القول المحمود في تنزيه داود عليه السلام
تأليف تقي الدين السبكي الشافعي
المتوفى سنة 756 هـ رحمه الله تعالى

قدَّم لها وعلَّق عيها
حسام الحفناوي

ملخصٌ

لكلام أهل العلم في المسألة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبعد؛

فإن المُطالع لما كتبه كثيرٌ من المؤرخين، و المفسرين عن أخبار الأمم السابقة، و ما وقع لأنبياء الله تعالى مع أقوامهم، يجد الأثر البالغ الذي تركته الإسرائيليات المُخْتَلَقَة على تلك الأخبار.

ومن أشنع الاختلاق وأَسْمَجِه: ما نسبوه إلى داود عليه السلام، من وقوعه في عشق امرأةِ قائدِه أُوريا؛ فنفرٌ من المفسرين والمؤرخين ذكروا – نقلًا عن تلك الإسرائيليات – أنه طلب منه أن يتنازل عنها، فاستحيى، ففعل، فتزوجها، ونفرٌ ادَّعوا أن أُوريا لم يكن متزوجًا بها، وإنما كان قد خطبها فقط، فخطب داود على خِطبته، ونفرٌ زعموا أن داود عليه السلام – نقلًا عن الإسرائيليات أيضًا – أرسل زوجها أُوريا في مقدمة الجيوش في عِدِّة معارك، مُعَرِّضًا إيّاه للقتل، رَجاءَ أن يُقتل، فيظفر هو بها، فلما قُتل، تزوجها.

وخيرُ مَنْ انتقى من تلك الإسرائيليات مَنْ قال: إنه لم يقصد قتله، ولكنه قُتل في إحدى المعارك مع مَنْ قُتِل من القادة الآخرين، ولم يحزن داود عليه كما حزن على غيره، ثم تزوج امرأته، ومَنْ قال: إن الخصمين المذكورين في الآية كانا من أعدائه، وأرادا قتله، فكان ذنبه عليه السلام، أنه همَّ بقتلِهما لمَّا علم بذلك، ثم استغفر الله تعالى من ذلك، ومَنْ قال: كان ذنب داود أنه تعجل في الحكم بينهما بعد سماع كلام أحدهما، دون الآخر.

وهذه الثلاثة الأخيرة أحْسَبُها من بُنَيِّات أفكار المسلمين، رامُوا بها توجيه ما ورد من الإسرائيليات في القصة، تحسينًا للظنِّ بنبي الله داود عليه السلام، والثالث منها، الظاهر أنهم استخرجوه من سياق الآية.

وقد نبَّه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشورفي ((التحرير والتنوير)) (23/ 237، 238) إلى أن القصة على ما فيها من خلاف موجودة في السفر الثاني من كتاب صمويل، من كتب اليهود، وذكر (البرهان البقاعي) في ((نَظْم الدُّرر))(16/ 362) أن بعض مَنْ أسلم من اليهود أخبره، أن اليهود يتعمدون ذلك الكذب في حق داود عليه السلام؛ لأن المسيح عليه السلام من ذريته، ليتوصلوا بذلك إلى الطعن في المسيح عليه السلام.

وقد حاول بعض المُنْهَزِمِين عَقَدِيًّا وفكريًا أن يُلَفِّق – وهو يزعم التوفيق – بين ما ورد في التوراة من أن داود كان مَلِكًا، وليس نَبِيًّا، وبين ما جاء به القرآن، وقد ردَّ عليه العلاَّمة (القاسمي) في ((محاسن التأويل))(14/ 5092) ردًا متينًا ﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].

ومن العجيب أن نفرًا من المفسرين – ومنهم أكابر – قد نقلوا في كتبهم كثيرًا من الأخبار المتعلقة بهذه القصة – وفيها ما فيها – دون أن يقطعوا بكذبها، واستحالة وقوعها من نبي من أنبياء الله تعالى، لا سيما مَنْ هو موصوفٌ بالاجتهاد في العبادة، والتشمير في الطاعة.

وإن القلب ليمتلئ حزنًا وكَمَدًا أن يرى (الطبري) في ((تفسيره)) (23/ 91 _ 97)، و(الزَّجَّاج) في ((معاني القرآن)) (4/ 327، 328)، و(القُشَيري) في ((لطائف الإشارات)) (3/ 250_ 252)، و(الماوَرْدي) في ((النُّكت والعيون)) (5/ 89،85)، و(ابن عَطِيَّة) في ((المُحَرَّر الوجيز)) (4/ 498، 499) يوردون أمثال تلك القصص التَّالفة، دون أن يتعرضوا لها بكبير نقد، أو أن يميلوا ميلةً واحدةً على من يُشيعها، فيستأصلون شَأْفَتَه، أو يُلقمونه الحَجَر، لكن المفسرين أجمعوا على نفي نسبة الفاحشة الكبرى إلى نبي الله داود عليه السلام، وذكروا أثرًا عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه لم يصِح عن عليٍ كما ذكر (ابن العربي المالكي) في ((أحكام القرآن)) (4/ 1639)، ونقل (الأَلُوْسِي) في ((روح المعاني)) (23/ 185) عن الحافظ (العِراقي) تضعيفَه أيضًا، ورجَّح (ابن العربي) أن مَنْ نسب إلى نبي الله الزنى، فإنه يُقتل، وأن مَنْ نسب إليه ما دون ذلك من الملامسة أو النظر، مختلفٌ فيه، فإن صمَّم، فإنه يُعَزَّر.

