بشرية عيسى عليه السلام
(2)
وبهذا فعيسى عليه السلام نبيٌّ كبقية الأنبياء، بشَرٌ وابن بشر مثلهم، وهي أمه مريم الصدِّيقة، كانا يأكلان الطعام كما قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]، ومعجزاته إذًا – أو آيات اللَّه التي أجراها اللَّه على يديه – كبقية المعجزات أو الآيات التي أجراها اللَّه على يد الأنبياء والرسل، هي بإذن اللَّه وبأمره، لا تدخل لعيسى عليه السلام فيها كما حكى القرآن عنهم وعنه ذلك، فقال تعالى: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [إبراهيم: 10، 11]، وقال في جانب سليمان عليه السلام: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 36 – 39]، ﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12]، فالتسخير للريح هنا هو للَّه، وإن كان ذلك عند احتياج سليمان إليها، وأمره لها، وكذلك تسخير الجن وعملها بين يديه ليس إلا بإذن ربه.
وهذا هو ما جاء به القرآن في جانب عيسى عليه السلام، حيث يقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ … ﴾ [المائدة: 110]، وحيث يقول عيسى عليه السلام مخاطبًا بني إسرائيل: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ… ﴾ [آل عمران: 49].
فمعجزات اللَّه على يد عيسى عليه السلام مثلها كمثل المعجزات أو الآيات التي وردت على يد بقية الأنبياء، وهنا لا تفوُّق له عليهم، ولا تخصيص له بشيء دونهم، ولكن قد غاب عن النصارى ذلك، فخَصُّوا عيسى عليه السلام بما لم يخصه اللَّه به، معللين لهذا الاختصاص كونه وُلد من غير أب، وأن هذه ميزة ترفعه إلى درجة الألوهية، أو على درجة محمد صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء، وتأثَّر بهم في ذلك بعض المتصوفة من أمثال ابن عربي في فصوص الحكم، فردوا معجزاته إلى شيء كامن في نفسه وفي طريقة خلقه.
ومما يؤسف له أيضًا أن السيد محمد رشيد رضا – أحد الأئمة الأعلام في مطلع هذا العصر – قد وقع في كتابه (الوحي المحمدي) فيما وقع فيه النصارى، وما وقع فيه هذا المتصوف ابن عربي، فذهب إلى أنَّ معجزات السيد المسيح عيسى عليه السلام، كانت لقوة كامنة فيه اكتسبها من طبيعة خلقته، وهي النفخ بالروح الإلهي، على ما أشار لذلك القرآن الكريم، فصار النفخ الذي كان أصلاً في خلقه هو القوة التي تظهر آثارها دائمًا بإذن اللَّه متى شاء عيسى استخدامها، فكان إحياؤه للطير بسبب نفخه، تلك الخاصية التي اكتسبها من أصل خلقه، وكذلك إحياء الميِّت… إلخ.
ويجعل معجزاته أعظم من معجزات بقية الأنبياء لذلك السنن الروحاني المطرد الذي تميَّز به على بقية الأنبياء، والذي منحه اللَّه إياه بآية منه، وأن هذا هو وجه الآية في عيسى عليه السلام، التي يشير إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: 50].
فهذا هو وجه اشتباه السيد رشيد رضا في عيسى عليه السلام، وفي تعليل معجزاته بذلك التعليل الذي خصَّه فيه بشيء دون بقية الأنبياء.
وقد بينت المقالة السابقة حقيقة النفخ بالنسبة لخلق عيسى عليه السلام، وأنه في ذلك كبقية البشر أنبياء وغير أنبياء، أما الآية التي يقصدها القرآن الكريم في مريم وعيسى عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: 50]، فهي فقط في أنه خُلق من غير أب، كما خُلق آدم من تراب ومن غير أب ولا أم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني: “الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل”، وفي موضع آخر يقول: “تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقًا من غير أب كآدم”.
فهذا وجه الآية فيه، كما أن وجه الآية في أمه أنها ولدته دون زوج، فقد اشتركت معه في كونه آية، فليست الآية فيه “التأثير في المادة فيشفي المرضى، أو يوجه سيال روحه القوي إلى جثة الميت” كما يقول السيد رشيد رضا “الوحي المحمدي ص 177، 178″، وإلا كان القرآن يجعل الآية في أمه أيضًا إحياء الموتى وإبراء الأكمه، كما جعلها بالنسبة له عليه السلام.
ومن ناحية أخرى، فإن إحياء الميت ليس آية خاصة بعيسى عليه السلام؛ فقد وجد آية للأنبياء من قبله، فوجدنا الإحياء عند موسى عليه السلام؛ كما في قصة البقرة والقتيل، التي وردت في سورة البقرة، وفي نهايتها جاء قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73].
وكذلك وجدناه عند العزير نبي اللَّه؛ حيث جاء قوله تعالى في سورة البقرة أيضًا: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259] وما قبلها.
ووجدنا إحياء الموتى آية أيضًا لإبراهيم عليه السلام؛ حيث ورد في القرآن الكريم حكاية ذلك: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، فليست الآية في عيسى عليه السلام، هي ما جرى على يديه من إحياء الموتى أو خلق الطير بإذن اللَّه؛ وإنما الآية فيه كما تقدَّم أنه خُلق من غير أب، فهو في نفسه معجزة خاصة من معجزات اللَّه سبحانه، أو آية خاصة من آيات اللَّه وشيء خارق للعادة؛ لأنه لم يولد من أب كبقية الخَلق، وإنما ولد من أم فقط، كما أن النفخ في مريم ليس خاصًّا بخلق عيسى عليه السلام، ولكنه في الواقع هبة الحياة والوجود والخلق من اللَّه للناس أجمعين، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿ كُنْ ﴾ في قوله: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، وهو الكلمة أيضًا كما تقدم.
فروحه عليه السلام ليست إلا كبقية الأرواح البشرية الأخرى، وليس إلا رسولاً كبقية الرسل؛ ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [المائدة: 75]، ومعجزاته كمعجزاتهم؛ لم تَجْرِ على يديه إلا بإذن اللَّه، كما قال: ﴿ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49].
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/90489/#ixzz61fljlisO