﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ [إبراهيم: 22].

لَمَّا ذكَر الله – جلَّ ثناؤُه – محاورة الأتباع المقلِّدين لمتبوعِيهم ورؤسائهم وسادتهم، ذكَر محاورةَ أولئك الضالين جميعًا: سادة ومسودين، وأتباعًا ومتبوعين، وشيوخًا ومقلِّدين لإمامهم الأكبر، ورئيسهم الأوَّل، وهو الشيطان؛ وذلك لاشتراكِ الرؤساء والشياطين في الضلال والإضلال، وأنَّ كلاًّ منهم يشارك الآخَرَ في معنًى واحِد: هو الإجرامُ وكراهية الأنبياء وعداوتهم، وكلٌّ منهم يستمتع بالآخَر، ويعينه على الإجرام ومحادَّة الله ورسوله، والقعود على صِراط الله المستقيم؛ لإضلالِ الناس وصدِّهم عن سبيلِ الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 112 – 113]، وقال: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان:27 – 31]، فبيْن شياطين الإنس – الذين استكبروا عن آياتِ الله الكونية والعِلمية أن يخضعوا لها، وينقادوا لأحكامها وسُننها، ويستقيموا على طريقِها – وبيْن المستضعفين مِنَ العوام والدهماء أقْوى رابطة، حيث أقاموا لهم أنفسَهم أربابًا وآلهة مِن دون الله، فردُّوهم بالتقليد الأعْمَى إلى أسفل سافِلين، وألزمهم أن يُسلِموا إليهم زمامَ قلوبهم وعقولهم وأعمالهم، وأن يكونوا بيْن أيديهم في الإرادة والاختيار والتفكير كالميِّت بين يدي الغاسل، وأَوْهموهم أنَّ لهم القدرةَ المُطْلقة فيما يتصرَّفون به في قلوبهم وأعمالهم، ودُنياهم وآخِرتهم، فاستسلم أولئك الجماهيرُ لأولئك الدجَّالين استسلامًا لا ينبغي ولا يليق إلا لله ربِّ العالمين، وألْقَوا إليهم السَّلَم، موقنين أنَّهم حقيقةً يفعلون ما يقولون، ويَتَصَرَّفون التصرُّفَ المطلَق في هذا الوجود بما يشاؤون، حتى أكفروهم بكلِّ آياتِ الله ونِعمه، وأخْلَدوا بهم إلى أرْض الهوى والظنون، فأصبحوا كما وصفَهم الله وضرَب لهم المثل؛ ﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 176 – 179]، وكما قال: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44]، يمرُّون باللَّيْل والنهار على آياتِ الله في أنفسِهم وفي الآفاق، ويُفصِّل الله لهم مِن الآيات الكونيَّة في كلِّ شأن مِن شؤونِهم وهم عنها مُعرِضون غافلون، ويَقرؤون آياتِ الله مُفَصَّلات بيِّنات تُناديهم، وتحاول أن تُوقِظَهم وتناديهم، وتحاول أن تُوقظَهم وتنتشلهم مِن هذه الغفلة، ولكنَّهم كما وصَفَهم الله: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 45 – 47].

وما هذه النجوى إلاَّ ما في قلوبهم مِن العقائد التي نفَثَها فيهم شياطينُهم أنَّكم عوام لا يَنبغي أن تَفهموا القرآن، ولا تتدبَّروه، فقد أُغلِقتْ أبوابه ووُضعتْ عليه أقفال، مفاتيحها بيدِ فلان وفلان، وما لكم مِن هذا القرآن إلا الترنيمُ والأصوات الغنائية، والتوقيعات الموسيقيَّة، أو للموتى تستنزلون به الرحماتِ عليهم، بواسطة أولئك الكهَّان المجرِمين، أو التبرُّك بورقِه وحروفِه وجِلْده، وخُدَّامه الذين قِيل عنهم: إنَّ لكلِّ آية ولكلِّ سورة ولكلِّ حرف وكلمة خادمًا مِن الجنِّ، إذا كررت الآية أو السورة أو الكلمة عددًا حدَّده لهم أولئك المُجرِمون، يحضر هذا الخادمُ بالليل أو النهار، فيكون تحتَ تصرُّفهم يُسخِّرونه فيما يشاء لهم كفرُهم وبغيُهم، أو غير ذلك من الحُجُب والتمائم التي هي صناعةُ اليهود الذين اتَّبعوا ما تتلو الشياطينُ على مُلْك سليمان، وما كفَر سليمان ولكن الشياطين كفروا، وكَفَر أولئك اليهود وخَلَفُهم ممَّن يتسمَّى باسم الإسلام، ويتَّخذ آياتِ القرآن الحكيم طلاسمَ وتعزيمات سِحريَّة؛ استهزاءً بآياتِ الله التي أنْزَلها هدًى للناس، وبيِّنات من الهدى والفرقان.

لهؤلاء الشياطين مِن السادة والرؤساء والشيوخ والكبراء رابطةٌ أشدُّ رابطة، وصلة وثيقة بشياطين الجِنِّ، بما يُوحُون إليهم من أنواع الكفر والضلال والفساد، ويُزخرِفون لهم مِن ألوان الشِّرْك والزَّيْغ والإلْحاد في أسماء الله وصِفاته، وبما يُروِّجون لهم عندَ العامَّة والطَّغَام مِن السِّحر وغرائب الأمور، والشعوذات التي يُسمُّونها كراماتٍ، يتخذون منها أغلالاً وسلاسلَ يُقيِّدون بها نفوسَ العامَّة وقلوبهم، ويشدونها شدًّا وثيقًا في رِكاب أولئك السادة والكبراء والشيوخ، ويَجعلون من هذه الشعوذاتِ والمخاريق السحرية أغشيةً وحُجُبًا على أسماعهم وأبصارهم، وأكنَّةً على قلوبهم، فلا يُفكِّرون ولا يخطُر لهم على بال أن يحاولوا التخلُّصَ مِن هذه السلاسل والأغلال؛ حتى لا يثوبوا أبدًا إلى رُشْدهم، ولا يتوبوا إلى ربِّهم، ولا يَرجعوا إلى دِين الحقِّ الذي ارْتضاه الله العليم الحكيم الخبير، فأوْحاه وأنْزَل به الرُّوحَ الأمين على قلْب صفوته مِن خِلْقه وخِيرَة رسله، خاتمِ المرسَلين وإمام الهُداة المهتدين، محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وعلى آله أجمعين.

فاسمع إلى وعيدِهم وتهديدهم؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾ [مريم: 83 – 84]؛ ذلك لأنَّ بينهم وبين أولئك الشياطين أقوى المدَّة، وآكد الولاية؛ ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 27 – 30].

وهل هناك فاحشةٌ أعظمُ من اتِّخاذ الرِّجَام والأحجار، والنحاس والحديد، الذي أُقيم أوثانًا وأنصابًا على قبور أوليائهم، يعبدونها بأنواعِ العبادات، ويُعفِّرون عندها الوجوه، ويتمسَّحون بها ويَتَّخذونها آلهةً مِن دون الله، يُحبُّونها ويَخافونها ويَرجونها، كما يخاف المؤمنُ ويرجو ربَّه وحْدَه؟!

هل هناك فاحشةٌ أغلظ مِن هذه الفاحِشة، وأشنع وأقبح عندَ ربِّ العالمين، وعند ذوي العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة على سُنَّة الله وصِراطه المستقيم؟!

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21]؛ أي: وربِّكَ إنَّهم ليحرصون على تقليدِ آبائهم وشيوخهم، ولو كانوا مُتَّبعين الشيطان الذي يدعو حزبَه ليكونوا مِن أصحاب السعير، وعياذًا بالله.

واسمعْ إلى قوْل الله في موالاةِ هؤلاء الشياطين من الجن والإنس، واستمتاعهم ببعض: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 128 -130].

وفي وحي الشياطين لأوليائهم لترويجِ الشِّرْك بالباطل، يقول: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 121].

ويقول الله في بيان حقيقةِ الشرك بدعاء الموتَى والتبرُّك برِجامهم وما نُصِب على قبورهم بوحي الشيطان، وأنَّه في الواقِع ليس دعاءً وعبادةً للأنبياء، ولا للأولياء والصالحين، الذين يتبرَّؤون يوم القيامة مِن عبادتهم، ويقولون لهم: ﴿ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [يونس: 29]، وإنَّما هو في الحقيقة عبادةٌ ودعاء للشيطان.

فيما قصَّ الله علينا من محاجَّة إبراهيم لأبيه ودعوته إلى إخلاصِ العبادة لله: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 42 – 45]، ويقول الله في هذا المعنى مِن أنَّ الشرك إنَّما هو عبادة الشيطان: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 117 – 119]، ويقول الله أيضًا: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 -100] ويقول أيضًا: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].