وانظر: ((محاسن التأويل)) (14/ 5089)، و((أضواء البيان)) (4/ 536 – 538) ففيهما إشارات إلى كلام أهل العلم في عِصمة الأنبياء. وتفصيل ذلك في كتب العقائد، والملل والنحل.

وقد صَنَّف قومٌ في عِصمة الأنبياء، منهم (ابن اللبَّاد المالكي)، كما في ترجمته من ((السِّير)) (15/ 360)، و(الشمس الكردري الحنفي)، كما في ((كشف الظنون)) (1/ 333) و(الفخر الرازي) المتكلم، وهو مطبوع. وللقاضي (عياض) في ((الشِّفا)) مبحثٌ طويل في هذه المسألة، فانظره (2/ 85 – 153)، وهو الباب الأول من القسم الثالث من الكتاب.

وآخرون كأبي جعفر النَّحاس في ((إعراب القرآن)) كما في ((تفسير القرطبي)) (15/ 115)، و(الزَّمَخْشَرِي) في ((الكَشَّاف)) (4/ 80، 81)، وتبعه (النَّسَفِي) في ((مَدارك التنزيل)) (3/ 1007) ذهبوا إلى أنه طلب منه أن يتنازل عنها كما تقدم ذِكْرُه.

ورَجَّح هذا أيضًا (الشوكاني) في ((فتح القدير)) (4/ 599، 600)، وكذا تلميذه (صديق حسن خان) في ((فتح البيان)) (12/ 32)؛ إذ كان هذا من الجائز في شرعهم – على حدِّ قولهم – قال (أبو جعفر النَّحاس): وليس هذا بكبيرٍ من المعاصي، ومَنْ تخَطَّى إلى غير هذا، فإنما يأتي بما لا يَصِحُّ عن عالم ٍ، ويَلْحَقُه فيه إثمٌ عظيم، وقال في معاني القرآن – كما في المصدر السابق: قد جاءت أخبارٌ وقِصَصٌ في أمر داود عليه السلام، وأكثرها لا يصح، ولا يَتَّصِلُ إسْنادُه، ولا ينبغي أن يُجْتَرأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها، وأصحُّ ما رُوي في ذلك: ما رواه مسروق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: “ما زاد داود عليه السلام على أَنْ قال: أَكْفِلْنِيها، أي انْزِل لي عنها”، ثم ذكر رواية المنهال، عن سعيد بن جبير نحوها، ثم قال: فهذا أَجَلُّ ما رُوي في هذا، وذَكر أن هذا كما يسأل الرجلُ الرجلَ أن يبيعه جاريته، واستَشهد غيرُ واحدٍ، منهم: (ابن العربي) في (أحكام القرآن)، و(الزمخشري) في (الكشاف) (4/ 80،81) على عدم النَّكارة في هذا بقصة عبد الرحمن بن عوف مع سعيد بن الربيع رضي الله عنهما، حين أراد سعيدٌ أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه؛ ليتزوجها عبد الرحمن – و القصة في صحيح البخاري ) ح 1943، 1944،4785(،قال (ابن العربي): وما يجوز فِعْلُه ابتداء، يجوز طَلَبُه، لكنه استبعد ثبوت قصة طلب داود عليه السلام من أوريا التنازل عنها من حيث الإسناد.

