الحمد لله، ﴿ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4]، أحمده سبحانه وأشكره: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142], وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي الأمين والبشير النذير والسراج المنير, أرسله الله رحمةً للعالمين وهدايةً للناس أجمعين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فاتّقوا اللهَ – عبادَ الله – حقَّ التقوى، فمنِ اتَّقى ربَّه نجا، ومن اتّبَع هواه غوَى.
معاشر المسلمين والمسلمات: أسبَغ الله على عبادِه مِننًا جليلةً، وأعظمُ النِّعم وأعزُّها نعمةُ الهداية لهذا الدّين، وبفضل الله اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ ضالّون، قال سبحانه: ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ [الأعراف: 30]، والهدايةُ مِنحةٌ منَ الكريم لا تُسدَى لكلِّ أحَد، ولا تتحقّق بالآمالِ والأماني، وقد تتخلّف مع وجودِ أسبابها، ﴿ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 17].
ولا نجاةَ من العذابِ ولا وصولَ إلى السعادةِ إلا بها، وهي أجلُّ نِعمِ الله الواجِب شكرُها، قال جلّ جلاله: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]. ولعِظَم شأن الهداية لم يخلُ قومٌ من هادٍ ونذير وداعٍ إليها، قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 7].
ولا شك – عباد الله – أن الهداية هدفٌ ينشده كل مسلم، مع تفاوت الناس في الطلب وصدق العزيمة وإلى كل راغب في الهداية ومتحرٍ لأسبابها إلى كل متطلع للجنان العالية، عاشق لحورها ومؤمل في نعيمها، ومستجير من النار وفار من زمهريرها وسائر عذابها، أسوق بعض الأسباب والعوامل المعينة بإذن الله على الهداية:
توحيد رب العالمين وإفراده بالعبادة أعظم أبوابها قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]. فمفتاح شرح الصدر للإسلام التوحيد الذي لا يخالطه أدنى شك أو شرك مع الله، وإذا كان الهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر فإن الشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وحرجه. قال ابنُ عباس -رضي الله عنه- ما: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125]: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به. فحققوا التوحيد وعمقوا الإيمان.
وكتابُ ربِّ العالمين منارُ الهدى والصلاح: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، والمداومةُ على تلاوتِه وتدبر معانيه حفظٌ بإذن الله من الشّرور والفِتن وحصنٌ من الشّبهات والشهوات قال عليه الصلاة والسلام: ” تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ” رواه مالك والحاكم بسند حسن. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].
والدعاء سببٌ مهم من أسباب الهداية وهو سلاح المؤمن في الشدائد والقمة الكبرى بلا جهد ولا ثمن قال جل وعلا في الحديث القدسي: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ). فلابد لمريد الهداية والثبات من الاستعانة بالله عز وجل والرغب إليه وسؤاله الهداية والصلاح لأن فتحَ قلوبِ العباد بيَد الله وحدَه، لا للخلقِ منها شيءٌ سوى بذل الأسباب، ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
والهداية من الله وتطلب من الله وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعمق هذا المعنى وهو ينقل التراب في الخندق وقد واري التراب بطنه وهو يقول: ” لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فانزل السكنية علينا وثبت الاقدام إن لاقينا إن الأولى بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ” رواه البخاري.
ورأسُ الأدعية وأفضلُها الدعاءُ بالهدايةِ، فإنه يجمع صلاحَ العبدِ في الدين والدنيا والآخرة. وأُمِر المسلم بأن يدعوَ ربَّه في كلّ صلاةٍ بأن يمنحَه الهداية ويثبته عليها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ” أنفعُ الدعاءِ وأعظمهُ وأحكمُه دعاءُ الفاتحةِ ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]؛ لأنَّ العبدَ إلى الهُدى أحوجُ منه إلى الأكل والشرب “.
وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يأمر أصحابَه بالدّعاء بالهدايةِ، يقول عليّ – رضي الله عنه -: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قل: (اللهمّ اهدني وسدِّدني) رواه مسلم, وقال لمعاويةَ – رضي الله عنه -: (اللهمّ اجعله هاديًا مهديًّا واهدِ به) رواه الترمذي، ومن دعائه – صلى الله عليه وسلم -: (اللهمّ اهدني ويسِّر الهدَى لي) رواه الترمذي.
وطلبُ الثباتِ على الدين من أخصِّ أدعيةِ الصالحين ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. ولا سبيلَ إلى الجنّة إلا بسلوكِ طريق الهدايةِ ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 43].
ومن أسباب الهداية رفقة الصالحين والأخيار وحسنِ اختيار الأقران، فكم من ضال هداه الله على أيدي الصالحين الأخيار، وكم من فاجر وتائه شاء الله له الهداية على أيدي أقران ما زالوا به حتى سلكوا به طريق النجاة، وإذا كان المرء لا بد له في هذه الحياة من خليل فلينظر أحدكم من يخالل؛ فإن المرء على دين خليله..
