منذ سنواتٍ مضت، عَلِقتْ بنفسي رغبةٌ لم أستطع نسيانها، ولكن لم أجرؤ عليها إلا بعد طول تفكيرٍ وتردد، لا أدري ماذا سيكون انطباعكم – قرَّاء كلماتي – لو علمتم بتلك الرغبة، سأخبركم عنها، لكن ساعدوني.
أولاً حاولوا أن تعيشوا معي، وأن تنظروا بعيوني، سآخذكم في جولةٍ ربما لن تقوموا بها أبدًا، ولكن قد تعجبكم – أيضًا – تخيَّلوا معي – قرَّاء كلماتي – أنكم في وسط الجامعة، هل تسمعون أصوات الطلبة من حولكم؟ بعض السيارات النادرة تسير بين الجماعات بحذر، اليوم جميل معتدل، مستعدون لاستقبال أجمل الأحداث، انظروا من حولكم، وانظروا إلى الأرض، وإلى أقدامكم، ستبدؤون معي أُولى الخطوات إلى الكنيسة، وإلى جواركم أناسٌ سيرافقونكم إليها، لا تهم وجوههم، يكفي أنَّي رأيتها، وذلك يغنيكم عن رؤيتها، هل تشعرون بوجودهم؟ أخبروني بما تشعرون الآن، ربما بالخوف، لا يجب أن تغامروا بالذهاب إلى مثل تلك الأماكن دون أن تخبروا أحدًا، قد يعني ذلك ضياعكم دون رجعة!
والآن تخيلوا أنفسكم أمام باب الكنيسة، هل تشعرون أن من رافقوكم يشجعونكم على الدخول، لا بأس دخلت بدلاً عنكم، عيشوا معي، وأمهلوني قليلاً، هناك عددٌ كبير من الناس الذين جاؤوا لحضور القدَّاس، هناك نساء أجزم أنهن قد تجاوزن الخمسين، ويبدو من هيئة لباسهن أنهن جئن من إحدى القرى الجبليَّة، هناك – أيضًا – رجالٌ قد اشتعل الشيب في رؤوسهم، وأغلبية الحضور شباب وفتيات، في رأيكم ماذا سيحدث الآن؟ لن تصدقوا أبدًا! لكن ودون مزاح، سوف يغنُّون!
هناك على بعد ثلاثة صفوف، توجد فرقة الغناء التابعة للكنيسة، وهم يغنُّون، والحضور يرددون وراءهم، بدأت تظهر على ملامح بعض الأشخاص علامات فقدان الوعي، ينظرون إليكم – أو بالأحرى إلينا – ولا يروننا؛ إنهم في عالم آخر غير عالمنا، يسمون ذلك بالتحرُّر، وفي هذا المقام لا أعتقد أن للتسميات أهمية ما، الأهم ما نراه ونشعر به، وليس ما يقال لنا، أتعلمون؟ غناؤهم يستلزم تشبيك الأيادي، والاهتزاز، والبكاء، هل تسمعون الآن شيئًا ما في مخيلتكم؟ هل تشعرون بالأجواء الجديدة في داخلكم؟
أشم رائحة ما في الأجواء لا أعرفها ولا أفهمها! صوت الموسيقا مرتفع جدًّا، والآن أنصتوا معي لكلمة القسيس، هل تظنون أنه سيقول شيئًا ما ذا أهمية؟ في تلك المرَّة تحدَّث عن الإيمان النصراني، عن غلبة أعداء المسيح، وسعيهم الدائب لمحاربة أتباعه حيثما كانوا، والنصارى نائمون لا يفعلون شيئًا! (عكس المعلومة تمامًا)، في رأيكم من يحارب الله اليوم ومن النائم ؟! تحدَّث مطولاً عن الله، بالنسبة إليه، وإلى باقي الحضور، ليس هناك فرقٌ بين الله والمسيح، كلاهما واحد رغم اختلافهما! وهما بالإضافة إلى الروح القدس، يشكلون الذات الإلهيَّة الواحدة، فالثلاثة يساوون واحد، والواحد هو الثلاثة! لا تتعبوا رؤوسكم من أجل الفهم؛ فلن تفهموا ذلك أبدًا، فلا أحد قد فهم الفكرة من قبل!
المهم، الأجواء لم تكن أبدًا مريحةً، شعرتُ بالغثيان، وفي الرغبة في…! طلبت من إحدى المصاحبات لي بمرافقتي إلى دورة المياه، كل ما أكلته آنفًا قد قرَّر الانتحار هناك! جالت في ذاكرتي في تلك الأثناء صور المساجد التي كثيرًا ما دخلنا إليها للصلاة، أو لحضور الحلقات، ومصلى الحي الجامعي، والأخوات الحاضرات، لقد بدت الأمور أكثر وضوحًا، وشعرت بقرب أكبر من الله، عدت إلى مكاني في الصف، جلست، نظرت إلى من حولي، كانوا لا يزالون يغنون، وأيديهم متاشبكة، مدَّت إليَّ إحداهن يدها؛ لنغنِّي معًا، فاعتذرت، تخيَّلوا المشهد! فضَّلت الجلوس، وقراءة القرآن، الآن فهمت قليلاً معنى اسم (الله) الصبور، ما أعظم صبرك ربي! ما أحلمك!
عند نهاية القدَّاس، تأكدت تمامًا بأني لا أرغب بتاتًا بمعاودة التجربة، بكيت كثيرًا، ليس تأثُّرًا كما اعتقدت مرافقتي، وإنما كان مزيجًا من الشفقة والحزن.
يسمون أنفسهم خراف المسيح! ولا يشعرون أنهم فعلاً سائرون إلى المذبح، مثل الطفل الصغير السائر إلى النار وهو مبتهج، يتوق إلى لمسها، ولا يدري أنها ستحرقه، بل وستقتله!
بعد نهاية القداس، أُهدي إليَّ نسخة من العهد الجديد، لا أفهم ماذا يؤثر فيهم عند قراءته؟! قرأته مرارًا، صحيحٌ أنه توجد بعض الآيات التي قد تكون قد نجت من التحريف، نشعر بذلك من نبض القلب عند قراءتها، فقد احتفظت ببعض المعاني كوحدانية الله، ورسالة المسيح، لكن عدا هذا…فـ…دون تعليق!
المهم أرضيت فضولي بعد طول مقاومة، وربحت من التجربة زيادةً في القرب من الله، وحبًّا أكثر لديني، وبكنزٍ غالٍ أحتفظ به في قلبي، سأقابل به ربي ذات يوم، وكُلِّي امتنان للذي جعل الحياة تنبض بين الأموات!
ذكرتني بأول مرة ذهبت فيها إلى الكنيسة …خوف و رعب و رغبة شديدة بالبكاء …فضول قاتل و ندم ..أصوات تطبطب في أذني …دوران في رأسي ..أحسست بالغثيان
….