إذا عرفتَ هذا وعرفتَ أنَّ الفسادَ كلَّه والشرك، والفسوق والعصيان، والتمرُّد على الله، والتكذيب بآياته العلمية والكفر بنعمه، والاستكبار عن آياته وسُننه الكونية – إنَّما كل ذلك مِن وحي الشيطان إلى أوليائه مِن شياطين الإنس، وإمداده إيَّاهم بأنواع المكْر والحِيلة والمجادَلة بالباطل؛ ليُروِّجوا ذلك ويشيعوه في الناس، ويُحاربوا به اللهَ وكُتبَه ورُسلَه، فاعلم أنَّ أصل ذلك وأساسه الذي قام عليه مِن أوَّل الأمر، هو بعينه الأساسُ والأصْل الذي يقوم عليه في كلِّ وقت وفى كلِّ بيئة وبلد، وإنْ كان في زمننا قد زادتْ شجرتُه الخبيثة جُذورًا وفروعًا وثمرات، ألا وهو تشبيهُ الخَلْق بالخالق، وانتزاع بعضِ صِفات الرُّبوبيَّة، وخلعها ظلمًا وبغيًا على أولئك الخلْق، الذين يتَّخذهم الشيطانُ أولياءَه مِن المعظَّمين بالباطل، أو من الصُّوَر الوهميَّة الخياليَّة، التي يُقيمها الشيطانُ بوحيه في خرائبِ أدْمِغة الذين لا يَعْقِلون، لمن كانوا معظَّمين في حياتهم بحقٍّ مِن أنبياء الله أو عبادِه الصالحين، فيُقيم مِن أوليائه أعداءً لهم في حياتهم، يوحي إليهم ويمدُّهم بأنواع الكيد والكفر، محاولين قتلَهم، وقَطْع غيْث الرحمة والهُدى الذي ينزله الله عليهم لإنقاذِ الإنسانيَّة مِن إفسادهم، ولينفخ الله في الناس رُوحَ الحياة الكريمة التي أفقدَهم إيَّاها أعداءُ الإنسانية مِن أولئك الشياطين، فإذا لم يستطيعوا قتْلَهم بما حَفِظهم الله به وعَصَمهم حتى يُبلِّغوا رسالاتِه، ويُقيموا على الصِّراطِ المستقيم أعلامَه ومنارَه، عمد الشيطانُ فأوحى إلى أوليائه أن يَكيدوا لرسالاتِهم، وأن يَعْمَلوا على إطفاء نورِ الله، وطمْسِ منارِ الصراط وأعلام الهُدى، ولا يكون أقرب ولا أيْسَر على الشيطان مِن أن يأخذ طريقَه على هؤلاء الأنبياء، راكبًا مَطيَّة ما لهم في النُّفوس مِن الإجلال والمحبَّة، فيوحي إلى أوليائه أن يَغْلُوا في شخْصِ الرسول، ويُبالغوا في هذا الغلو – وهم واجِدون مِن قلوب العامَّة لذلك البَهْرَج والسُّم الزعاف في الدسم إصغاءً وقَبولاً – فما يزالون بهم حتَّى يخرجوهم عن دائرةِ البشريَّة، إلى دائرةٍ أخرى وهميَّة خياليَّة، لا حقيقةَ لها ولا وجودَ في الواقِع ونفْس الأمر، هي بُنوَّة الله في صُوَرٍ شتَّى منها: أنَّهم النور الذي فاض مِن الله أولاً، فخُلِقَتْ منه الأكوان، فإذا بلغوا بهم إلى ذلك، فقدْ نالوا منهم مآربَهم، ووصلوا إلى غايتهم التي لها يَعْملون، وإليها يسعون جاهدين، والتي قد تَخصَّص الشيطان فيها منذ القِدم فأَتْقَنها بأفانينه، مِن الأماني الكاذبة، والمخادعة والتغرير، ومَكْر السيئ.

تلك الغاية هي تكذيبُ الله ورُسله في أنَّ هؤلاء بشرٌ مثل كلِّ البشَر، تفضَّل اللهُ عليهم فاصْطفاهم لرِسالتِه، ثم يَخرجون مِنْ هذا التكذيب – الذي يلزم منه ولا بدَّ الكفر بالله وكُتبه ورسله – إلى اتِّخاذهم آلهةً مِن دون الله، ويَخلعون عليهم كذبًا وبُهتانًا مِن صِفات الربوبيَّة ما سيأتيك بيانُه – إنْ شاء الله.

وقد تَمَّ للشيطان وحِزْبه كلُّ ما أرادوا ممَّا نصبوا أنفسهم له منذ الخَلْق الأول مِن تغيير خَلْق الله، والفسوق عن سُنن الله وآياته وشرائعِه، والقعود على صراطِه المستقيم، وعاد أكثرُ الناس كافرًا غيرَ شاكِر، ظالمًا غيرَ عادل، غاويًا غيرَ راشد، جاهلاً عدوًّا للعلم، ضالاًّ عدوًّا للهُدى، سَفيهًا عدوًّا للحِكمة.

وعندئذٍ يكون أيْسَر اليُسْرِ على الشيطان وحِزبه أن يأخذوا بأولئك الغاوين الجاهلين السفهاء إلى كلِّ مَهْلَكة، مُصَدِّقين ما يَعِدُهم به مِن غُرور وأماني كاذِبة، ويَبلُغ مِن سلطانه عليهم بهذا الجهْل والغي والسَّفَه أن يتَّخذَ منهم أعداءً ألِداءَ لرُسل الله وكُتبه، ويَغُرّهم أنهم إنما يَدينون دِينَ الباطل والكفْر والتكذيب لله ولكُتبه ورسله؛ تعظيمًا لأولئك الأنبياء والصالحين بما يتغنَّوْن به صباحًا ومساءً، وسرًّا وجهرًا مِن مثل:

يَا أَشْرَفَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ
سِوَاكَ عِنْدَ حُدُوثِ الحَادِثِ الْعَمَمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا
وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ

وهذا صريحٌ بلفظه العربي في أنَّ الرسول يملك الدنيا والآخِرة، بل هما بعضُ ما جاد به، وأنَّ عِلم اللَّوْح المحفوظ مِن بعض عِلمه، وعلمُه أوسعُ مِن ذلك، وأنَّه – لذلك – الملاذُ والملجأُ الأوْحد للشاعِر عندَ حدوث حوادثِ الآخرة إذا زُلزلتِ الساعة زلزلتَها العظيمة التي يراها الناسُ، حين تَذْهَل كلُّ مرضعة عمَّا أرضعتْ، وتضع كلُّ ذات حمل حملَها، وترى الناس سُكارَى وما هم بسُكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد، وكان يَنبغي أن تكونَ الآية مِن سورة الحج: (ولكن عذابَ محمَّد شديد)، وليس أبلغ مِن هذا في تكذيبِ الله ورسوله، ولا أشنعَ في الكفر من هذا!

وإنَّما سُقْنا هذا على سَبيلِ المثال، وإلا ففي أشعارهم ومُؤلَّفات موالدِهم، وكُتُب أورادهم وأحزابهم ما هو أعظمُ مِن هذا، وأعظم بلاءً وكفرًا، وهو رائجٌ في الناس أعظم مِن رواج القرآن والبخاري ومسلم، يحفظونه عن ظهْر قلْب، ويتعبَّدون به أشدَّ مِن تعبُّدِهم بِتلاوةِ وتدبُّر آيات الذِّكر الحكيم.

والله يقول ويُكرِّر القولَ ويؤكِّد: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34]، ويقول: ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 93].

والرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – يُكرِّر ذلك ويؤكِّد.

ففي الصَّحيحَيْن: ((إنَّما أنا بشَرٌ أنسَى كما تنسَوْن، فإذا نسيتُ فذكِّروني))[1]، ((إنَّما أنا بشَرٌ، وإنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجته مِن بعض، وأقضي له على نحو ممَّا أسْمع))[2]، وغير ذلك كثيرٌ جدًّا لا يُحصى.

ويوحي اللهُ إليه أن يُحذِّر المؤمنين مِن كَيْد الشيطان وحِزْبه، وتَلطُّفه في الحيلة للناس باتِّخاذ شخْصه – صلَّى الله عليه وسلَّم – سبيلاً إلى الكفْر به، كما صنعوا به ومَن قبله مِن الأنبياء.

فيقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولكن أمر الله كان قدرًا مقدورًا))، فلم تُغنِ عنهم هذه التحذيراتُ شيئًا، بل استطاع الشيطانُ أن يركبَ هو وحزبه أقفية الناس، ويتَّخذ منهم مطايا للكُفْر بالله وكتابِه ورسولِه مِن هذا الطريق، فيزعم لهم – كما زعَم للمشركين الأوَّلين – أنَّ محمدًا أوَّلُ خلق الله، وأنه النور الذي خُلِقت منه الأكوان، وأنَّ كل شيء إنَّما خُلِق من أجله، لا بسُنَّة الله وحِكمته ورحمته، حتَّى بَلَغ مِن كيْده وإضلاله أن يُنادي بهذا البهتان وتكذيب الله ورسوله على المنابِر والمنارات في مشارقِ الأرْض ومغاربها، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله.

وأنتَ إذا ثُبْتَ إلى رُشْدك، وخلعت رِبقةَ التقليد الأعمى، وكشَف الله عن بصيرتك حُجُبَ الجهل والعَمَه، وصقلتها بجلاء التفكُّر في آيات الله الكونية والقرآنية، فآمنت بنِعمة الله في إنسانيتك، فقدرتَها وشكرتَها كما يحبُّ ربُّكَ ويرْضَى، ثم بحثتَ الشرك والمشركين قديمًا وحديثًا مِن كتاب الله، وفي الواقِع تحتَ سمعك وبصرك، لعَرَفتَ يقينًا لا شكَّ فيه أنَّ الشرك بوَدٍّ وسُواع، ويغوث ويعوق ونسر، وبالكواكب وسدنتها، وباللات والعُزَّى ومناة، وببوذا وبرهما، وبآلهة عاد وثمود، وبآلهة اليونانيين والآشوريين، وقدماء المصريين هو بعينه الشِّرْك الواقِع تحتَ سمعِك وبصرِك بالأولياء وقُبورهم وآثارِهم، حذوَ النَّعْل بالنَّعْل، وأنَّ اختلاف أسماءِ العابدين والمعبودين لا يُغيِّر حقيقةَ هذا الشِّرْك وما تحتَه مِن أنواع العبادات الوثنيَّة وهياكلها، وطقوسها وأعيادها.

ذلك أنَّ الإنسان هو الإنسان، وأنَّ الشيطان هو الشيطان، وأنَّ الدين الحق في رسالة نُوح هو الدِّين الحق في رِسالة محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأنَّ أعداء الأنبياء هم أعداءُ الأنبياء، وعداوة الله هي عداوة الله؛ ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس:19]، ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].

وإذا تدبَّرْتَ آياتِ الشِّرك في القرآن حقَّ تدبُّرِها، ورأيتَ أنَّ الله يتبع كثيرًا من هذه الآيات تنزيهَ نفْسه سبحانه عن الولَدِ، لعرَفْتَ يقينًا لا شكَّ فيه أيضًا أنَّ أساس الشرك هو دعْوَى الولدية لله سبحانه؛ إذ يقول الله بعدَ تقريع وتهديد قريش حين منعتْ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – والمؤمنين أن يُصلُّوا في المسجد الحرام: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 116 – 117]، ويقول لقريش أيضًا بعدَ أنَّ ذكَّرهم بآلائه ونِعمه التي هي مِن خلْقه وحْدَه، ومِن آثار قدرته: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 100 – 103].

ويقول خِطابًا لمشركي قريش ومَن خلفهم: ﴿ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 66 – 70]، ويقول: ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 4 – 5]، ويقول: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [مريم: 81 – 82]، ويقول: ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ تَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 87 – 95]، ويقول: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 22 – 29].

