة، فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، أبقرة تكلّم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “وإني أومن به وأبو بكر وعمر”.سابعاً: احترام مشاعر الحيوان، نعم احترام مشاعره، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحد السكين بحضرة الحيوان الذي يذبح، فمرة مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: “أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟”[رواه الطبراني وغيره].بل إن الإسلام راعى حق الأمومة عند الحيوان؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “كنّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها!”.أيها المسلمون: هذه بعض حقوق الحيوان في الإسلام، ولقد أدرك الرعيل الأول من سلف هذه الأمة حقوق الحيوان وحرمتها، وأنها مسؤولية وأمانة، ولذا لمّا ولاهم الله حقوق الإنسان رعوها حق رعايتها، تأمل في كلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما قال: “لو أن بغلة في العراق تعثرت لخشيت أن يسألني الله عنها لما لم أسوِّلها الطريق”. عمر يخشى المحاسبة أمام الله -عز وجل- يوم القيامة لعدم تسوية الطريق لبغلة، وأين؟ في العراق، وليست عنده، لذلك لمّا تولى أمثال عمر الخلافة لم يحتاجوا إلى إنشاء منظمات لحفظ حقوق الإنسان؛ لأن كرامة الإنسان محفوظة ابتداءً عندهم، ولم يحتاجوا إلى أن يتبجحوا في وسائل إعلامهم أنهم قد أعطوا الإنسان كامل حقوقه.وأبو هريرة نفسه -رضي الله عنه- ما سمي كذلك إلا لحفاوته بهرة صغيرة كان يحملها في كمه، وقد قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يا أبا هر”.وإنه من المناسب -أيها الأحبة- أن أختم بهذه القصة وما فيها من عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يحدث الإمام الزمخشري عن نفسه أن إحدى رجليه كانت ساقطة، وكان يمشي في جارن خشب، فلما دخل بغداد سئل عن سبب قطع رجله -وكان يظن أن ذلك بسبب برد خوارزم الشديد- لكنه قال: دعاء الوالدة، وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط من رجله، فأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، يقول: فلما وصلت إلى سن الطلب، رحلت إلى بخارى أطلب العلم، فسقطت عن الدابة، فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملاً أوجب قطعها.ألا فليتق الله أولئك الذين يقطعون حقوق الناس، ويقطعون أرزاق الناس، أن تصيبهم دعوة مظلوم في ثلث الليل الآخر، تكون بذلك نهايتهم.إن الله -عز وجل- عاقب هذا الإمام، وجعله عبرة لغيره، بسبب قطع رجل عصفور، فكيف بمن يتعرض ويعرّض نفسه لقطع وهضم وإعاقة طرق يسترزق من خلالها أسر وبيوتات، الله أعلم بحالهم، وحال من وراءهم؟ -رحماك ثم رحماك يا رب-.ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا …ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

(6)