أقول، وبالله التوفيق: قد نبَّه (القاسمي) في ((محاسن التأويل)) (14/ 5089) أن الآثار الواردة في هذا الباب عن الصحابة والتابعين إنما تَلَقَّوها عن أهل الكتاب، وما نبَّه عليه واضحٌ جدًا؛ إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة شيء، كما ذكره غير واحد من أهل العلم بالأسانيد، ومنهم: القاضي (عياض) في ((الشفا)) (2/ 144)، ونقله عن غير واحد، والحافظ (ابن كثير) في ((تفسيره)) (4/ 31)، كما مر معنا كلام (الطَّاهر ابن عاشور) أن القصة موجودةٌ في السِّفر الثاني من كتاب صَمْويل من كتب اليهود، كما أن ما ذهب إليه (القاسمي)، من تَلَقِّيهم تلك الآثار عن بني اسرائيل، مَبْني على ثبوت هذه الآثار عن الصحابة والتابعين، وفي هذا نَظَر أيضًا. وقد نقل القاضي (عياض) في ((الشفا)) (2 / 144، 145) عن أحمد بن نصر، وأبي تَمَّام، وغيرهما من المحققين نَفْيُ إضافة الأخبار الواردة في ذلك إلى داود عليه السلام، ونقل عن (الداودي) أن قصة داود وأوريا ليس فيها خبرٌ يَثْبُ. وأما وَصْفُ (النحاس) لما ورد عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير، بأنه أصح ما ورد في ذلك، فلا يلزم منه صحة إسنادهما، كما لا يخفى على من له إطلاع على كلام أهل الحديث؛ إذ يُكثرون من قولهم: أصحُّ ما ورد في هذا كذا، أو أصحُّ ما في الباب كذا، أو هذه الرواية أصحُّ من تلك، فقد يكون هذا من قبيل المفاضلة بين صحيحين، أحدهما أصحُّ من الآخر، وقد يكون من باب ذِكر ما هو أصحُّهما و أقواهما، وإن كان كلاهما ضعيفين، وهناك صور أخرى لهذه العبارة، انظرها في: ((شرح لغة المحدِّث)) (لأبي معاذ طارق بن عِوض الله حفظه الله) (ص125-132).

وقد حكى (الزمخشري)، و(النسفي)، وغيرهما أن أوريا لم يكن متزوجًا بها، بل كان قد خطبها فقط، فكان ذنب داود عليه السلام، أنه خطب على خِطبة أخيه، وهذا ما رجَّحه (أبو بكر الجَصَّاص) في ((أحكام القرآن)) (3/ 499)، وقطع به، ونقل(القرطبي) في ((تفسيره)) (15/ 116) عن (إلْكِيَا الهرَّاس الطبري) في ((أحكام القرآن)) له، أن هذا هو قول المحققين الذين يرون تنزيه الأنبياء عن الكبائر.

وقوم من المفسرين رأوا أن داود عليه السلام فزع من قوم دخلوا عليه، مع كون سور المحراب يَعْسُر ارتقاؤه، والحُرَّاس يُحيطون به، فظن داود أنهم جاؤوا لقتله، فلما برز منهم اثنان للخصومة، علم أن ظنه لم يكن صوابًا، فاستغفر الله من هذا الظن حكاه (الفخر الرازي) (26/ 193)، ومال إليه (أبوحيَّان) في ((البحر المحيط)) (9/ 151).

ومنهم من قال: بل دخلا عليه ليقتلاه، فوجدا عنده أقوامًا يمنعونه منهما، فاختلقا خصومة لا أصل لها، وعلم داود بما عزما عليه، فأراد أن يُوقِع بهما، ثم عفا عنهما، واستغفر. حكاه (الفخر الرازي) (26/ 193)، و(النَّيْسَابُوري) في ((غرائب القرآن)) ((بهامش الطبري))(23/ 92، 93)، وقوَّاه الأخير، غير أنه زاد أنه لما عفا عنهما، دخل قلبَه شيءٌ من العُجْب، فاستغفر الله من تلك الحالة، وأقرَّ بأن إقدامه عليها كان بتوفيق الله تعالى له، ورأى (النيسابوري) أن هذا القول لا يدل على صدور ذنب عن نبي الله عليه السلام، وختم كلامه (23/ 96) بقوله: لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لومٌ عاجل، وعقابٌ آجل.

واحْتَمَل (الفخر الرازي) في الموضع السابق أن يكون داود عليه السلام إنما استغفر لمن دخل عليه يريد قتله، وقد تَعَقَّب هذا من حيث اللغة والسِّياق غيرُ واحد.

وحكى (النحاس) – كما في (القرطبي) (15/ 115) -، و(القُشَيري)، والماوَرْدِي أن ذنب داود عليه السلام كان هو التَّعجُّل في إصدار الحكم، بمجرد سماع دعوى أحد الخصمين، وهذا ما رَجَّحه (الفخر الرازي) (26/ 193، 194)، وذكر له أربعة وجوه تعضده. وقد استبعد (ابن العربي) المالكي هذا الرأي، ولم يَسْتَسِغْ أن يقع لنبي مثل هذا، ثم حكى ما ذكره بعضهم أن نبي الله لم يحكم لأحدهم حتى اعترف الآخر، وأَقَرَّ. وحكاه (الماوردي)، و(القشيري) أيضا، وقال الأخير: وقد رُوي هذا، وإن لم تَثْبُت روايته، فإنه معلوم من قرائن الحال. قالوا: أو تقديره: لقد ظلمك إن كان كذلك، واحْتمل (القشيري) أن يكون من شرعهم التعويل على قول المُدَّعِي، عند سكوت المُدَّعَى عليه.