الجليسُ الصالح – معشر الصالحين – خيرُ عونٍ للهدايةِ، يذكِّرك إذا نسيتَ، ويعينك إذا غفلتَ، لا تسمعُ منه إلاّ قولاً طيّبًا وفِعلاً حسنًا.
الصُّحبةُ الصالحةُ عبادةٌ ممزوجة بالمتعَةِ والأنس، تزداد بالإيمانِ والنُّصح، حقيقتُها جسَدٌ واحدٌ تتعدّد فيه القلوب، وفي الحديث: (المؤمِنون كرَجلٍ واحد) رواه مسلم، وللجليس تأثيرٌ على الدين والسلوكِ والآداب والأخلاق، والمرءُ يعرَف بجليسِه.
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
قرينُ السوءِ يدعوك إلى البُعدِ عن الطاعات، ويزيِّن لك السيئاتِ، قريبٌ منك في السّرّاء، بعيدٌ عنك في الضرّاء، لا للمعالي يُعليك، ولا عن الدنايَا يجافيك، لذا شبّهه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بنافخِ الكير الذي ينالك أذَاه على كلِّ حال.
صحبتُه حَسرةٌ في الدنيا وندامةٌ في الآخرة، قال جلّ وعلا: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 – 29].
دع الكذوب فلا يكن لك صاحبا إن الكذوب يشين حراً يصحبُ يسقيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
وحضورُ مجالسِ العلماءِ من مواطِن الهداية، في عِلمهم وتعليمهم زيادةُ إيمان، وعلى وجوههم سمتُ الصالحين، وعلى جوارِحهم أمارةُ نقاءِ السريرَة، مجالسُهم تذكيرٌ بسِيَر الأفذاذ من الأسلاف وشَحذٌ دائم للهِمَم إلى الآخرة، في مجالسَتِهم خيراتٌ متناثِرة وثمراتٌ يانعة، فكُن أقربَ الناس إليهم، يقول ميمون بن مهران رحمه الله: ” وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماء”.
وتطهيرُ القلبِ من أدرانِ القوادح والحِفاظ عليه من تلويثِه بالشبهاتِ أو تدنيسِه بوَحل الشّهوات مِن أسباب الهداية، والشبهةُ إذا وَردت على القلب ثقُل استئصالُها وثَنتِ العبدَ عن القُرب من الربِّ.
والتطلُّعُ إلى المنكرات والشهوات في المرئيّات والسّمعيات يُظلِم القلبَ بكثرةِ العِصيان، ومن تعرّض للشبهاتِ والشهوات ثم طلبَ إصلاحَ القلب رام مُمتنِعًا، ورُبَّ عثرةٍ أهلكت، ورُبَّ فارِطٍ لا يُستدَرك، وفي زمن تنزُّل الوحيِ وملازمة الصحابةِ للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان عليه الصلاة والسلام يخشى عليهم من الفِتن، وينهاهم عن القُرب منها.
والنفسُ طامعةٌ إذا أطمَعتَها، منتهيةٌ إذا نهيتها، فألجِمها بلجامِ الأوامر والنواهي، وابتعِد عن أسبابِ الفِتَن وموارِدها، فإنّ المقاربةَ منها مِحنةٌ لا يكادُ صاحبها ينجو منها، ومن حام حولَ الحِمى يوشِك أن يقعَ فيه.
ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
والسلامة لا يعدلها شيء, والانتصارُ على الشهوات تاجٌ على الهام، ودرءُ الشبهاتِ وقارٌ يعلو النفسَ، وصَونُ الجوارحِ عن المعاصي ثباتٌ بإذنِ الله على الهداية، والاستسلام للهَوى والفراغِ القاتل من مداخلِ الشيطان للغوايةِ، والسّعيد من استبق الخيراتِ، ونأى بنفسه عمّا يضرُّه ولا ينفعه، وعمِل بوصيّة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: (احرِص على ما ينفعُك، واستعِن بالله، ولا تعجَز) رواه مسلم، وعمارةُ الوقتِ ببرِّ الوالدَين وصِلةِ الرحم والصلاة والذكر وقراءة القرآن والأعمال الصالحة الإيجابية النافعة وقضاء حوائج المسلمين وكل ذلك عبادة وطاعة وأنس وسعادة.
والمعصية تورِد صاحبَها المهالك، والذي يفوتُ بارتكاب الخطيئةِ مِن خَيرَيِ الدّنيا والآخرة أضعافُ ما يحصُل له من السّرور واللّذة قال معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: أوصاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعشر كلماتٍ، وذكر منها: ” إياك والمعصية فإن بالمعصية حل سخط الله عز وجل “. رواه الإمام أحمد.