واقرأ بعدَ ذلك آياتِه الكونيةَ، الناطقةَ بعظيم قدرته ورحمته وحْدَه لا شريكَ له؛ إذ يقول سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ إلى أنْ قال: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: 78 -92]، ويقول: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 2 – 3].

ويقول: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 151 – 152] إلى أنْ قال: ﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 158 – 163]، ويقول: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [الزمر: 2 – 6].

ويقول: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الزخرف: 80 – 88].

ويقول: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الجن: 3 – 5].

ويقول في بيان استحالةِ ذلك؛ لأنَّه هو الذي فطَر السمواتِ والأرضَ، وخَلَق الأزواج من الإنسان والأنعام وما يتوالد منها، وأنَّه مُحالٌ أن يكون هو مِن جنس شيء ممَّا خَلَق، أو من جنسه شيء، حتى يصحَّ التوالد بينه سبحانه وبيْن هذا الشيء، فيتخذ إلهًا معه سبحانه: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 11 – 12].

ثم يقول بعدَ آيات بيَّن فيها أنَّ شَرْع محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – ودِينه في ذلك، وما يستتبعه مِن إخلاص الإلهية والعبادة لله وحْدَه، وأنَّه لا يُعبَد إلا بما شرَع، ولا يَتحدَّث عنه ولا عن دِينه بالحقِّ الذي يُوحَى له إلى رُسلُه، وأنَّ هذا الدين الجامع الذي يجمع الله به القلوب على عقيدة واحدة، وعمل واحد، ويأخذ بهم في شؤونهم إلى صِراطه المستقيم الواحِد، فينالون سعادةَ الدُّنيا والآخِرة ما داموا كذلك أُمَّةً واحدة، مُوحّدة بأنواع هذا التوحيد، وأنهم ما يختلفون ويَتَفَرَّقون إلا بترْكهم هذا العلمَ المُوحَى به، فيجادلون في الله بغيْرِ عِلم، بل بالظنون والأهواء والباطِل الذي يُقلِّدون فيه شُركاءَهم الذين شرَعوا لهم مِنَ الدين ما لم يأذنْ به الله.

فاسمعْ إليه سبحانه وهو يقول في هؤلاء وفي عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وما يؤول إليه أمرُهم ولا بدَّ: ﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ إلى أن يقول: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 16 – 21]، ثم ختَم ذلك بسورة الإخلاص التي هي في مَدْلولها ومعناها مِن توحيدِ الله الجامِع لكلِّ أنواع التَّوْحيد العِلمي والاعْتِقادي والعَمَلي: تَعْدِل ثُلُثَ مَدْلول القرآن ومعناه ومقاصِده؛ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4].

فاعلمْ – وفَّقني الله وإيَّاك للسداد والحكمة، والرشد في القول والعمل – أنَّ الشيطان كاد لبني آدمَ مِن قديم الزمن شرَّ كيد، ومكَر بهم أسوأ مَكْر، بما أغراهم في الله وأسمائه وصِفاته بالظنون الجاهِلة الكاذبة، والأهواء الغاوية الخاطئة، حين صَرَفهم عنِ الحقِّ الذي تعهَّد الله به الإنسان في كلِّ أطواره وأدْوارِه، بما يصطفي مِن رُسل، ويبعث مِن أنبياء يُنذِرون الناس ويُحذِّرونهم كيْدَ الشيطان، ومكْرَه وإضلاله، ويَهدونهم إلى صراطِ الله المستقيم في معرفته بأسمائه وصفاته، وآثار رحْمتِه وقُدرته وحِكمتِه، وفي إخلاص العِبادة والإسلام له وحْدَه؛ لأنَّه الكبيرُ المتعالي، القَوي العزيز، الحي القيوم، الخالِق البارئ المصَوّر، الذي له الأسماءُ الحُسْنى، والذي يُسبِّح له ما في السموات والأرض، وأنَّ كلَّ شيء في الوجود فهو خَلْقه وحْده، وهو تحت قهْره وحْده، فمِنهم مَن هدى الله ومِنهم مَن حقَّتْ عليه الضَّلالة: فأمَّا الذين هداهم الله بسُنن الفطرة وآياته الكونيَّة، التي آمنوا بها فعَرَفوا منها ربَّهم العليمَ الحكيم، ربَّ العالمين، فهم حريصون أبدًا على الاستِمْساك برِسالة المُرسَلين، قابضون بأيديهم وعاضُّون بالنواجِذ على سُنَّتهم، منتبهون لا يَغفُلون، يَقِظون لا ينامون، مهما حاول الشيطانُ أن يُنيمَهم بمَكْرِه وخديعته، أولئك على هدًى مِن ربِّهم وأولئك هم المفلحون.

وأمَّا الذين حقَّتْ عليهم الضلالة، فإنَّهم يَستنيمون للشيطان، ويُخدَعون بمكره، فيَكْفُرون بآياتِ الله الكونية في أنفسهم وفي الآفاق، ويَعْمُون عنها ويصمُّون آذانهم عن نِدائها، فتنعكِس فِطرتُهم، ويرتدُّون إلى دَرَكات البهيميَّة في أسفل سافلين، ويتولَّوْن مُدْبِرين مع مولاهم الشيطان الرجيم، يضرب بهم في بيداءِ الجهالة، ويَخْبِط بهم في ظُلمات الغي والضلالة، ويُقيم لهم مِن التخيُّلات والأوهام، ويُمنِّيهم أكذبَ الأماني، ويَعِدُهم أخسرَ العادات؛ ليبقوا على ما هم فيه مِن ضلالة، ويَستمرّ سلطانه عليهم نافذًا، وقوله فيهم مصدقًا، ودعاؤه لهم مُستجابًا، حتى تتوفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فيَنكشِف لهم حينئذ الخيالات والأوهام، والتقاليد التي كان قد حَجَب بها قلوبَهم، وقتَل بها إنسانيتَهم، وحَقَّتْ عليهم بها كلمةُ العذاب، فيقول قائلهم: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99 – 100]، ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الأنعام: 30].

لطالَما كاد الشيطانُ لهؤلاء وخدَعهم، حين قطعوا صِلتَهم بالعلم السماوي، وأعْرضوا عن سُنن المرسَلين، واستجابوا لهذا العدوِّ الماكر، حين أغراهم أن يُحكِّموا عقولَهم وأهواءَهم وآراءَهم في الله وأسمائه وصفاته، ودِينه وشرائعه وحقوقِه على عباده، وجَرَّهم مِن وراء ذلك إلى أنواعٍ من الزَّيْغ والكُفر والإلحاد، فقد رَكِب هذه العقولَ المعكوسة المنكوسة، واتَّخذ منها أوكارًا يبيضُ فيها ويفرخ ما نَعِقَتْ به فلاسفةُ الهند والفرس واليونان، وقدماء المصريين، وغيرهم مِن كلِّ زائغ عن الصراط السوي، مُلحِد في الله وآياته وأسْمائِه وصِفاتِه.

فلقدِ انتهزَ الشيطانُ مِنْ أولئك الفلاسفة إعراضَهم عن العِلم السماوي وكراهيتهم التي مكَّنها في قُلوبهم لرُسل الله، وما ملأ به نفوسَهم مِنَ الحِقْد والغِل على الله ورُسلِه، وكُتبِه وشرائعِه، ثم ما فُتِنوا به من الذكاء وحِدَّة الذِّهن، فأجْرَى على ألسِنتهم بعضَ الحِكَم الاجتماعيَّة، والتعاليم الأخلاقيَّة، والفنون الصناعيَّة التي أتقنوها بطول المران والمُمارَسة، وعناية وليِّهم الشيطان بهم في ذلك، بما زَيَّن لهم مِن حِذْق لدِراسة ظواهر الكَوْن، وطبقات الناس، وأوْحَى إليهم بمقدِّمات ونتائج، إلى غيرِ ذلك مما أتْقَنه أولئك الفلاسفةُ مِن نظريات، هي في الواقِع عندَ التحقيق تنتهي إلى أمورٍ بسيطة إذا كانت متعلِّقةً بظواهر الكون، واختلاف طبقات الناس، والأشياء الواقِعة تحتَ حواسِّ كلِّ الناس، وهي ميسورةٌ لكل واحد منهم، بدون هذا التعقيد الفلسفي، وبدون هذا اللَّفِّ والدوران الطويل المملّ، إذا آمَنَ الناس بسُنن الفِطرة، وآيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، أو تَنتهي إلى أسخفِ السخف، وأجهل الجهل، وأكْفر الكفر، إذا كانتْ مُتعلِّقة بما وراء هذا العالَم المادي، ممَّا استأثر الله سبحانه بعِلمه من عالَم الغيب، في ذاتِ الله وأسمائه وصفاته، وأسرار رُبوبيته في الرُّوح، والموت وما وراءَ هذه الحياة الدنيا من شؤون الملائكة، والحساب والثواب، والآخِرة والجنة والنار.

ولكنَّه وحي الشيطان وأمانيه الكاذبة، ثم فَتَن بهم الدهماءَ وجماهيرَ العامَّة، فاتَّخذوهم أئمَّةً وقادة أوْحى إليهم أن يترفَّعوا عما يتورَّط فيه السفلةُ والدهماء، فحرَّم عليهم زِينةَ الله التي أخْرَجها لعباده والطيِّبات مِن الرِّزق، وأن يُبالغوا في إرْهاق أجسامِهم، وحِرْمانها مِن لازمات عيشها، فاتَّسموا في الناس بسِمة التنسُّك والزهد في مُتَع الدنيا وملاذِّ الحياة.