واسْتَظَهَر( أبو عبد الله الحَليمي) الفقيه الشافعي في كتاب ((منهاج الدين)) له (كما حكاه القرطبي) (15/ 117) أنه رأى في المتكلم مَخايل الضعف والهَضيمة – أي الظلم، و الغصب، و القهر – فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى عدم سؤال الخصم، وقد ضَعَّف هذا غير واحد، منهم: أبو حيان في البحر.

أما (ابن حزم)، فإنه ذهب في ((الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 15) إلى كون داود عليه السلام ظن أن يكون ما آتاه الله عز و جل من سعة الملك العظيم فتنة؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا أن يُثَبِّت الله قلبه على دينه، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن، إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة، وحكاه القاضي (عياض) في ((الشفا)) (2/ 144)، و لم يُسَمِّ من قال به،بل قال: قيل كذا، فذكره.

وقد آثر الحافظ (ابن كثير) في ((تفسيره)) (4/ 31)، وفي ((البداية والنهاية)) (2/ 16) الإعراض عن الأخبار الواردة في القصة جُملةً، ورأى أن الأَولى الاقتصار على مجرد تلاوة القصة، وأن يُردَّ علمُها إلى الله تعالى.

أما (النُّعمان الأَلُوسِي)، فإنه رأى في ((روح المعاني)) (23/ 186) أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المُنْصِف، نعم، لا يقبل منها ما فيه إخلالٌ بمَنْصِب النبوة، ولا يقبل تأويلاً يندفع معه ذلك، ولا بد من القول بأنه عليه السلام لم يكن منه إلا ترك ما هو الأولى بعَلِي شأنه، والاستغفار منه، وهولا يُخِلُّ بالعصمة.

وللعلامة (ابن القيم) في ((الداء والدواء))( ص 303) قولٌ يظهر منه أنه يُقرُّ ببعض القصة؛ حيث قال وهو يتكلم عن تدواي العاشق بنكاح المعشوقة إن أمكن ذلك، كأن تكون بلا زوجٍ، فيتزوجها إن كان مُوسرًا، أو تكون جارية فيشتريها: فنكاح المعشوقة هو دواء العشق، الذي جعله الله دواء ًشرعًا، وقد تداوى به داود عليه السلام، ولم يرتكب نبي الله محرمًا، وإنما تزوج المرأة، وضمَّها إلى نسائه؛ لمحبته لها، وكانت توبته بحسب منزِلته عند الله، وعُلو مَرتبته، ولا يليق بنا المزيد على هذا،انتهى. قال العلامة (القاسمي) في ((محاسن التأويل)) (14/ 5092): وهذا منه تسليمٌ ببعض القصة، لا بتمامها، وهو من الأقوال فيها.

وقول (ابن القيم): جعله الله دواءً شرعًا، يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه (ح1847)، والطبراني في ((الكبير)) (11/ 17، 50)، واللفظ لهما، والحاكم (2/ 174) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لم يُرَ للمُتحابَّيْن مثل النكاح”. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه؛ لأن سفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد أوقفاه، عن إبراهيم بن ميسرة، عن ابن عباس، وأقرَّ الذهبيُّ الحاكم على تصحيحه، وصحَّح (البُوصيري) في ((زوائد ابن ماجه)) إسناد الحديث عنده، وعزاه (السيوطي) في ((الجامع الصغير)) (ح7361) لابن ماجه والحاكم، ورَمَز لضعفه، وصحَّحه (ا لألباني) في ((صحيح الجامع))(ح5200). وليس لي حول هذا الحديث بحث مطول، والله أعلم.

هذا ما استطعت أن أُلَخِّصَه من كلام المفسرين في المسألة. وإذا أردت المزيد من الاطلاع على أقوال الأئمة في الذَّبِّ عن نبي الله داود عليه السلام، وإنكار قصة أوريا من أساسها، وإلصاق التهمة باليهود في افترائها، والتشنيع على من يرددها، فانظر:

((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (لأبي محمد ابن حزم) (4/ 14، 15)، و((أحكام القرآن)) للقاضي (أبي بكر ابن العربي) المالكي (4/ 1630- 1639)، و((الشفا)) للقاضي (عياض) (2/ 144، 145)، و((مفاتيح الغيب)) (للفخر الرازي) (26/ 189- 199)، و((الانتصاف من الكشاف)) (لابن المنير السَّكَندري) بحاشية ((الكشاف))(4/ 88، 89)، و((تفسير الخازن)) (4/ 34-37)، و((البحر المحيط)) (لأبي حيان الأندلسي) (9/ 146-151)، فهؤلاء بعض من سبقوا المصنف.

وممن لَحِِقوه: الحافظُ (ابن كثير) في ((تفسيره)) (4/ 31)، و((البداية والنهاية)) (2/ 16)، و(البُرهان البِِقاعي) في ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) (16/ 355 – 365)، و(الشنقيطي) في ((أضواء البيان)) (7/ 24).

وقد تميز أسلوب المصنف هنا عن غيره في تناول القصة كما سيظهر من مُطالعة الرسالة، وعَبَّر هو عن ذلك في مَطْلعها، نسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الرسالة، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع قريب.