والإكثارُ من الطاعات مِن وسائل الثّبات على الدين ومن أسبابِ حفظِ الله لعبدِه، يقول عليه الصلاة والسلام:( احفَظ الله يحفَظك) وكان أفاضِلُ البشَر هم القدوةُ في التعبُّد والطاعة، قال سبحانه عن خليه إبراهيمَ عليه السلام: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]. وكان خليل الله محمد – صلى الله عليه وسلم – كثير التعبد يقوم الليل حتى تتفطر وترم قدماه.
وزيارةُ المقابر للعِظةِ والعبرة سنّةٌ قائمة تذكِّر بالآخرة، وتعين على الاستقامةِ على أمر الله والبُعدِ عن المعاصي وعن الاغترارِ بالأمل، يقول عليه الصلاة والسلام: (زوروا المقابرَ فإنها تذكِّركم الآخرة) رواه الترمذي. ومن جَعل الموتَ بين ناظِرَيه صلَحت أحواله.
والقلوبُ بين أصبعَين من أصابعِ الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، ولا شيءَ من الأسبابِ أنفَع ولا أبلَغ من الدعاءِ في حصول المطلوبِ، فتضرّع إلى ربِّك في يومِك وليلتك بأن يجعلَك من عباده الصالحين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [يونس: 108].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى، وسمع الله لمن دعا وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، سُنّةُ الله في هذه الحياة ابتلاءُ مَن تمسّك بهذا الدّين لتمحيص الصادِق في الاستقامة، قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3].
ولقد سخِر الكفار من الرسل، قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10]، وكلُّ رسولٍ يُبعَث يُبهَت بالسِّحر ويُرمى بالجنون، ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52]، وصحابةُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سَخِر منهم الكفار والمنافقون وأهل الكتاب، ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطففين: 30]، فمن استهزأ باستقامَتك واهتدائك فتلك منقبةٌ لك، رُمِيتَ بما رُميَ به خيرُ البشَر، وتلك ورب البيت بُشرَى صدقٍ في الاستقامة، فلا تحزن فإنّ دافعَ الساخِر الهوَى أو الجهل، ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14].
والساخرُ في عُمقِ نفسه يتمنَّى الهدايةَ، ولكنّه لا يملكها، قال سبحانه عن أهل الضلال: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2]، ومن سخِر منك فتحلَّ بما اتّصف به الرسل والأنبياءُ من الصبر والحلم، ولا تُحبِط عملك بالجزَع أو الهلَع، والزَم جانبَ العفوِ والأناة والإعراض عمّن آذاك، قال جلّ وعلا: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].
وإذا رأيتَ أهلَ الباطل والعصيان وهم الأكثر عددًا في الأرض فلا يُثنِيك ذلك عن التمسُّك بهذا الدّين، فسنّة الله قضَت أنّ أهلَ الفسوق والمعاصِي هم أكثر عددًا ممّن يطيع الرحمن، قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49]، وانظر إلى الحقِّ ولا تنظُر إلى العدد، فالله وصَف إبراهيم عليه السلام بأنه أمّةٌ وهو وحدَه: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120]، يقول الفضيلُ بن عياض رحمه الله: ” لا تستوحِش من الحقِّ لقلّةِ السّالكين، ولا تغترَّ بالباطِل لكثرة الهالكين”.
ومِنّةُ الله عليك بالصّلاح مع ضلالِ كثير من الخلق ممّا يزيدك هدايةً في نفسِك ويحمِلُك على دعوة غيرك إلى الطريق المستَقيم. قال – صلى الله عليه وسلم -:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم.
والموفَّق من استنارَ بنور الهداية، ودعا صاحِبَ خطيئةٍ إلى التوبة، وخفض جناحَه لمن ابتُلي بمعصيةٍ بدعوته بحكمةٍ ولين ورويّة.
وأسعدُ الخلق هم أهل الهداية، وأوّل الخير الهدَى، ومنتهاه الرحمةُ والرضوان، ومَن عرف الحقَّ واتّبعه فقد هدِي إلى صراطٍ مستقيم، وجُلِبت له السعادة والرزقُ والسرور، ومن تمسَّك بنور الهداية زادَه الله نورًا، ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76]، وأعلم عبدالله أن منزلتك في الآخرةِ مبنيّة على هذه اللحَظات التي تعيشها، ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39]، ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [الروم: 44]، والسعيد من قدّم لنفسِه صالحًا.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ُ ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم تنزيله: ﴿ ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ﴾ [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة وعن بقية الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين من الكفرة والملحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم اهدِ شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اهدِ نساء المسلمين، اللهم اهدِ رجالَهم ونساءهم يا رب العالمين!
اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا وإياهم من الراشدين.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير، وخواتمه وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة، يا رب العالمين..