وحلُّوا مِن نفوسِ الدَّهْماء والعامَّة محلَّ الكرامة، وسَمَوْا في أعينهم، فعندئذٍ اتَّخذ منهم الشيطان مطايا لكَيْده ومكْره السيئ بهم وبالناس، إذ غرَّهم وأَوْهَمَهُم أنَّهم على شيء من الحِكمة، وأنهم مُلزَمون بإصلاح الناس، فأوْحَى إليهم أن يَبحثوا في حقيقة الله، وما هو؟ وممَّ هو؟ – سبحانه وتعالى – ولماذا لا يَسلُكون هذا الطريقَ الذي استحال على غيرِهم سلوكُه، وهم قد بلَغوا عندَ أنفسهم وعند العامَّة هذه الدرجةَ من السموِّ والمعرفة؟

فعندئذٍ أخَذ الشيطان يَضرِب بهم في متاهاتِ الجهل وفيافي الضلال، وكلَّما قَطَع بهم شوطًا خَيَّل لهم السرابَ ماءً، وأنَّه أصبح منهم قريبًا، وما زال يطوف بهم في خرباتِ الجهل، ومتاهات الهوى والبغي، وما زال العقل المنكوس، والرأي الخاطئ، حتى خرَج بهم أخيرًا بإلهٍ مِن صُنْعه، وهو مرَّةً العقلُ الأول، ومرَّة الوجود الكلي، ومرة الوجود المطلق، ومرة الهيولي الكلي، ومرة العنصر الكلي الذي انفَصَل عنه هذه الموجودات، ومرَّةً الشيء الذي لا يُوصَف بأيَّةِ صفة، ولا يُعرَف بأيِّ نوع من المعرفة إلا بنوع مِن كشْف الحُجب التي أقامها حولَ العامَّة في ظلمات هذا الجِسْم الكثيف، وتجلِّي الأرواح حين تنسلِخ من ظلمات المادَّة، وتتجرَّد من قيود البشرية، بأنواعٍ مِن الرِّياضياتِ والخلوات، وتعذيب الجسم وتجْويعه، فتَعرِفه عندئذٍ أنَّه هو هو.

ثم أوْحَى إليهم أنَّ ربَّهم الذي صنَعَه لهم بوحيه وغُروره قد فاض منه هذا الوجودُ فيضًا، وانفصَل عنه انفصالاً، بلا إرادةٍ ولا مشيئة ولا حِكمة، ففاض عنه أولاً الوجود الثاني، الذي كان منه كلُّ الموجودات بعدَ ذلك، ثم أوْحَى إليهم في كل عصر بصُورة مزخرفة لهذا الوجود الثاني بحسب ما يَرُوق لهم ويَرُوج عندهم.

فعند البَراهِمة: هو برْهما، وعند البوذيين: هو بُوذا، وعند اليهود هو يعقوب، ثم بنوه وما تناسَل منهم، وعند النصارى: هو عيسى، وعند الباطنية هو عليّ، ثم فاض هذا النُّور، أو حلَّتْ رُوحه في كَهنة براهما وبوذا، وأبناء يعقوب وأحبارهم وكَهنتهم، وفي القسِّيسين والرُّهْبان، وفي أبناء عليٍّ ومَن عبدَهم واتَّخذَهم آلهة، وفى شيوخ الصوفيَّة وأئمَّتهم.

واقرأ بتدبُّرٍ قولَ الله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18]، وقوله: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30 – 31]، فقول الله سبحانه: ﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ﴾ واضحٌ في أنَّهم لم يخترِعوا هذه العقيدةَ الكُفرية، عقيدة بُنوَّة مقدَّسيهم لله، وإنَّما هي – كما أثبَت التاريخُ والواقع الموجود في الهِند وغيرها – عقيدةٌ وثنيَّة قديمة، وأنَّ دعوى اليهود والنصارى أنَّهم أبناء الله، وأنَّ عُزيرًا وعيسى ابنَا الله – سبحانه – إنَّما هي على معنى فيْض هذا النور، أو الرُّوح الأول، الذي حلَّ في يعقوب، ثم في العزير وأحبار اليهود، وفي عيسى، ثم في القسيسين ورُهبانهم وقِدِّيسيهم، مما يدلُّ على أنَّ الشيطان قد أوْحَى هذه العقيدةَ الوثنية مِن القديم: أنَّ قوم نوح كانوا يَعتقدونها في وَدٍّ وسُواعٍ ويغوثَ ويَعوقَ ونسْرٍ، آلهتِهم وأوليائِهم مِن موتى الصالحين؛ إذ يقولون لنُوح – عليه السلام -: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]، فماذا يَستنكِرون من نوح أن يكون بشَرًا مثلهم إلاَّ ما أوْحاه الشيطان إليهم وإلى شيوخهم وأئمَّتهم: أنَّ المقدَّسين من بني آدم الذين يتَّصلون بالله، ويجعلهم وسائطَ بينه وبين خلْقه، لا بدَّ أن يكون فيهم مِن بعض صِفات الربوبيَّة؛ يعني: الرُّوح، أو النور، الذي يجعلهم طبقةً أعلى من البشَر، وأقرب إلى الربِّ؛ لتقع هذه الوساطة على ما يَعْرِفون من وسائطِ الخلق عندَ الكُبَراء والرؤساء والملوك؛ إذ لا بدَّ أن يكون لهم مِن صِلة النَّسَب والقَرابة مِن هؤلاء الملوك والرؤساء وما يُمكنهم مِن الوساطة عندهم لِمَن دونهم مِن طبقات الناس الذين لا تكون لهم هذه الصِّلةُ والقَرابة بأولئك الرُّؤساء والملوك.

وكذلك كانتْ هذه عقيدةَ كلِّ الوثنيِّين الأوَّلين والآخِرين، فقدْ سجَّل الله في كتابه ذلك باستنكارِه أن يَبعثَ الله بَشَرًا مثلَهم رسولاً.

وعلى ذلك فلا تكون عقيدةُ البنوة قاصرةً على اليهود والنَّصارى، ولا على عيسى وعزيز، بل هي عامَّة عند كل وثني يعتقد أنَّ نورًا أو رُوحًا فاض مِنَ الله أو انفصَل عنه، فحلَّ في معبوديهم ومُقدَّسيهم؛ إذ إنَّ الولديَّة والوالدية والأُبوة والبُنوة التي يُنزِّه الله نفسَه العلية عنها كما يدلُّ القرآن بنصوصه الواضِحة – ليستْ ولديَّة وبنوَّة البَشَر، إنما هي توالُد هؤلاء المقدَّسين وانفصالهم بهذا الفَيْض من الربِّ – سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالِمون علوًّا كبيرًا.

فكل شيء ينفصِل عن شيء، يُقال له في اللغة: إنَّه تولَّد عنه، فالشَّجر يتوالَد، والمعادِن تتوالَد، وهذا لا يحتاج إلى برهان ولا دليل؛ لأنَّه بدهي محسوس، والذين قالوا: الملائِكة بنات الله وبيْن الجِنَّة نَسبًا ليس معنى قولِهم إلا ذلك، وأنَّها من نور الله أو رُوح فاض مِن الله، وكذلك النَّصارَى لا يقولون: إنَّ الله تزوَّج مريم كما يتزوَّج الرِّجالُ النِّساء، ثم استَوْلَدها عيسى، فإنَّ عندهم أنَّ عيسى من جِهة الناسوت ابن ليوسف النجَّار، وإنَّما هو ابنُ الله من جِهة اللاهوت؛ قال نوفل بن نعمة الله في كتاب “سوسنه سليمان”: إنَّ عقيدة النَّصارى التي لا تَختلِف بالنسبة لها الكنائس أنَّ يسوع الابن الوحيد المولود مِن الآب قبلَ الدهور مِن نور الله، مولود غير مخلوق، وقال القس بوطر في رسالة سمَّاها “الأصول والفروع”: بناءً على ما تقدَّم يظهر جليًّا أنَّ عبارة “الابن” لا تُشير كما فَهِم بعضٌ خطأً إلى ولادة بشريَّة، ولكنَّها تَصِف سريَّة فائقة بين أقنوم وآخَر في اللاهوت الواحِد… إلى أن قال: وأمَّا الولادة البشريَّة، فالله مُنزَّه عنها؛ ا.هـ.

فمِن هذا نعلم يقينًا أنَّ هذه البنوَّة هي بعينها بنوَّة برهما، وآلهة قوم نوح وقوم هود، وقوم صالح، وآلهة قدماء اليونانيِّين والمصريِّين، وبنوَّة ملوك اليابان وآلهتهم وآلهة الصين، وأن الذي أفَّك هذه البنوة مِن قديم الزمن هو الشيطان الذي أغْرَى اليهود، وعلَّمهم كيف يَنقُلون النصارى إلى هذه العقيدة بحِيَلِه ومَكْره، وأنَّ الشيطان لم يفتأ يُروِّج ويوحي إلى أوليائه هذه العقيدة الوثنيَّة، التي هي أقذرُ وأخبثُ عقيدةٍ شِركية إلى اليوم، مستغلاًّ جهلَ الناس وغباوتهم، وعمَى بصائرهم بالتقليد الأعْمى، الذي أعْرَضوا به عن تدبُّرِ وفَهْم كتاب الله، وهَدْي رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مصداقًا لقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم، شِبرًا بشبر، وذِراعًا بذراع، حتى لو دَخَلوا جُحْر ضبٍّ لدخلتموه))[3].

والآن وقدْ بينَّا ما كاد به الشيطانُ للأمم في القديم والحديث؛ كي تكون على حذرٍ مِن مكْرِه، نعود إلى تفسيرِ الآية الكريمة:

﴿ قُضِيَ الأَمْرُ ﴾ [إبراهيم: 22]؛ أي: حَكَم اللهُ وفَصَل ما بينهم وبيْن رُسلِهم من اختلاف؛ أي: صار بحيث لا يمكن استدراكُه ولا تلافيه ولا الرجوع فيه، فإنَّ الله لا رَادَّ لحُكمه، ولا مُعقِّب لفَصْله وقضائه؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾ [إبراهيم: 22] بما أقام في سُننه الكونية في خلْق السموات والأرْض والأنفُس مِن الحقِّ والعدْل، والحِكْمة البالِغة، التي لا يُمكن أن يأتيَها الباطِل ولا العبَث أو النَّقْص والعيْب مِن أي ناحية، وبما أوْحى إلى رُسله، وأنزل مِن كتبه مِن الحقِّ والعدل، والهُدى والرشد، ووَعَد فيها وضمِن لمَن اهتدى بهداهم، واستقام على صِراطهم المُستقيم مِن الفلاح والفوز بسعادةِ الدنيا والآخِرة، وتوعَّد وأنْذَر مَن تنكَّبَ صِراطَهم واتَّبع خطواتِ الشيطان مِن الخيبة والخُسران، والشقاء والهلاك، والعذاب في الدنيا والآخرة، والله – سبحانه وتعالى – يستحيلُ عليه خُلْفُ وعْده ووعيده؛ لأنَّه الله، قيوم السموات والأرْض ومن فيهن، القاهر فوق عبادِه، الحكيم الخبير، والكل تحتَ قهْره وحُكمه، وهو القوي العزيز، العليم الحكيم، سريع العِقاب، الغفور الرحيم، ولا بدَّ أن يكون – لذلك – قولُه الحق، ووعده الحق، والجَنَّة حقٌّ والنار حقٌّ، والساعة آتيةٌ لا رَيبَ فيها، وأنَّه لا بدَّ أن يبعث مَن في القبور؛ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، ﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31].