في حقوق الحيوانات……..الشيخ/عبدالله بن إبراهيم القرعاوي

1/ امتنان الله تعالى على بني آدم بخلق الحيوان

2/ من حقوق الحيوان إطعامه وسقيه وعدم تجويعه

3/ عدم إتعابه أو تكليفه حمل ما لا يطيق

4/ ترك الوقوف عليها واتخاذها كراسي بلا حاجة

5/ رحمتها والإشفاق عليها

6/ عدم لعنها

7/ عدم ضرب الوجه والوشم فيه

8/ إراحتها عند ذبحها

9/ عدم تعذيبها أو تحريقها بالنار

10/ ذم التشاغل بالحيوان عن طاعة الله تعالى وذكره

الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ، يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى الله وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَئِمَّةِ الْهُدَى.أَمَّا بَعْدُ:مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَيْنَا بِخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَنَافِعِنَا، وَجَعَلَهَا أَمَانَةً لَدَيْنَا، خَلَقَ الأَنْعَامَ لِبَنِي آدَمَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا تَفَضُّلاً مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النَّحْلِ: 5]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ? [الْمُؤْمِنُونَ: 21، 22]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ? [يس: 71 – 73] وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا الْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا.فَمِنْ حُقُوقِهَا إِطْعَامُهَا، وَسَقْيُهَا، وَعَدَمُ تَرْكِهَا حَتَّى تَجُوعَ وَتَعْطَشَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: “اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً”. وقَوْلُهُ: الْمُعْجَمَةِ: أَيِ الْعَجْمَاءِ: الدَّابَّةُ الَّتِي لاَ تَنْطِقُ.وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتِ النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ”.الثَّانِي: عَدَمُ إِتْعَابِهَا وَتَكْلِيفُهَا مَا لاَ تُطِيقُ، مِنْ حَمْلِ مَا تَعْجِزُ عَنْهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ: “مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟! لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟!”، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي، يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ لَهُ: “أَفَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ الله إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ”. يَعْنِي: أَنَّكَ تُتْعِبُهُ بِكَثْرَةِ مَا تَسْتَعْمِلُهُ.الثَّالِثُ: تَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَاتِّخَاذُهَا كَرَاسِيَّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا دَوَابَّكُمْ مَنَابِرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ، فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ”.الرَّابِعُ: رَحْمَتُهَا، وَالإِشْفَاقُ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوا حَيَوَانًا طَيْرًا غَرَضًا –هَدَفًا- يَرْمُونَهُ بِسِهَامِهِمْ قَالَ: “لَعَنَ الله مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ رُوحٌ غَرَضًا”، وَلِنَهْيِهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ. أَيْ: حَبْسِهَا لِلْقَتْلِ.وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمْرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمْرَةُ تَفْرِشُ -أَيْ إِذَا رَفْرَفَ الطَّائِرُ، وَذَلِكَ أَنْ يُرْخِيَ جَنَاحَيْهِ، وَيَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ لِيَسْقُطَ وَلاَ يَسْقُطُ- فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟! رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا”. [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ].وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلَبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! فَقَالَ: “فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ”، أَيْ: فِي كُلِّ ذَاتِ رُوحٍ أَجْرٌ.الْخَامِسُ: عَدَمُ لَعْنِهَا، لِقِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَةً، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “خُذُوا مَا عَلَيْهَا، وَدَعُوهَا مَكَانَهَا مَلْعُونَةً”. وَحَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ: “لاَ تُصَبِّحُنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ”. [رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ].السَّادِسُ: عَدَمُ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْوَشْمِ فِيهِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: “أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا، أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ”.السَّابِعُ: إِرَاحَتُهَا عِنْدَ ذَبْحِهَا، وَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهَا -أَيِ: الْبَهِيمَةُ، وَلاَ ذَبْحُهَا لِلإِرَاحَةِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ أَكْلَهَا، لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”.الثَّامِنُ: عَدَمُ تَعْذِيبِهَا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، كَإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ، سَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصُدْهُ، كَإِحْرَاقِ الْحَصَائِدِ وَالأَشْجَارِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ.لِمَا رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَنْزِلاً، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَجَاءَ وَقَدْ أَوْقَدَ رَجُلٌ عَلَى قَرْيَةِ نَمْلٍ، إِمَّا فِي الأَرْضِ، وَإِمَّا فِي شَجَرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَيُّكُمْ فَعَلَ هَذَا؟!”، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا، يَا رَسُولَ الله، قَالَ: “أَطْفِهَا، أَطْفِهَا”. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَرَرْنَا قَرْيَةَ نَمْلٍ، فَأُحْرِقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-“.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟!”.قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإِسْرَاءِ: 44].إِخْوَتِي فِي الله: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَكُونُوا مِمَّنْ أَقْبَلَ عَلَى الله وَاتَّخَذَ إِلَيْهِ سَبِيلاً بِطَاعَتِهِ فَرَبِحَ الْمَغْنَمَ، وَلاَ تَكُونُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ الْهَوَى، وَأَعْرَضَ عَنِ الْهُدَى، فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا، تَأَمَّلُوا الْعَوَاقِبَ تَأَمُّلَ مَنْ يُرَاقِبُ، تَفَكَّرُوا فِي النِّهَايَةِ، فَعَيْنُ الْعَقْلِ تَرَى الْغَايَةَ.قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) [النَّحْلِ: 66].أَسْأَلُ اللَّهَ –تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَرِزْقًا طَيِّبًا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، بَارَكَ الله لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 

 

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

 

الْحَمْدُ لله يَقْضِي بَيْنَ خَلْقِهِ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَيُنَزِّلُ بَأْسَهُ بِالظَّالِمِينَ.وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.أَمَّا بَعْدُ:عِبَادَ الله: اعْلَمُوا أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ رَحِمَ خَلْقَ الله مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَسَّرَ أَمْرَهُ، وَعَلَى الْعَكْسِ مَنْ تَجَبَّرَ وَعَتَى.أَخِي الْمُسْلِمَ: وَمَعَ رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالإِشْفَاقِ عَلَيْهِ، فَلاَ تَتَشَاغَلْ بِهِ عَنْ طَاعَةِ الله، أَوْ تَلْهُ بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، أَوْ تَتَّخِذْ مِنَ الْحَيَوَانِ شَيْئًا ثَمِينًا فَخْرًا وَخُيَلاءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَهُ؛ فَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ الله، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا -أَيْ حَبْلِهَا- ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ لَهُ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ الله فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَِهْلِ الإِسْلامِ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ”.عِبَادَ الله: وَأَمَّا الْمُؤْذِي مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَقَدْ أُبِيحَ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إِحْرَاقٍ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ”.وَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ تَرَكَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ طَلَبِهِنَّ فَلَيْسَ مِنَّا، مَا سَلِمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ” [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].وَأَمَّا الْحَيَّاتُ اللاَّتِي فِي الْبُيُوتِ، فَإِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِنَّ لِبُيُوتِكُمْ عُمَّارًا، فَحَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ ثَلاثًا، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَاقْتُلُوهُ”. [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ]. وَالتَّحْرِيجُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ فِي حَرَجٍ إِنْ عُدْتِ إِلَيْنَا، فَلاَ تَلُومِينَا أَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْكِ.وَأَمَّا الْوَزَغُ: فَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا.وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَبِيَدِهَا عُكَّازٌ، فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟! فَقَالَتْ: لِهَذِهِ الْوَزَغِ؛ لأنَّ نَبِيَّ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ إِلاَّ يُطْفِئُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلاَّ هَذِهِ الدَّابَّةُ، فَأَمَرَنَا بِقَتْلِهَا.عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، فَأَكْثِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلاةِ يُعْظِمْ لَكُمْ رَبُّكُمْ بِهَا أَجْرًا؛ فَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”.اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ، وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ الْوَجْهِ الأَنْوَرِ، وَالْجَبِينِ الأَزْهَرِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.