ترجمة المُصَنِّف مُختصرة وتوثيق نسبة الرسالة إليه
هو الإمام، تقي الدين، أبو الحسن، علي بن عبد الكافي بن علي، السُّبكي، الشافعي، المفسر، الحافظ، الأصولي، اللغوي، النحوي، المقرئ، الجَدَلي، الخِلافي، النَّظَّار، البارع، المجتهد.

وُلد رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وقرأ القرآن على التَّقي ابن الصَّائغ، والتفسير على العَلَم العراقي، والفقه على ابن الرِّفْعَة، والأصول على العلاء الباجي، والنحو على أبي حيان، والحديث على الشرف الدِّمياطي، ورحل، وسمع من غير واحد، وأجاز له غير واحد، ممن يجمعهم مُعجمه، الذي خَرَّجه له ابنُ أيْبَك.

وبرع في الفنون، وتَخَرَّج به خلقٌ في أنواع العلوم، وأقرَّ له الفضلاء، وولي قضاء الشام بعد الجلال القزويني، فباشره بعفة ونزاهة، غير ملتفت إلى الأكابر والملوك، وولي مشيخة عدة مدارس، وكان محققًا، مدققًا، نظَّارًا، له في الفقه وغيره الاستنباطات الجليلة، والدقائق، والقواعد المحرَّرة، التي لم يُسبق إليها، وكان مُنصفًا في البحث، على قَدَمٍ من الصلاح، والعفاف، وصنف نحو مائة وخمسين كتابًا، مُطولاً، ومختصرًا، وأنجب أولادًا أعلامًا.

وتُوفي بمصر، بعد أن قدم إليها من الشام، وسأل أن يُولَّى القضاء مكانه ابنُه تاج الدين، فأُجيب إلى ذلك، وكانت وفاته سنة ست وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى، وغفر له.

وقد كان بينه وبين شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم تلاميذه من بعده مُناظرات، وردود لا تخفى على طلبة العلم إن شاء الله، وكان منها ما هو بسبب الاعتقاد، ومنها ما يتعلق ببعض الفِقهيات، لكنه كان شديد التوقير لشيخ الإسلام؛ لغزارة علمه، وشدة زهده.

ولمعرفة المزيد عن المصنف، انظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) لابنه (تاج الدين)(10/ 139- 339)، و((طبقات الشافعية)) ( لابن قاضي شُهبة) (3/ 37 – 42)، و((الدُّرر الكامنة)) لابن حجر العسقلاني (3/ 63 – 71)، و((شذرات الذهب)) (6/ 180، 181)، و((الصارم المُنْكِي في الرد على السبكي)) (لابن عبد الهادي)، رحمهم الله جميعًا.

والرسالة التي بين أيدينا ذكرها ابنه (تاج الدين) في ((الطبقات)) (10/ 311)، و(حاجي خليفة) في ((كشف الظنون)) (2/ 1364) باسم “القول المحمود في تنزيه داود عليه السلام” كما هو مُثبت على الغُلاف، لكن في النسخة التي اعتمدتُ عليها في نشر الكتاب – وهي النسخة المطبوعة بالمطبعة الدُّخَانية بمُلتان بالهند سنة 1340 ه- – “القول المحمود في تبرئة داود عليه السلام”.

ومن المعلوم أن الخَلْط بين كلمتي تبرئة وتنزيه واردٌ جدًا؛ لاتفاقهما في الرسم، واختلافهما في النَّقْط والهَمْز، و قد أشرتُ إلى هذا فيما عَلَّقْتُه على ” تسفيه الغبي في تنزيه ابن عربي” للعلامة إبراهيم الحلبي الحنفي، يَسَّر الله تعالى إتمامه، ونفع به.

والرسالة مطبوعة ضمن مجموع يشمل: مسند عمر بن عبد العزيز للبَاغَنْدِي، ورسالة المُسَارعة إلى المُصَارعة للسُّيوطي، وتقع رسالة القول المحمود في الصفحة الأخيرة من المجموع، ولم يتيسر لي العثور على نسخة مخطوطة لها، فاكتفيت بالمطبوعة؛ لجودتها، نسأل الله أن ينفع بها.