﴿ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾: فإنَّه الذي عُرِف عنه من أوَّل أمْرِه الكذبُ والمخادَعة، والتغرير بالإنسان، والتمرُّد على الله، والفسوق عن سُننه وأمْره في الخَلْق والتكوين، والعلم والهداية والتشريع، وأنَّه لا يعتمد في كلِّ ذلك إلاَّ على الباطل وقلْب الأوضاع، وتغيير الحقائق الكونيَّة والدينيَّة، وكل الدلائل قائمةٌ على أنَّه لا يُمنِّي أولياءَه إلا أكذبَ الأماني، وأنَّه العدوُّ المبين الذي يدعو حِزبَه ليكونوا مِن أصحابِ السعير؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5 – 6].

وطالَما حذَّرهم الله من كَيْدِه وسيِّئ مَكْره، فلم يسمعوا اللهَ، وألقَوْا بقُلوبهم وأنفسهم إلى هذا العدوِّ، فأَكْفَرهم بالله وآياته، ثم ها هو الله سبحانه يقصُّ عليهم يومَ تَنكشِف أغطيةُ الغرور والتقليد والغَباوة، ما سيَعْتذر به هذا العدوُّ المبين وما سيَتَنَصَّل به منهم، وممَّا أوْقَعهم فيه، ويُلقي التَّبِعة عليهم وحْدَهم؛ إذ يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22].

نعم، لم يكن له عليهم مِن سُلطان بأصْلِ الفِطْرة التي فَطَرهم الله الرَّؤوفُ الرحيم عليها، فلقدْ أعطاهم في أنفُسهم وفي الآفاق مِن آيات قُدْرته وحِكمته وعِزَّته ورحْمتِه، وما أَوْحَى مِن كُتب وشرائع، وعِلْم وهُدًى ما يكون لهم مِنه أقْوى حِصْن وأمْضَى سلاح، يغلبون به هذا العدوَّ في معركةِ الحياة الدُّنيا، ويَسْلَمون مِن أسْره.

لكنَّهم انْسَلخوا بالتقليدِ الأَعْمى مِن كلِّ هذه الآيات الكونيَّة والعلميَّة، وخَرَجوا مِن حِصْنهم، وألْقوا إلى عدوِّهم السَّلَمَ فأتبعهم، فكانوا مِن الغاوين، وقهَرَهم لغباوتهم وجَهْلهم وبَلادتِهم بسُلطان مَكْره وتغريره، واسْتَأْسَروا فدَعاهم بغُروره وشهواتِ بَهيمتِهم الجامِحة، فاتَّبعوا أهواءَهم وأمانيَّهم الكاذِبة، وسوء ظنِّهم بالله وآياتِه وكُتُبه ورُسله، فكانوا كالكَلْب إنْ تَحمل عليه أو تَتركْه يلهث؛ ﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 176 – 177].

فهل يتفكَّر في هذه الآياتِ وأخواتِها أولئك المُنسلِخون مِن آياتِ الله، المكذِّبون بها، الذين قتَلوا عقولَهم وأسماعَهم وأبصارَهم بالتَّقليدِ الأعْمى، والإخلاد إلى أرْض البهيميَّة، وهل آنَ لهم أن يَثوبوا إلى رُشْدِهم، ويَرْجِعوا إلى ربِّهم يُؤمِنون به عليمًا حكيمًا، وبكُتبِه التي أوْحَى بها للهُدى والحق، فيفهموها ويعرفوا منها ربَّهم وحقَّه في العبادة الخالِصة، ويعرفوا رُسلَه فيؤمنوا بِهم ويُعطوهم حقَّهم مِن الطاعة والاتِّباع، ويَكْفُروا بالطاغوت الذي صدَّهم عنِ الله وكُتبه ورُسله أنَّهم إنْ فعلوا ذلك تابَ الله عليهم واستخلَصَهم من أَسْر الشيطان، وأذْهَب عنهم رِجْسَه، وطهَّرهم مِن خُبثه بفضْله ورحْمته وفِقههم في دِينه وكتابه، وهداهم صِراطه المستقيم، وكانوا مِن عباد الله المخلِصين الذين آمنوا وعلى ربِّهم يَتَوَكَّلون.

﴿ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ [إبراهيم: 22]، لا أقْدِر أن أستجيبَ لصراخكم وعويلكم في النَّار وعذابِ الله، فأُخفِّفه عنكم أو أُنجيكم مِن حُكم شديد العقاب، كما أنَّكم أنتم كذلك لا تَقْدِرون، وأنْ تستجيبوا لصراخي وعويلي، فأنتم والأبعدُ في عذاب الله وشديد عقابه سواء، وقد حقَّتْ على الجميع كلمةُ الله الحق؛ ﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 84 – 85]، ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ [الصافات: 24 – 34].

﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ﴾ [إبراهيم: 22]، يُحاول أن يتملَّص مِن تبعة إضلالهم؛ حتى يُخفِّف عنه مِن العذاب بقَدْر ما أضلَّ مِن عباد الله، فإنَّ مَن دعا إلى سيِّئ، وأغْرى به، فعليه إثْمُه وإثم مَن عمل به إلى يومِ القيامة، لا يَنقُص من آثام أتباعه شيء، ولكن خاب وخَسِر، فإنَّما يجزيه على كُفْرِه وإفساده وإضلاله اللهُ العليم الحكيم، الذي يَجزي كلَّ نفس بما كسَبَتْ، وما هو بِظلاَّم للعبيد؛ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].

فيصدر الحُكْم عليه وعليهم مِن الله سريعِ الحساب؛ ﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22]، وما ظلَمَهم الله في الدنيا ولا في الآخرة شيئًا، والحمد لله الذي نَطَقتْ آياتُه الكونيَّة وآيات وحيه بأنَّه الحَكَم العَدْل، اللطيف الخبير، ونادتْ بأصْرح بيان، وأرْفع نِداء، تهيب بالغافلين أن يَتنبهوا قَبل أن يأتي يومٌ لا مَرَدَّ له مِنَ الله، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بَنونَ، إلا مَنْ أتى الله بقلْب سليم[4].

في الصحيحَيْن عنِ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تطروني كما أَطْرَتِ النَّصارَى عيسى ابنَ مريم، فإنَّما أنا عبدُ الله ورسولُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه))[5].

إنَّ النصارى إنَّما وقَعوا فيما وقَعوا فيه من الكفر بالله وبعيسى ابن مريم، وبكلِّ أنبياء الله ورُسله وكُتُبه، كغيرِهم من الذين كفَروا مِن قَبْلهم؛ بسبب غُلوِّهم في تعظيم عيسى، حتَّى خرجوا به عن دائرةِ البشريَّة إلى الرُّبوبيَّة، بدعوة بُنوته للربِّ، وإنَّما كان ذلك بما أدْخَله عليهم الشيطانُ مِن عقيدة أنَّ عيسى إذْ جعَله الله وأُمَّه آية فخَلَقه مِن أُمٍّ بدون أب – لا بدَّ أن يكونَ له خصوصية عن كلِّ البَشَر في أصْل مادته بنوعٍ ما – كما سيأتي بيانه – فأَوْحى إليه الشيطان ذلك على ألْسِنة اليهود ألدِّ أعداء عيسى، وغيرهم مِن وَثنيِّي اليونان الذين كانتْ لهم آلهةٌ ومعبودات، أوْحى إليهم الشيطانُ عبادتَها وتقديسها، كما قال الله سبحانه: ﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].

وما كانتْ هذه الآلهة المقدَّسة إلاَّ خَلْقًا مِنْ خلْق الله، زيَّن لهم الشيطانُ أنَّهم ارْتَفعوا في خَلْقهم وصِفاتهم وأحوالهم عنْ طبيعةِ الخَلْق التي طبَع الله عليها أمثالَهم الذين هم مِن جنسهم؛ وذلك لأنَّهم فيهم فيضٌ مِن نور ربِّهم، ورُوح خاصّ انفَصَل عن ربِّهم، فرفَعَهم عن درجةِ الخَلْق إلى درجةٍ قريبة من الربِّ، الذي فاض عليهم نوره، أو حلَّ فيهم رُوحه الخاص بهم، وحين تَمكَّنَ ذلك مِن قلوب الناس وعقولهم، أوْحَى إليهم الشيطانُ أن يحاولوا التعبيرَ عن هذا المعنى الخاص بأولئك المُقدَّسين، فأخذتْهم الحَيْرة في اختيارِ اللفْظ المؤدِّي لهذا المعنى: هل يقولون: إنَّه خُلِق مثل غيرهم مِن الخَلْق؟ كلاَّ.

وكيف يسيغون ذلك، وهم في اعتقادِهم قدِ ارْتَفعوا عن طبيعة الخلق، إذًا فماذا يقولون؟ أَوْحى إليهم في ظُلمة هذه الحَيْرة التي أوْقَعهم فيها مِن طريق جَهْلهم بالكُتب المنزلة والأنبياء المُرْسَلين، ومِن طريق تمرُّدهم بعقولهم الجامِحة على الله وعلى سُنَّته، وعلى حدودِ ما أوقفهم بسُنن الفِطرة عندَه، وحِرْصهم على تَخَطِّي هذه الحدود إلى الخوْض فيما يعلو عن مداركِ عقولِهم ممَّا لا سبيلَ لحواسِّهم إلى إدْراكه.

أوْحَى إليهم في وسطِ هذه الظلمات أن يُسمُّوا هؤلاء المقدسين: أبناء ربِّهم؛ لأنَّها على معنى البُنوَّة البشرية أو الحيوانيَّة، فإنَّها تكون خدعةً يَسهُل التخلُّصُ منها ببعض التفكُّرِ فيما يلحق هذه البنوَّة الحيوانية ممَّا يرونه ويحسُّونه بحواسِّهم، تَقيهم من التبدُّل والتغيُّر والفناء، فحاطَها بأوهامٍ وتخيُّلات تَزيدُهم حيرةً وضَلالاً، بما أوْحَى إليهم مِن أنها سِرُّ ارتباط هؤلاء المُقدَّسين بربِّهم؛ بسبب حلولِ النور أو الرُّوح الخاصَّة المنفصِلة عن الربِّ فيهم، على معنى يَعجِز العقلُ البشريُّ أن يَتصوَّرها أو يُحدِّد حقيقتَها، فبقيتْ سرًّا، محظور على أي إنسانٍ أن يُفكِّر في كُنهه، ورمزًا حرامٌ على أي عاقل حَلُّه.

فهي عُقدة العُقَد التي لا حلَّ لها أبدًا ولا سلامة، إلا بالبُعدِ عنها وعن مسِّها بأي تفكير، والويل كل الويل لمَن حاول ذلك.

ومِن هنا كانتْ بُنوة برهما وبوذا عندَ وثنيِّ الهِنْد والصين، وبُنوة آلهة قُدماء المصريِّين والفُرْس، والآشوريين والرومان واليونان، وغيرهم مِن قدماء الوثنيِّين، وبنوة يعقوب وعُزَيْر وأحبار اليهود وكُهَّانهم، وبُنوة عيسى ابن مريم ورهبان النصارى وقسيسهم، بل وبُنوَّة آلهة قوم نوح وقوم هود وقوم صالح، وبُنوَّة الملائكة، واللات والعُزَّى وغيرهم من آلهة العرب، وعلى أساسِ هذه البُنوة الوهمية اتَّخذوهم وسائطَ بينهم وبين ربهم؛ لأنَّهم وسط بين عامَّة الخَلْق وبين الخلق، ويدلُّك بوُضوحٍ على عقيدةِ الشِّرْك هذه ما حكَى الله وقصَّ عن كفرِ الوثنيِّين في كل أمة، وردهم على أنبيائهم، فالله يحكي أنَّ قوم نوح وغيرهم من الوثنيِّين استنكروا نُبوَّة أولئك الأنبياء؛ لأنَّهم بشرٌ مثلهم، وهذا بعيدٌ فيما يتصوَّرون؛ لأنَّ الأنبياء يقولون: إنَّهم وسطاء بيْن الله وبيْن الناس في تبْليغ العِلم والهُدَى، والحق الذي يحبُّه الله ويرْضاه مِنَ الدِّين والعقيدة، والعمل والشريعة، وهؤلاء الوثنيُّون لا يتصوَّرون الوسائطَ إلا على صورة البُنوَّة التي ارتفع إليها مُقدَّسوهم بتلك الخصائص مِن النور أو الرُّوح الخاص الذي حلَّ فيهم مُنفَصلاً عن الربِّ، فصاروا وسائطَ بين العبد والرَّبِّ، وهم يَرَوْن أولئك الرسلَ يأكلون ويمشون معهم في الأسواق، ويعيشون كما يعيش غيرُهم مِنَ البشَر، فمِن هنا جاء استِنْكارُهم، وقولهم لكلِّ رسول: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]، وقولهم: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾ [هود: 27]، فهذا الفضْلُ هو ما توهَّموه لمقدَّسيهم من الزِّيادةِ في النور أو الرُّوح الفائض عليهم مِن الله – سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.

وترى ذلك واضحًا في الآيات التي يُنزِّه الله فيها نفْسَه سبحانه عن هذا النقصِ والعيب الذي تنقَّصوه به، باعتقادِهم وعبادتهم لأولئك الأنداد والآلهة، الذين اتَّخذوهم مِن دونه، فاسمعْ إليه سبحانه إذ يقول في السُّور المكية التي يُبطِل فيها ويَهدِم عقيدةَ الوثنيَّة في العرَب: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 95 – 103].

ويقول: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ إلى قوله:﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 28 – 57]؛ يعني: أنَّ القرآنَ هو الشِّفاءُ لِمَا في صُدوركم من الآفات التي قذَفها شياطينُ الجن والإنس في قلوبكم، وَأَوْقعوكم بها في ظُلمات بعضها فوق بعض، تهيَّأ لهم بسببها أن يلقوا في قلوبِكم هذه الأوْهام والخيالات التي أضلُّوكم بها، فاتَّخذتم مِنَ الخلْق أندادًا، وأبناءً للخالِق، وتنقصتُم الله الذي هو ربُّكم الحق، ولا شفاء ولا هُدًى ولا رحمة لكم، إلا بهذا العلم البيِّن الواضِح المنزل من عندَ الحكيم الخبير – ثم قال: ﴿ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ﴾ [يونس: 66]؛ يعني: المستحيل أن يكون لهؤلاء المُقدَّسين ما زعمتُم من هذا النور أو الرُّوح الفائِض الذي جعلتموهم به شركاءَ لله في صِفاته، وبالتَّبَع أشركتموهم معه في عبادتِه وحقِّه، وليس عندَكم بذلك الزعم والوهم والخيال أي برهان، لا حِسي ولا عقلي ولا عِلمي، ومِن ثَمَّ ألبستموه ثوبَ السِّريَّة والرَّمْزيَّة الوهميَّة؛ ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 66 – 70]، ويقول: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111].

ويقول سبحانه: احْمَدِ اللهَ الذي هو حقيقٌ بالحمْد كله على كلِّ صفاته العُلاَ وأسمائه الحُسْنَى، وعلى خَلْقه وتدبيره الحكيم، فإنَّ ذلك دليلٌ بيِّن واضِح على أنه مستحيلٌ عليه الولد، وانْفِصال شيء عنه؛ لأنَّه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومِن ثَمَّ فمحالٌ أن يكون له شريكٌ في مُلْكه مِن ذلك الولد الذي توهمْتُموه وتخيلتموه بوحي الشيطان، فجعلتموه شريكًا له في الصِّفات، وشريكًا له في المُلك، وشريكًا له في أنفسكم وقلوبكم وأموالكم، وعبدتموه بأنواعِ العبادة والتقْديس، وذلك أعظمُ تنقيصٍ لربِّ العِزَّة سبحانه، وهو الذي لا يَليق به إلا أن يُكبَّر أعظمَ تكبير، ولا يكون ذلك إلا بأن يجعلَ كل الخلْق في منزلتهم الحقيقيَّة مِن الذُّلِّ والفَقْر والحاجَة المُطلَقة، والتصغير الذاتي أمامَ الربِّ القوي العزيز الواحِد القهَّار.

ويقول سبحانه: ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 4 – 5]، ويقول أيضًا: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾ إلى قوله : ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 81 – 95].

فمَن هو هذا الولَد المقصود في هذه الآيات؟ أهو عِيسى والعزيز والملائكة فقط؟ كلاَّ، بل هو الذين اتَّخذوهم؛ ليكونوا لهم عزًّا، وعَجُز الآيات في إحصائهم وعدِّهم والإتيان بهم يومَ القيامة كلَّ فرْد وحْدَه دليلٌ على ذلك.

كذلك يقول: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ إلى قوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 16 – 35].

فلَيْسَتْ هذه الولديَّة خاصَّة بالملائِكة، بل هي عامَّة في كلِّ عبدٍ أكْرَمه الله بالنبوَّة أو الرِّسالة، أو الإيمان والاستقامَة على الدِّين الحق، بحيث لم يكن أحدٌ مِن هؤلاء المكرَّمين يسبق شرْع ربِّه، ولا أمره، فلا يقول في الدِّين إلا بما أوْحى الله إليه، سواء في عقيدة أو عبادة، ولا يعمل إلا بأمْرِ الله، وقدْ أخْضع هواه للحقِّ الذي قالَه الله وأمَر به، كما جاء في الحديث: ((لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لِمَا جئتُ به))[6]؛ ولذلك وصَفَهم بالإشفاق مِن خشْيته سبحانه، كما وصَف المتَّقين بعد آيات: ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 49]، ووصف أنبياءَه في آخِرِ هذه السُّورة بـ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]، وفي وصْف الصابرين الشاكرين مِن سورة المعارج: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ [المعارج: 27].

وقد تكرَّر هذا الوَصْفُ في القرآن كثيرًا للمؤمنين المتَّقين الذين يهتدون بكُتُب الله المنزلَة، مما يدلُّ على أنَّ هذه الولديَّة التي يُنزِّه الله نفسَه عنها ليستْ قاصِرةً على ولدية الملائكة، بل هي تَشمل كلَّ ما اعتقده الوثنيُّون مِن ولديةِ الأنبياء والصالحين بعدَ موتهم وغيرِهم مِنَ البشَر والجِنّ، بما أوْحَى إليهم الشيطان كُفرًا بأولئك الأنبياء وعداوة لهم، ويقول الله سبحانه: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 2 – 3].

وهذه وآيةُ الإسراء السابقة تدلُّ دَلالةً تامَّة على ملازمةِ الشِّرْك بالأولياء والصالحين لعقيدةِ الولدية، لا تَنفكُّ عنْها، وتلازم تنقيصَ ربِّ العزة وتُنافي كبرياءَه وعظمتَه.

ويدلُّ لذلك أيضًا سورة: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4]، جمعتْ كلَّ أنواع التوحيد، فالله الأحَد، المتَوَحِّد في ذاتِه وصِفاته وأسمائه، ومُحالٌ عقلاً وعلمًا عليه الاثنيَّة في أي ناحية مِن النواحي، ثم هو الذي يلزم مِن أحديته هذه أن يكون الصمد الذي يُقصد، ويَصْمُد إليه كلُّ عبد، وكلُّ مَخلوق في جميعِ شؤونه؛ لأنَّه المتوحِّد بخلْقه، والمتوحِّد في تدبيره بعَمله وحِكمته، ورحمته وقدرته وإرادته، فإذا تحقَّق هذا بطَلَتْ عقيدة الولدية التي أوْحاها الشيطان وخيَّلها في مُقدّسيهم وآلهتهم الذين زَعموا أنَّهم مِن جِنْس الله، أو أنَّ فيهم جزءًا انفصَل من الله، هو النور أو الرُّوح الذي فاض عليهم، وكانوا به أوَّلَ الخَلْق على غيرِ سُنَّة الله ووضعه الطبيعي، فإذا بطَلَتْ هذه العقيدةُ الفاسدة، وتلاشَتْ زَهَق الوهمُ الكاذب، والظنُّ الخادِع، الذي سَمَّوه – بوحي الشيطان – سرًّا في هؤلاء المقدَّسين مِن الله، وما هو إلا جزءٌ وولَد، وانكشفتْ حقائِقُه التي كانوا عليها بطبيعتهم التي خلَقَهم الله بها، وجَبَلهم كغيرِهم عليها، وأنَّ العلم مهما بَلَغ والعبادة مهما كانتْ آناءَ الليل وأطراف النهار، وأنَّ الرِّياضة والتنسُّك – لن يكون شيءٌ مِن كل ذلك مُستطيعًا أن يُغيِّر في عالِم أو عابد سُنَّةَ الله في الخلْق البشري أو غيره.