الحمدلله رب العالمين

تكلم الناس في قصة داود عليه السلام، وأكثروا، وذلك مشهور جدًا، وذكروا أمورًا، منها ما هو منكرٌ جدًا عند العلماء، ومنها ما ارتضاه بعضهم، وهو عندي مُنْكر. وتأمَّلْتُ القرآن، فظهر لي فيه وجهٌ خلاف ذلك كله؛ فإني نظرت قوله تعالى: ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِك ﴾ [ص: 25]، فوجدته يقتضي أن المغفور في الآية، فطلبته، فوجدته أحد ثلاثة أمور: إما ظَنُّه، وإما اشتغاله بالحكم عن العبادة، وإما اشتغاله بالعبادة عن الحكم، كما أشعر به قوله: ﴿ الْمِحْرَابَ ﴾[ص: 21][1]، ذلك أنه صَحَّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، أن داود أعبد البشر [2]، فكان داود ذلك اليوم انقطع في المحراب للعبادة الخاصة بينه وبين الله، فجاءت الخصوم، ولم يجدوا له طريقًا، فتَسَوَّرُوا إليه[3]، وليسوا بملائكة، ولا ضُرِبَ بهم مَثَلٌ، إنما هم قومٌ تخاصموا في النِّعاج على ظاهر الآية[4]، فلما وصلوا إليه، حكم بينهم، ثم في شدة خوفه، وكثرة عبادته، خاف أن يكون الله تعالى قد امتحنه بذلك، إما لاشتغاله بالعبادة عن الحكم ذلك اليوم، وإما لاشتغاله بالحكم عن العبادة تلك اللحظة، فظن أن الله تعالى فتنه، أي امتحنه، واختبره، هل يترك الحكم للعبادة؟ أوالعبادة للحكم؟ فاستغفر ربه. فاستغفاره لأحد هذين الأمرين المَظْنُونَين؛ ليجيء تَعَلُّق الظن بأحدهما، قال الله تعالى: ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ [ص: 25]. فاحتمل المغفور أحد هذين الأمرين. واحتمل ثالثًا، وهو ظنه أن يكون الله لم يُرد فتنته، وإنما أراد إظهار كرامته، وانظر قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب ﴾ [ص:25] كيف يقتضي رِفعة قَدْرِه؟ وقوله: ﴿ يَا داودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ﴾ [ص: 26] يقتضي ذلك، ويقتضي ترجيح الحكم على العبادة. وعلى أي وجهٍ من الأوجه الثلاثة حَمَلْتَه، حَصَل تبرئة داود عليه السلام مما يقوله القُصَّاص[5]، وكثير من الفضلاء.

ومناسبة ذِكر الله تعالى قصته في سورة ” ص”[6]: أنهم لما قالوا ﴿ أَأُنزِل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ [ص: 8] كان في ذلك الكلام إشعار بهَضْم جانبه، فغَارَ اللهُ لذلك، وبَيَّن أنهم ليس عندهم خزائن رحمته، ولا لهم مُلك، وأنهم جُندٌ مهزومون، وكأنه يقول: وما قَدْرُ هؤلاء؟ ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون ﴾ [ص: 17]، واذكر من آتيناه الدنيا والآخرة، وهو أخوك، وأنت عندنا أرفع رتبة منه، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من وجهين، أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يفرح لإخوته الأنبياء بما يَحْصُلُ لهم من الخير، كما لو حَصَل لنفسه، سواءً بسواءٍ، وأكثر، والثاني: أنه يعلم أن رُتْبَتَه عند الله أكمل.

وإذا ذَكَر هذين الأمرين، احتقر قريشًا فيه، وعلم أن الذي أُوتوه، وافتخروا به، لا شيء، فهذا وجه المناسبة، خلاف ما قاله الزمخشري، مما لا حاجة بنا إلى ذِكره[7]. ثم استطرد، فذكر قصة داود، ووَصَفَه بقوله: ﴿ ذا الأَيْدِ ﴾ [ص: 17]، لأن الصبر يحتاج إلى أَيْدٍ، وهو القوة[8]، والله أعلم.

وهذا آخر ما تيسر من التعليق على هذه الرسالة الكريمة المَرْجُو نَفْعُها إن شاء الله تعالى.

خَطَّه بيمينه: أفقر العباد إلى رحمة الله تعالى، و عفوه

ومغفرته: حسام الحفناوي جَمَّل الله تعالى

أحواله في الدَّارين

آمين

تم

——————————————————————————–

[1] قال ابن عطية في المُحَرَّر الوجيز (4/ 498): المحراب: الموضع الأرفع من القصر، أو المسجد، وهو موضع التَّعَبُّد، وقال الرَّاغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن (مادة: حرب): محراب المسجد، قيل: سُمِّي بذلك؛ لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سُمِّي بذلك؛ لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبًا – أي سليبًا – من أشغال الدنيا، ومن تَوَزُّع الخاطر، وقيل: الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس، ثم اتُّخِذت المساجد، فسُمِّي صَدْرُه بهن، وقيل: بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خُصَّ به صدرُ المجلس، فسُمِّي صدرُ البيت محرابًا؛ تشبيهًا بمحراب المسجد، وكأن هذا أصح، قال عز وجل: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ [سبأ:13]، وقال الشِّهاب الخَفَاجِي – كما في روح المعاني (23/ 178) -: المحراب: الغرفة، وهي العَلِيَّة، ومحراب المسجد مأخوذٌ منه؛ لانفصاله عمَّا عَدَاه، أو لشَرَفِه المُنَزَّل مَنْزِلة عُلوه. وانظر: الزمخشري (4/ 82)، والنهاية لابن الأثير، وكذا لسان العرب لابن منظور،والقاموس المحيط (مادة:حرب)، والتحرير والتنوير (22/ 160، 161)، وفيه بحثٌ جيِّد عن مَبدأ حُدوثه. وقد صَنَّف الجَلال السُّيوطي رسالة بعُنوان “إرشاد الأَريب إلى حُدُوث بِدعة المحاريب” صرَّح فيها أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم، لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