فالأنبياءُ بشرٌ في خلْقهم وأجسامهم، وحياتهم وموتهم، ككلِّ البشَر، ومَن دونهم أوْلَى، فيستحيل عندئذٍ أن يكون لله كفُوٌ أو مثيل أو عدْل، في الصِّفات أو العبادة مِن هؤلاء الأنبياء الذين هم صفوةُ الله مِن خلْقه، وخِيرَته من عباده، فضلاً عمَّن هو دونهم من بني آدم، فضلاً عن الجنِّ والملائكة، والحيوان والشَّجر والحَجر، الذي اتَّخذ الوثنيُّون من كلِّ ذلك عدلاً لله ونِدًّا وكُفُوًا – سبحانه وتعالى عمَّا يتوهَّمون ويظنُّون ويقولون عُلوًّا كبيرًا.

إذا عَرَفْتَ هذا جيدًا، وتدبَّرتَ كل آيات الكتاب الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يَدَيْه ولا مِن خلْفه في هدْم العقيدة الوثنيَّة، وعرفتَ أنَّ النصارى يُصرِّحون في كتُبهم بأنَّ الله مُنزَّهٌ عن الولادة البشريَّة، وأنَّ ولادة عيسى ليستْ إلا على معنَى أنه: الابن الوحيد المولود مِن أب قبلَ الدهور مِن نور الله، مولود مُنبثِق غير مخلوق، بمعنى أنَّه فائضٌ من الله، ويقولون في كتبهم: إنَّ عبارة الابن لا تُشير – كما فَهِم البعضُ خطأً – إلى الولادةِ البشريَّة، ولكنَّها نِسبةٌ سِريَّة أزليَّة تفوق الإدْراك، وهم يُقرِّرون في صراحة أنَّ عيسى ابن مريم هو ابنٌ بشري ليوسفَ النجَّار في ناسوته، فهو عندهم ليس آيةً في ولادته مِن مريم بدون أب، ولكنَّه مولودٌ ولادةً بشرية عادية مِن أبيه يوسف النجار، وهو مع ذلك في لاهوته أو نُورانيته، وسِرِّيته – ابنٌ منبثِق عن الله في الأزَل قبل الدهور، غير مخلوق.

إذا تقرَّر هذا عَرْفَتَ مُرادَ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مِن نهيه أُمَّتَه وتَحْذيرها أنْ تَغلو في الثناء عليه غلوَّ النصارى في عيسى ابن مريم، وبيانه – صلَّى الله عليه وسلَّم – الواضِح أنَّه: ((عبدُ الله ورسولُه))[7]، ككلِّ عِباد الله المرسَلين، كما أكَّدَ الله ذلك في ردِّه على الذين كانوا يَستنكِرون عليه ويَعْجبون أنْ يبعثَه الله إليهم رسولاً؛ لأنَّه في نظرهم وفي الواقِع بشَرٌ مثلهم، فأَخَذوا يَقْترحون عليه ما حكَاه الله بقوله: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 90 – 93].

فردَّ عليهم مُؤَكِّدًا أنَّه لا يملك شيئًا مِن كُلِّ ذلك؛ لأنَّ سُنن الكون بِيَدِ الله ربِّ الكون، العليم الحكيم، لا بِيَده، وإنَّما هو عبدٌ بشَرٌ لا يملك لنفْسه نفعًا ولا ضرًّا، ميَّزه الله عن البشَرِ أمثالِه بأنْ أرسله، وأوْحَى إليه: ﴿ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [فصلت: 6]، وأنَّ الويلَ كلَّ الويل لأولئك المشركين، الذين لا يُزكُّون أنفسَهم من نجاسةِ هذه الجاهلية التي أوْحَى بها شياطينُ الجن إلى شياطين الإنس مِن سادتهم وشيوخهم ورؤسائهم.

وعرَفْتَ أنَّ إطراء النصارى عيسى إنَّما كان بزيادة صِفاتٍ له لا وجودَ لها، وليس لها حقيقةٌ في واقع الأمْر، وإنَّما هي خيالٌ ووهْم أوْحاه الشيطان، مِن هذه الولادة وانبِثاق النور الأزلي والنِّسبة التي تفوق المدارِك، ولا يَنبغي البحْثُ عنها، حتى كان عيسى في معتقد النصارى – في الواقع – وهمًا وخيالاً لا وجودَ له إلاَّ في أدمغتهم، وأنَّه بلا شكٍّ عندَ التأمُّل والتحقيق ليس هو عيسى ابنَ مريم عبدَ الله ورسولَه، الذي جعَلَه الله وأُمَّه آيةً للعالَمين، وأنَّ عقيدتهم هذه الفاسِدة أبينَ الفساد هي بعينها عقيدةُ الوثنيِّين الذين كفروا مِن قبلهم، نقَلَها إليهم الشيطانُ بكَيْده ومكْره باسمٍ جديد؛ ولدية عيسى، وأنَّه النور الأزلي الذي انبثَق أولاً مِن الله – سبحانه وتعالى!

ثُمَّ عَرَفْتَ أيضًا أنَّ الإطْراء الذي نَهَانا الرَّسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – عنه، كإطراءِ النَّصارَى عيسى – إنَّما هو اختراعٌ، وابتداعُ صِفاتٍ لم تكُن لرسولِ الله في الواقع؛ لأنَّ الله لم يذكُرْ ولم يُثْنِ عليه بها، ولو كانتْ لأَثْنَى اللهُ عليه بها؛ دفاعًا عنه وإشادةً به، وردًّا على طعن أعدائه واستنكارهم أنْ يبعثَ الله إليهم بشَرًا رسولاً، وأنَّ الرسولَ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنَّما نهى هذا النهيَ؛ لأنَّه علِم مِن وحي الله له بأنَّ أُمَّته ستفعل وتقول وتعتقد فيه عقيدةَ النصارى في عيسى ابن مريم، وأنَّ الشيطان سيأخُذ بها أخْذَ غيرها مِنَ الأُمم الوثنيَّة الكافِرة السابقة، حتى لو دَخَلوا جُحْر ضبٍّ لدخلوه، وأنَّ أخْبَث الأمور وأيْسَرها على الشيطان أنْ يَقودهم بها إلى هذا الطريق: أن يستخرجَهم مِن حَظيرة الإسلام بحبْلٍ دقيق، هو حبلُ الإطراء والغلوِّ في وصْف شخْصه – صلَّى الله عليه وسلَّم – بما هو مخالِف للواقِع الذي خَلَقه الله عليه مِنَ البشريَّة المماثلة لكلِّ البَشَر، فيُوحي إليهم بما أوْحَى إلى الذين كفَروا مِن قبل، بأنَّه أَوَّلُ خَلْق الله، وأنَّه النور الفائِض مِنَ الله، وأنَّه قَبْضةُ النور، وأنَّه سِرُّ الأسرار، وأنَّه نور عرْش الله، وأنَّ اسمه مكتوب على ساقِ العرْش من نور، وأنَّه النور الذي خُلِق منه كلُّ شيء، وأنه الذي انبَثقتْ منه الأنوار، وانفلقَتْ عنه الأسرار، وتنزَّلتْ فيه علوم آدَم فأَعْجز الخلائق، وأنَّه غير ذلك مِن الإفك والبُهتان، الذي أوْحاه الشيطان إلى أوليائه الصوفيَّة، فنَشَروه وزخرفوه للعامَّة والطغام بأنَّه مدحٌ وثناءٌ على الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وما هو في الواقِع إلا كفرٌ به، وتكذيبٌ له، وللقرآن الذي جاء به مِن عندَ الله، الذي سجَّل فيه مِن غيرِ خفاء مِرارًا: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [فصلت: 6]، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34]، ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، إلى غير ذلك مِنَ النصوص الواضِحة في القرآن الحكيم، وفي السنَّة المتواتِرة التي لا تحتمل أي تأويل، لِمَن له قلْب يَفْقه، وعَيْن تُبصِر، وأُذُن تسمع، ولكنَّ أكثرَ الناس لا يفْقهون؛ لأنَّهم بدَّلوا نِعمة الله عليهم في أنفسهم وسَمْعِهم وبصرِهم وعقْلِهم كُفرًا، بالتَّقليد الأعْمى الذي انْسلَخُوا به مِن آيات الله كلِّها، فأتْبَعهم الشيطان فكانوا مِنَ الغاوين، إنْ هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً.

فقلَّدوا رؤساءَ الزَّيْغ وحِزْبَ الشيطان الذين يتَّبعون مِن القرآن ما تشابه منه؛ ابتغاءَ الفِتنة وابتغاءَ تأويله؛ ليُحرِّفوه عن موضعه، ويَتَّبعون الواهياتِ مِن الأقوال التي وضعَها شيوخُهم على رسولِ الله، ورواها الذين لا يُميِّزون الصحيحَ مِن السقيم، فكانتِ البلية عظيمةً، وكان الشرُّ المستطير الذي تكاد السماواتُ يتفطرْنَ منه وتنشقُّ الأرْض وتَخِرُّ الجبال هدًّا؛ أنْ دَعَوْا للرحمن ولدًا.

فلمَّا صَدَّق عليهم إبليس ظنَّه فاتَّبعوه في هذه العقيدة الوثنيَّة الكافِرة أشدَّ الكفر وأقبحه وأخبثه، وجَرَّهم إلى أن يعتقدوا هذه العقيدةَ في عليٍّ وفاطمة، وأبناء علي وفاطمة؛ لأنَّهم بَضْعَةٌ مِن رسولِ الله، ثم جرَّهم إلى اعتقادِها في غيرِ أولادِ علي مِن كل صوفي مُشعْوِذ دجَّال مِن أولياء الشيطان، حتى صرَّحوا بأنَّهم قد انْخلعوا عن البشَريَّة، واتَّحدوا بالله، فجاز لهم بِزَعْمِهم الفاجِر أن يقول شيوخُهم: أنا الله، وسُبحاني سُبحاني، ممَّا طفحتْ به كتبُهم عن سادتِهم وكبرائِهم، كأبي يَزيد البسطامي، وإبراهيم الدسوقي، وأبي سعيد الخرَّاز، والحسين الحلاَّج، وابن عربي، وابن الفارض، وغيرهم مِن كل شيوخ أولياء الشيطان – قبَّحهم الله وأخْزاهم في الدنيا والآخِرة.