[2] ثبت في صحيح مسلم (ح1159/ 182) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن داود عليه السلام: “كان أَعْبَد النَّاس”، و في الحديث قصة، وعزاه في الكنز (8417) لأبي يعلى في مسنده من حديثه أيضًا باللفظ المذكور في المتن، و فيه القصة التي في صحيح مسلم، وليس في المطبوع من مسند أبي يعلى مسند عبد الله بن عمرو، وكذا لم أقف عليه في مجمع الزوائد.

وأخرجه الترمذي (3624)، والحاكم (2/ 47)، وغيرهما من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا باللفظ المذكور أعلاه، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وردَّه الذهبيُّ في تلخيص المستدرك، بأن فيه عبد الله ابن يزيد الدمشقي، قال: قال أحمد: أحاديثه موضوعة، والذي في تهذيب الكمال (14/ 489 – 491)، وتهذيب التهذيب (5/ 182) أن البخاري فرَّق بين عبد الله بن يزيد بن ربيعة، وقيل: عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي، الذي يروي عن أبي إدريس الخولاني، ويروي عنه محمد بن سعد الأنصاري، وبين عبد الله بن يزيد الدمشقي، الذي يروي عن عطية بن قيس، ويروي عنه عبد الله بن عقيل، و جمع ابن عساكر بينهما، وصَوَّب المِزِّيُ قولَ البخاري، أما الذهبي، فإنه قال في الميزان (2/ 256) في ترجمة عبد الله ابن يزيد الدمشقي الأخير: أَحْسَبُه الآتي، يعني عبد الله بن يزيد بن آدم الدمشقي، وهذا الأخير هو الذي قال فيه الإمام أحمد ذلك القول المذكور في تلخيص المستدرك، فقوله في التلخيص مَبْنِي على قوله هنا، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب (1 / 414) في ترجمة الأول: مجهول، وفي ترجمة الثاني (1/ 462): ضعيف، ثم ذكر أنه قيل: هما واحد. أما عبد الله بن يزيد بن آدم، فليست له رواية – ولله الحمد – في الكتب الستة. وقد حَسَّن الشيخُ الألبانيُ حديثَ أبي الدرداء في صحيح الجامع (ح4453)، وله رحمه الله تعالى بحثٌ في السلسلة الصحيحة (ح707) حول الحديث. وقد حَمَل بعضُ أهل العلم وصفَ النبي صلى الله عليه وسلم لداود عليه السلام بأنه أعبد البشر على أن المقصود بهذا في زمانه عليه السلام، لا على الإطلاق. وعلى كل حالٍ؛ فإنه لا يلزم من الأَعْبَدية الأفْضَلية.

[3] التَّسَوُّر: تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌ من السُّور، وهو الجدار المحيط بمكانٍ، أو بلد، يقال: تَسَوَّر: إذا اعتلى على السُّور، ونظيرُه قولهم: تَسَنَّم جَمَلَه، إذا علا سِنامَه، وقريبٌ منه في الاشتقاق قولهم: صَاهَى: إذا ركب صَهْوَة فرسه، والمعنى: أن بيت عبادة داود – محرابه – كان محوطًا بسُور؛ لئلا يدخله أحدٌ إلا بإذن من حارس السُّور. كذا في التحرير والتنوير (23/ 232). وانظر للمزيد: المحرر الوجيز (4/ 498)، والكشاف (4/ 82)، و(مادة: سور) من مفردات ألفاظ القرآن، والنهاية في غريب الحديث، ولسان العرب، والقاموس المحيط، وروح المعاني (23/ 178).

[4] عبارة الجَصَّاص في أحكام القرآن له (3/ 499) تفيد أنه يقطع بكونهم من الملائكة. وقد قطع بهذا غيرُ واحد، منهم: أبو بكر ابن العربي المالكي في أحكام القرآن له، واسْتَحْسَن هذا القولَ الثعلبيُ. قال القرطبي (15/ 112): وعلى هذا أكثر أهل التأويل، انتهى. بل ادَّعى أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (6/ 94)، وابن عطية في المحرر الوجيز (4/ 498) أنه لا خلاف بين أهل التأويل في كونهم ملائكة. وقد ذهب غير واحد إلى كونهم من الإنس، منهم: أبو محمد ابن حزم في الفصل (4/ 14)، وأنكر على القائلين بكونهم من الملائكة إنكارًا شديدًا، والنَّقَّاش، كما في القرطبي (15/ 109)، والفخر الرازي (26/ 194، 195)، وناقش أدلة الفريقين مفصلًا، وأبو حيان في البحر (9/ 151).