وإذ صدَّق عليهم إبليسُ ظنَّه في هذه العقيدة الوثنية، فما يمنعه بعدَ ذلك أن يدعوهم أن يتَّخذوهم أندادًا وآلهةً مع الله، يقيمون لهم الهياكلَ والمعابدَ الوثنية، التي ما أرسل الله رُسلَه، ولا أنزل كتبَه ولا بَعث رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلا لهدمِها، وكان مِن هادميها بأمر رسولِ الله عليُّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – حين بعثَه – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى اليمنِ، فها هي قائمةٌ في كلِّ بلد مِن بلاد المسلمين يُهتَف فيها بعبادة الشيطان، ويُنادَى باسمه في الليل والنهار، ويُتقرَّب له بكلِّ القربات، ويُدعَى أخلصَ الدعوات؛ و﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 117 – 119].

وأصبح ذلك الشركُ وهذه الوثنيَّة دِينَهم الذين يزْعمونه الإسلامَ الذي جاء به رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يعادون من أجْله، ويُحاربون بكلِّ ما أوتوا مِن قوَّةٍ اللهَ ورسولَه وأولياءَه الذين عزَّروه ونصروه، واتَّبعوا النور الذي أُنزل معه، وكل ذلك على أساسِ عقيدة الولدية والبُنوة لله سبحانه بأسماءٍ جديدة ما أنْزَل الله بها مِن سلطان.

ودليل ذلك واضحٌ بيِّن في أقوالِهم وأعمالهم، مهما حاول لهم شيطانُهم وجهلهم أن ينكروا أنَّهم يعتقدونها؛ ذلك أنَّهم يقولون: إنَّهم أحياء، وإنَّ معبوديهم يَسْمعون ويَرَوْن من قريبٍ ومِن بعيد، لا يقوم أي حِجاب دون سمْعِهم وبصرِهم، وأنَّهم قادِرون رُحَماء أغنياء، كقُدْرة الله ورَحمته وغناه سواء، فما هي الحياة، وقدْ ماتوا وغسَّلوهم وكفَّنوهم ودَفنوهم تحتَ الثَّرَى كشأنِ كلِّ البشر؟! إنها حياةٌ بزعمهم مِن جنس حياةِ الله الحي الذي لا يموت، ومِن ثَمَّ أعطوهم سمعًا كسمع الله يدعونهم مِن قريب ومِن بعيد، كما يدعو المؤمنُ ربَّه السميع، وبصرًا لا يحجُبه شيء كبصَر الله، ويقولون لهم: نظرة يا أسيادي؛ أي: نظرة عطْف ورحمة وعناية، كما يطلب المؤمنون ذلك من ربِّهم حين يقومون في صلاتِهم فيُسوُّون صفوفَهم، كما أمرَه رسولُ الله، ويُوفون بما عاهَدوا الله، ولا يشترون بأَيْمانِهم ثمنًا قليلاً؛ ليحظوا بنظرِ الرحمة والعطف والعِناية مِن الله، كما وعدَهم اللهُ ورسولُه.

ووصفوهم بالقوَّة والمعية، فيطلبون منهم المددَ، وأن يكونوا معهم بالحِفْظ والحياطة، كما يطلب المؤمنُ ذلك من الله القوي العزيز الذي رحمتُه قريبٌ من المحسنين، وهو مع الذين اتَّقوا والذين هم محسنون، ويَسألونهم كلَّ شيء حِسِّي ومعنوي، وما ذلك إلا لاعتقادِهم غِناهم المطلَق، وقدرتهم على العطاءِ كغِنَى الله وقُدرته سواء، ويَطوفون حولَ رُجومهم وأنصابهم، ويُعظِّمون شعائرَهم، ويُقدِّسون آثارَهم وأعيادَهم، كما يطوف المؤمِنُ ببيتِ الله الحرام، ويُعظِّم شعائره، ويحتفل بعيدَي الفِطر والأضْحى، ويَخافونهم كخِيفةِ الله، بل أشدَّ؛ لأنَّهم يحرِصون على نذورهم، وأعيادِهم وعبادتِهم أشدَّ مِن حرْصهم على أداءِ حقوقِ الله.

ويُعلِّلون ذلك بأنَّهم إنْ لم يَفْعلوا يُعجِّلوا الانتِقام منهم والتصرُّف فيهم بأنواعِ العقوبة، ويقولون: لهم ما يشاؤون؛ أي: لهم مُطلَق التصرُّف في ملْك الله بالعزْل والتولية والقبْض والبسْط والخفْض والرَّفْع والقَهْر والتحكُّم في الله، كما صرَّح بذلك الشعراني وغيره مِن هؤلاء الصوفيَّة الوثنيِّين، ويقولون: فيهم شيء لله، وحقيقتها التي يُوضِّحها ويُصحِّحها عملُهم: فيهم شيء مِن الله؛ إذ ترَى في كتبهم وتَسْمع على ألسنتهم: إنَّهم مِن نور الله، وفاض عليهم نورُ الله، وهي بعينها كلمةُ النصارى: عيسى النُّور الأزلي المنبثِق من الله، ولكنَّها في ثوبٍ جديد لتروجَ على الغافلين الذين كذَّبوا بآيات الله، واتَّخذوها وراءَهم ظِهريًّا، وألْقوا بقلوبِهم وأسماعِهم وأبصارِهم إلى الشيطان مولاهم، فصدَّق عليهم ظنَّه فاتَّبعوه، وليس أدل على ذلك مما ورد في قوْل الله: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر: 3 – 4]، على عقيدةِ الوَلَديَّة عندَ هؤلاء المشرِكين.

ألاَ يدلُّ كلُّ ذلك مع تدبُّر آيات الله وفِقهها على حقيقتِها دَلالةً واضحةً لا خفاءَ فيها على أنَّ الشيطان قد كاد للناس اليومَ كيدَه للوثنيِّين، فأوْحَى إليهم عقيدةَ البنوة والوالدية لله بأسماء جديدة، كشأنِه في كلِّ ما يُوَسْوِس به ويَكيد لعدوِّه الإنسان، وأنَّه رَكِب الصوفية إلى غَرَضه هذا كما رَكِبَها في وثنيِّ الهند والفُرْس واليونان سواء بسواء.

والباحِث المتحرِّي الحقائق يَلْمَس ذلك واضحًا مِن تاريخ حدوث الصوفيَّة ودخولها بلادَ المسلمين، ويَضَع يدَه على سِلْسلةِ الوثنيَّة، فيجد طرَفَها الأول مع طرَف الصُّوفيَّة، ثم يمشيانِ مُتلازمَيْن إلى اليوم، وإنْ كان أكثرُ الناس – إنْ لَم أقُلْ كُلهم – غافِلاً عن ذلك أشدَّ الغفلة؛ بسبب عمَى البصيرة بغشاوةِ التقليد الذي هو مِفتاحُ كلِّ شرٍّ.

وإذ تبيَّن ذلك واتَّضح، فقد تبيَّن وعُرِف الداء الوبيل، والمرض القتَّال، الذي نَخَر في نفوس المسلمين، وهَدَّ كيانَهم، حتى صاروا إلى هذه الذلَّة والصَّغار، والمسكنة والتفرُّق والخزي.

فلْيُبادرْ مريدو الإصلاح ومحبُّوه إلى العملِ على إنْقاذ المرْضَى بعلاج الإسلام الصحيح، ومُداواتهم الدواءَ الشافي مِن كتاب الله، وهَدْي رسولِ الله، فلا علاجَ ولا شفاءَ إلا بذلك، وكل مُحاولة للإصلاح أو العلاج على غيْر هذا الأساس فإنَّها تكون على جهْل بأصْل الداء والعِلَّة، إنها إذًا تكون مُضحِكة للشيطان، بل إنَّها والله مكايدُه وتعميته ووساوسه، والله يَهدي مَنْ يشاء إلى صِراطه المستقيم، ولن يكونَ هذا الصراطُ إلا على كِتاب الله وسُنَّة رسوله، كما أخبرَنا الناصِحُ الصادِقُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذ قال: ((تَرَكْتُ فيكم شيئَيْن لنْ تضلُّوا بعدهما – ما إن تمسَّكْتُم بهما لن تضلُّوا -: كتاب الله وسُنَّتي))[8].

وسبحانَ ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلام على المرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالَمين[9].


[1] أخرَجه البخاري برقم (392)، ومسلم برقم (572).

[2] أخرجه البخاري برقم (6566)، ومسلم برقم (1713).

[3] صحيح: السلسلة الصحيحة برقم (1348)، ومستدرك الحاكم برقم (8404)، وأصله أخرجه البخاري برقم (6889)، ومسلم برقم (2669).

[4] مجلة الهدي النبوي، رمضان (1365) العدد التاسع.

[5] صحيح: أخرجه الإمام أحمد في مسنده، برقم (164)، وصحَّحه الأرناوؤط وابن حبَّان في صحيحه، برقم (413)، وصحَّحه الأرناؤوط.

[6] ضعيف: مشكاة المصابيح برقم (167)، ويُغني عنه الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده برقم (13174) عن أنس بن مالك عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه قال: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ اللهُ ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وحتى يقذف في النار أحب إليه مِن أن يعودَ في الكفر بعدَ أن نجَّاه الله منه، ولا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحب إليه مِن ولده ووالده والناس أجمعين))، وقال شعيب الأرنؤوط : إسنادُه صحيح على شرْط الشيخين.

[7] أخرَجه البخاريُّ برقم (3252) مِن حديث عبادة – رضي الله عنه -: عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَن شَهِد أن لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه، وكلمته ألْقاها إلى مريمَ ورُوح منه، والجَنَّة حقٌّ والنار حقٌّ، أدْخَلَه الله الجنةَ على ما كان مِنَ العمل)).

[8] صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (319)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع برقم (2937).

[9]مجلة الهدي النبوي: شوال (1365) العدد العاشر.