[5] جنايةُ كثيرٍ من القُصَّاص – وهم الوُّعَّاظ والمُذَكِّرون – على الأمة الإسلامية عظيمة، إذ أشاعوا بين المسلمين كثيرًا من الأحاديث والأخبار التي لا أصل لها، بحُجَّة حَضِّ الناس على الخير، وبعضهم لم يكن يتَعَمَّد التحديث بالموضوعات والأباطيل، ولكنه من الزُّهاد الذين غلب زُهْدُهم على تَثَبُّتِهم في الرواية، فيُؤتى من قِبَل الوهم والخطأ، ولا يكاد يَسْلَم من ذلك منهم سوى من كان من أهل العلم، كثابت البُناني رحمه الله تعالى، وهو من أثبت الناس في أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد صنف غير واحد من العلماء في التحذير من أخبار القصاص التالفة، فمنها: أحاديث القصاص لابن تيمية، والباعث على الخلاص من أحاديث القصاص للحافظ العراقي، وتحذير الخَوَاص من أحاديث القصاص للسيوطي، وثلاثتها مطبوعة، ولله الحمد. وقد أنشد أبو حيان في البحر (9/ 151) قول الشاعر:

ونُؤْثِرُ حُكم العقل في كل شُبهة ♦♦♦ إذا آثر الأخبارَ جُلَّاسُ قُصَّاص

[6] لمعرفة مناسبة الآيات لما قبلها وما بعدها، انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبرهان البقاعي (16/ 355-365)، وما قبلها، وما بعدها؛ فإنه متخصص في هذا الباب.

[7] قال في الكشاف (4/ 77): فإن قلت: كيف تُطابق قوله: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ﴾ [ص:17]، وقوله: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [ص: 17]، حتى عطف أحدَهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [ص: 17]، وعَظِّم أمر معصية الله في أَعْيُنهم بذكر قصة داود، و هو نبي من أنبياء الله تعالى، قد أَوْلاه ما أَوْلاه من النُّبوة، والمُلك؛ لكرامته عليه، وزُلْفَته لديه، ثم زَلَّ زَلَّةً، فبعث إليه الملائكة، ووَبَّخَه عليها، على طريق التمثيل والتعريض، إلى أن قال: أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون، وصُنْ نَفْسَك، وحافظ عليها أن تَزِلَّ فيما كُلِّفْتَ، من مُصابرتهم، وتَحَمُّل أذاهم، واذكر أخاك داود، وكرامته على الله، كيف زَلَّ تلك الزَّلَّة اليسيرة، فلقي من توبيخ الله، وتَظْليمه، ونسبته إلى البَغْي ما لقي، انتهى. وقد ذكرنا في المقدمة ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير الآية، فبنى عليه ما نقلناه عنه هنا من التناسب.

[8] أي القوة في الدين والعبادة، وقد مَرَّ أن داود عليه السلام كان أعبد الناس، وليست أَيْدٍ هنا بجَمْعٍ ليَدٍ، كما قد يُظن، لأن جمع يَدٍ أيادٍ، وليس أَيْدٍ. ونَظيرُ هذا قوله تعالى: ﴿ والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون ﴾ [الذاريات:47]. وتفسير الآية على هذا المعنى مَرْوِي عن ابن عباس، وقتادة، وغير واحد، فلا حُجَّة لمُعَطِّلٍ في الاحتجاج بهذه الآية على تأويل صفات الرب تعالى، قال أبو بكر الرازي في مختار الصّحَاح (مادة: يدي) تعليقًا على قول الجوهري في الصحاح: واليَدُ القوة، وأَيَّدَه قوَّاه، وما ليَ بفلانٍ يَدَان: أي طاقة، وقال الله تعالى ﴿ والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ [الذاريات:47] قلت – القائل الرازي -: قوله تعالى: ﴿ بِأَيْدٍ ﴾ أي بقوة، وهو مصدر آدَ يئيد، إذا قَوِي، وليس جمعًا ليدٍ ليُذكر هنا، بل بِأَيْد موضعه باب الدال، وقد نصَّ الأزهري على هذه الآية في الأَيْدِ بمعنى المصدر، ولا أعرف أحدًا من أئمة اللغة أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جَمْعُ يَدٍ،انتهى. وانظر للمزيد: (مادة: أَيَدَ) مفردات ألفاظ القرآن، واللسان، وأضواء البيان للشِّنقيطي (7/ 669)، والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (ص109،108)، وفيه تفصيلٌ قوي وللشيخ المَراغي رسالةٌ في هذا المعنى، منها نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تقع في نحو ثلاث ورقات.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/40164/#ixzz6DOmbcMnt